أدب وفن

قراءة تحليلية في قصيدة د. حسن علي شرارة “تموزُ شهرٌ للوفاءِ جميلُ” بقلم د. عبير سلامة

الدكتورة عبير سلامة

تحليل قصيدة تمّوز شهر للوفاء جميل. د. عبير سلامة

تــمّــوزُ شَــهْــرٌ لـلـوفـاءِ جَـمــيـلُ

وزمــانُــهُ بــدمــائِــنـــا مَــجــبــولُ

وأمـيـنُـنـا حَــسَــنٌ تُـطِــلّ رجـالُـه

فـوقَ الجيوشِ وسيفُهُ مسلولُ
يَـكـفـيهِ أنَّ الـنّـصـرَ مِــنْــهُ بـشـارةٌ

ورؤًى ووعــدٌ صــادقٌ مـأمولُ

فـبــهِ مِــنَ الكَــرّارِ سـهــمُ بــلاغــةٍ

وفــصـاحةٌ وحـصافـةٌ وأصـولُ
ومنَ الحُسينِ شجاعةٌ وعزيمةٌ

كاللّيثِ يقـتحمُ الرَّدى ويَصــــولُ

مِنْ حولِهِ أُسدٌ بساحاتِ الـوَغى

وضَــياغـمٌ وفَــوارسٌ وشُــبــولُ
فـرجــالــهُ الشّــمُّ الكِـرامُ أشــعّــةٌ

هــو شمسُهمْ وَهُمُ علـيهِ دلـيلُ

فهـمُ لـمـنْ رامَ العَـداوةَ حـتْـفُـهُ

وَهُـمُ لِمَـنْ ضَلَّ السّبيـلَ سـبيـلُ
تـمّـوزُ كـانَ كـتـابَـهـم قـدْ ســطّــروا

نصــرًا بـهِ لا حـرفَ فـيـهِ ذلـيلُ

شَــهْــرٌ بــهِ دُحـــرَ الــعـدوُّ بـأرضِــنــا

ولــهُ تــــردّت أَرْتُــــلٌ وفُـــلــولُ
في نَصْرِهِ قدْ صغْتُ لحنَ قصيدةٍ

عصـماءَ قالتْني ولسْتُ أقـولُ

قـدْ بـاركــتْــهُ بـالـشّــهــادةِ فِــتـيــةٌ

بِـهــمُ تـطوفُ خواطري وتجولُ
فـالـظّـالـمـونَ وإنْ تَـمـادى غـيُّهم

ردحًا فـفي قـبـضاتـهـم سـيزولُ

ويًـطِـلُّ فجـرٌ لـلـعـدالـةِ مُــشــرقٌ

فـإذا أهـلَّ فـلـيـس بــعــدُ أُفــولُ
وتـعـودُ قُــدسـي حُــرّةً عَــربـــيّــــةً

رُغــم الـعِـدا وتــزولُ إســرائـيـلُ

ذ. حسن عليّ شرارة

تقديم: لله درّهم من رجالٍ آمنوا قولًا وعمًلا بأنّ الوطن يعادل الكرامة، ودونه الأهل والولد، والأخ والحبيب، والقريب والصّديق، وأنّ له ترخص الأرواح والأموال. هم رجال انتهجوا درب المقاومة بهمّتهم، وببأسهم، وبحزم سيّدهم، وحكمته، وموهبته القياديّة؛ طامحين لإحدى الحُسنيين: النَصر أو الشّهادة، حتّى نالوا النّصر؛ بدحر الجيش الّذي لا يقهر، وبعين فلّت المخرز، فوقف قائدهم معتليًا سدّة المجد؛ ليُعلن انتهاء زمن الهزائم، وبدء زمن الانتصارات . فاحتفى كثير من الشّعراء بحلول عصر الانتصار؛ بتطويع مضامين قصائدهم بما يليق بتلك المناسبة. وأبت قرائحهم إلّا أن تجود بأجود القصائد، ولم تكن الإجادة من صنيع شاعر يرجو تكسّبًا، أو متقنٍ لفن المبالغة، أو مُغالٍ تضخّمت في نفسه صورة الزّعيم. إنّما كانت تصويرًا يقرب من أداء المقاومين في دفاعهم عن الحقّ والكرامة، ومدحًا مرتكزًا على فضائلهم الأخلاقيّة. ومن هؤلاء الشّعراء الشّاعر الدّكتور حسن شرارة، وهو ابن البيئة العامليّة، الّتي من رحمها ولدت المقاومة، من عاصمة المقاومة والتّحرير(بنت جبيل)، فهو ابن الأرض الّتي شهدت بسالة المقاومين؛ فكان حريًّا به أن يترك في هذا السّجل الأدبيّ بصمة مُؤثّرة، فكانت قصيدته: “تمّوز شهر للوفاء جميل”. أوّلا: هويّة القصيدة: للوهلة الأولى بدا أنّ القصيدة تنتمي إلى الشّعر التّموزيّ، وهو أحد موضوعات الشّعر الأسطوريّ الّذي يقوّض أركان الواقع، ثمّ يعيد بناءه؛ انطلاقًا من رؤية خاصّة عنده تمكّنه من توظيف الأسطورة توظيفًا دلاليًّا، بأسلوب فنّيّ إيحائيّ؛ للتّعبير عن حالة شعوريّة، أو واقع أثّر فيه. لكن سرعان ما بدا أنّ تمّوز الشّاعر في هذه القصيدة هو زمن ارتبط في نفوسنا بمقاومة تأبّط رجالها العزم، فقلبوا من التّاريخ صفحة الهزيمة، وفتحوا صفحة النّصر؛ بتحرير الأرض من المحتلّ، وإطلاق سراح عقل الأمّة من ثقافة الهزيمة . وعليه، فإنّ القصيدة منتمية إلى الشّعر المقاوم، وهو إحدى الوسائل الفنيّة الّتي تُذكي الحماسة، وتستنفر الإبداع، وتعبّر عن صدق العاطفة، وحرارة الشّعور. إلّا أنّ ثمّة تناظر بين تمّوز الأسطورة وتمّوز المقاومة، لم يقصده الشّاعر، وإنّما هو من الموافقات بينهما: تمّوز (الأسطورة) إله أسطوريّ / تمّوز (الشّاعر) شهر انتصار مقاومة على جيش وصف بالجيش الّذي لا يقهر. تمّوز ( الأسطورة) يحارب الخنزير / المقاومون يحاربون الصّهاينة تمّوز (الأسطورة) عاشق لعشتار / المقاومون عاشقون للأرض تمّوز( الأسطورة) يعود إلى الحياة / المقاومة تنتصر. دمّ تموز (الأسطورة) يروي الأرض فتزهر / دمّ الشّهداء يروي الأرض فتتحرّر. ثانيًا: غرض القصيدة: القصيدة من الشّعر المقاوم، ولها غرضان: المدح: وهو نوع من الوصف يأتي به الشّاعر على ذكر فضائل الصّفات المعنويّة للممدوح. وقد تكون الأمدوحات من صفات الممدوح حقيقة، وقد تكون من عنديّات المادح؛ لتحقيق كسب ماديّ، أو تزلّف يحقّق له الوصل مع الممدوح. وقد جاء المدح -هنا- أعمق، وأصدق، وأنزه من أيّ مدح يقال في أيّ ممدوح، مهما عظم شأنه، وفاض عطاؤه. إنّ الممدوح مقاومةٌ رجالها أبطال ميدان نذروا أنفسهم لتحرير الأرض، وليسوا أبطال منابر. أبطال واقعيّون ميدانيّون، وليسوا أبطال أساطير خرافيّة. الحماسة: وهو نوع من المدح يصف به الشّاعر بسالة الأبطال في الميدان، وصولتهم في السّاحات. ويُظهِر ما يمتلكونه من رباطة جأش، وصلابة موقف، وقوّة عقيدة. ثالثًا: محور القصيدة ومناسبتها: تصدّر شهر تمّوز مطلع القصيدة، لكنّه لم يكن محورها؛ فمحورها ثنائيٌّ متكامل قطباه، سيّد المقاومة ورجالها الميامين، وما تمّوز سوى نقطة ارتكاز أسّست للحديث عن المحور؛ لعلاقة بينهما؛ فهو الإطار الزّمنيّ الّذي حفر فيه المقاومون على جبهة التّاريخ انتصارًا جديدًا مؤزّرًا، كان الاحتفاء بذكراه مناسبة لنظم القصيدة. رابعًا: بنية القصيدة: اعتمد الشّاعر في بناء قصيدته على النّظام العاموديّ القديم، القائم على تناظر الشّطرين، ووحدة الرّوي والقافية. وقد اتّسمت بالوحدة الموضوعيّة، وبالوحدة العضويّة؛ فكانت بناء متكاملًا لعمل تنامى فيه شعور الشّاعر، حتّى بلغ الذّروة في نهاية القصيدة. فقد بدا الشّاعر موقنًا أنّ تحرير فلسطين بات قريبًا على أيديهم. وقد أسهم التّماسك، وتنامي الشّعور في تقديم مشهد كليّ منسجم ومكثّف. خامسًا: شرح عام للقصيدة: هو شهر تمّوز… ليس كسائر الشّهور، إنّه شهر تجسّد فيه الوفاء دماءً، اختلطت ذرّاته بذراتِ تراب الأرض الّتي يدافعون عنها. وقد حقّقوا نصرًا قهروا به عدوّهم، ودحروه عن أرضهم. ولم يكن نصرًا يتوقّعه العالم، ولم يكن اعتباطيًا؛ إنّما هو نصر قلب الموازين والمفاهيم، وكان إيفاء عهد ووعد قطعه القائد على نفسه؛ فخطّط له بحكمة وروّية. وهذا القائد شريف الأرومة، ورث فضائل الصّفات من أجداده (أهل البيت الكِرام)؛ فهو في خطابه فصيح اللّسان، بليغ العبارة، وفي المواقف ذو رأي رشيد، وله في المعارك رجالٌ شمّ الأنوف، كرام الخُلق يحاكون بصفاتهم عزيمته وحكمته. وقد تمكّنوا بتوافقهم الكلّيّ معه من تحقيق نصر تامّ، ومشرّف، تباركه وتهلّل له أرواح الشّهداء في عليائها. وقد زرعوا بهذا النّصر الأمل في نفس الشّاعر؛ بأن تحرير فلسطين لن يكون بعيدًا، فهو يراهم بعين يقينه أنّهم يعدّون له العدّة، وبتحريرها ستطوى صفحة من التّاريخ كتبت بحبر الذّل والخنوع، وستفتح صفحة جديدة مشرقة بحبر الشّهادة لن تطوى أبدًا. سادسًا: لغة القصيدة: لم يأتِ الشّاعر بعبارات حوشية أو ركيكة. ولا بمفردات مستغلقة أو خالية من معايير الفصاحة؛ إنّما كانت لغته فصيحة وواضحة يألفها العامّة، ولا يأنفها الخاصّة. وقد كان جلّ ألفاظها من موروثات المعجم الحربيّ في الشّعر القديم. كما أنّه استخدم بعض الصّيغ الصّرفية؛ لما تحمله من دلالات يقصدها، ومن ذلك: الصّفة المشبّهة بالفاعل: هي اسم يُشتَق من الفعل الثّلاثيّ اللّازم، وقد استبدلها الشّاعر باسم الفاعل، كما في: جميل، أمين، دليل؛ لأنّ الصّفة المشبّهة تدلّ على الثّبوت والتّجدّد، فتمّوز سيبقى شهر الوفاء، والأمين سيظلّ قائدًا تتجدّد على يديه الانتصارات حتّى تحرير فلسطين. اسم المفعول: هو اسم مشتقٌّ يدلّ على من وقع عليه الفعل، ويدلّ على الثّبوت في جميع الأزمنة. وقد استبدله الشّاعر هنا بصيغة الفعل في: مجبول ومأمول ومسلول؛ ليقدّم وصفًا لحادث ثابت لا ينقطع، ولا يتبدّل، إلّا إذا تبدّل الواقع. فالدّم مجبول في الأرض ما دامت محتلّة، والسّيف مسلول ما دام العدو متربصًا، والنّصر مأمول؛ لأنّ صاحب الوعد صادق. صيغة الجمع: اسم مشتقّ يدل على اجتماع ثلاثة أو ما يزيد في صفة واحدة. وقد استبدل الشّاعر لفظ جيش بلفظ الجيوش مجازًا لأمرين: الدّلالة على كثرة عدد العدوّ، وقوّة عتاده، وربّما على دعم الدّول له. إظهار بطولة المقاومة أمام عدوها. وما يؤخذ على الشّاعر إطلاق المعاني غير السّامية على معان سامية. وإن كان هذا مسوّغًا؛ لأنّه من باب مجاز الإطلاق، وهو استخدام اللّفظ المقيّد بشيء في شيء آخر بينهما جامع، أو لأنّه يخدم الرّوي والقافية، إلّا إنّه لا يليق في مقام المدح، ففي قوله: “ومنَ الحُسينِ شجاعةٌ وعزيمةٌكاللّيثِ يقـتحمُ الرَّدى ويَصـولُ”، أتى بالفعل يصول، بمعنى غلبة الأعداء وقهرهم، وهذا عمل شريف. أمّا معناه في المعاجم فهو: الرّجل يضرب النّاس، ويتطاول عليهم. فالمعنيان متضادّان في المعيار الأخلاقي؛ فليس من يدافع عن الحقّ، كمن يستقوي على النّاس. وفي قوله: “مِنْ حولِهِ أُسدٌ بساحاتِ الوَغىوضَـياغـمٌ وفَـوارسٌ وشُــبـولُ”، أتى بلفظ ضياغم بمعنى مقاوم شرس، وهذا معنًى شريف. أمّا معناه في المعاجم فهو: الأُسودُ الواسعةُ الشّدق والعضّاضة، وهو معنى مستكرهٌ يحسن في مقام الهجاء والذّمّ. سابعًا: دلالات نحويّة: التّراكيبُ النّحويّةُ ليست رصفًا لمعنى واحد، بل هي محمّلة بالدّلالات الّتي يفرزها المعنى، وقد برزت في هذه القصيدة دلالات نحويّة، منها: العنصر المتقدّم يدلّ على عناية النّاصّ به؛ سواءٌ أكان في موضعه الأصليّ أم في موضع الجواز. وهذه العناية يراد منها الإشارة إلى غرض بلاغيّ يرمي إليه النّاصّ. وقد لجأ الشّاعر إلى تقديم الخبر ومن ذلك: • “ومنَ الحُسينِ شجاعةٌ وعزيمة”. فقد قدّم الخبر تأدّبًا يوجب ذكر الموروث لزيادة تعظيم الممدوح وتشريفه؛ لأنّه وريث من حباه الله بفضل منقطع النّظير. • “مِنْ حولِهِ أُسدٌ بساحاتِ الوَغى”: وهنا قدّم شبّه الجملة على المبتدأ تأدّبًا وتشريفًا؛ لأنّها تحمل ضمير القائد، وليبيّن صحّة العلاقة بين القائد ورجاله. • “كاللّيثِ يقـتحمُ الرَّدى”: قدّم شبه الجملة “كاللّيث” على عناصر الجملة؛ لما في التّشبيه من معنى يجذب انتباه المتلقّي؛ لأنّ التّشبيه بالأسد يُنبئ عن حدث بطوليّ مشوّق. وقد أدّى هذا التّنقّل في المواضع، وتعدّد نوع الخبر، وتنوّع الجمل إلى انزياح القصيدة عن رتابة النّمط الواحد؛ لتعكس مشهد الحركة والتّنقّل في المعركة، والحيويّة في انفعال الشّاعر، وصدق مشاعره. العطف: اختمرت الفكرة، واتّضحت الرّؤيا؛ فاستدعى الكلام بعضَه بعضًا؛، فكانت وحدة القصيدة بنية وموضوعًا. ومن تجلّيات هذا الاستدعاء أدوات العطف – وهي إحدى أدوات الرّبط الّتي تسهم في تماسك هيكليّة القصيدة، ووحدة موضوعها- إذ شكّلت أبرز عُرى التّماسك في القصيدة؛ بربط أبياتها، وعباراتها، ومفرداتها، ومن ذلك: • “فبهِ مِنَ الكَرّارِ سهمُ بلاغةٍوفصاحةٌ وحصافةٌ وأصولُ”، فقد ربط هذا البيت بسابقه بفاء السّببية؛ ليعلّل تميّز الممدوح بتلك الأماديح، فهذه الصّفات موروثة فيه. • “ومنَ الحُسينِ شجاعةٌ وعزيمةٌكاللّيثِ يقـتحمُ الرَّدى ويَصـولُ”، فقد عطف بالواو مصرّحًا بأنّ ممدوحه ورث الشّجاعة والعزيمة عن “الحسين بن عليّ”. وقد عمد الشّاعر في البيت الأوّل إلى التّلميح بأنّه ورث من جدّه الأعلى “عليّ بن أبي طالب” الصّفات اللّسانيّة، والفكريّة، وسدادة الرّأي، وفي البيت الثّاني أشار إلى أنّه ورث من جدّه “الحسين بن عليّ” الشّجاعة والعزيمة؛ للدّلالة على مكانة الممدوح. وتخصيص الجدّين بصفات دون غيرها لم يكن تقييدًا به، ونفيًا عن الآخر؛ إنّما أراد الشّاعر أن يأتي على ذكرهما؛ ليزيد في مدح الممدوح، ويبيّن ارتقاء مكانته. ضمير الغائب: الضّمير كما الواو، من الأدوات الممسكة بمفاصل النّصّ، وقد استخدم الشّاعر ضمير الغائب؛ ليحيط الممدوح بهالة من التّعظيم والفخر بترفيعه إلى مكانة لا يبلغها ممدوح آخر؛ إذ إنّ ضمير الغائب في سياق المدح يدلّ على أنّ المادح لا يجتمع مع الممدوح في ساحة الحضور؛ كما يجتمع المادح التكسّبي مع الممدوح في بلاطه. فهو أعظم وأنبل من أيّ ممدوح يشارك في عمليّة التّخاطب؛ لأنّه في ميدان الحقّ مقاتلًا. الإضافة الى ضمير المتكلّم: الإضافة تركيب اسميّ (اسم + اسم)، أو (اسم +ضمير)، أو (ظرف+ ضمير). وهي تؤدّي معانٍ عدّة، يحددّها الحرف المقّدر بين المتضايفين. وقد أضاف الشّاعر هنا ضمير جمع المتكلّم إلى “أميننا”، للدّلالة ما يحظى به الأمين من ولاء شعبيّ؛ إذ إنّ الشّاعر ليس مقاومًا في الميدان، إنّما هو صدى صوت النّاصرين للمقاومة.كما أنّ إطلاق اللّفظة وعدم تخصيصها يدلّ على دوره الشّموليّ في حماية الأرض والأنفس والمنشآت والمرافق . الفصل بين الحال وصاحبها: ومن ذلك: • :وأمـيـنُـنا حَـسَـنٌ تُـطِـلّ رجـالُـهُفـوقَ الجيوشِ وسيفُهُ مسلـولُ”، فجملة: “سيفُه مسلولُ” جملة اسميّة واقعة في محلّ نصب حال لأميننا، فصل الشّاعر بين الحال (سيفه مسلول) وصاحبها وهو مبتدأ (أميننا) بجملة الخبر الفعليّة، وقد أضيف فاعلها إلى ضمير يعود إليه، ما يشعرنا بأنّ ثمّة دلالة على حُسن قيادته تقصدّها الشّاعر. ثامنًا: لفتات بلاغيّة: تزخر القصيدة باللّفتات البلاغيّة الّتي يسعى من خلالها إلى تقريب المشهد وإبراز تفاصيله. وهذه اللّفتات في غالبيّتها أساليب ينأى بها الشّاعر عن العبارة المباشرة؛ بتحميل المفردات دلالات جديدة، توسّع آفاق العبارات، وهذا التوسّل بالأساليب البلاغيّة المتنوّعة يكشف عن مقدرة الشّاعر في استغلال العلاقات بين الأشياء، وتقديمها في عبارات بلاغيّة، تُضفي مسحاتٍ جماليّةً، تجذبُ المتلقّي، وتقرّب المشهد وتبرز تفاصيله. وتجذب المتلقّي وتحفّز تأمّله، وتحرّك خياله، وتوقظ حماسته. وكانت هذه الأساليب في غالبيّتها ممّا ينأى به الشّاعر عن العبارة المباشرة؛ بتحميل المفردات دلالات جديدة، توسع آفاق العبارات، وقد أدّى ذلك إلى صقل مشهد المقاومة بمرآة الشّعور، وتغييب كلّ ما حدث في تمّوز سواه، ومن هذه اللّفتات: حسن الانتقال وبلاغة الإيجاز: ففي قوله: “هـو شمـسُهمْ وَهُـمُ علـيـهِ دلـيلُ”، نرى أنّ الشّاعر قد انطلق في مستهلّ القصيدة من ذكر تمّوز قائلًا بأّنه ليس كسائر الشّهور؛ ففيهِ أُريقتْ دماءُ الشّهداءِ؛ وفاءً وإخلاصًا للأرض، ثمّ انتقل إلى مدح قائد المقاومة ومدح رجالها. وفي وسطها عاد إلى ذكر تمّوز؛ ليتّخذه من جديد منطلقا للمدح خاصًّا بالذّكر رجالَ الميدان صراحة دون قائدهم. لكنه باستخدم عبارة: “هو شمسُهمْ وَهُمُ عليهِ دليلُ”؛ قد حسُن انتقالُه من مقطع إلى مقطع، وأجاد بالإيجاز البليغ الذي أدّى المعنى كاملا. فهذه العبارة أسلوب تعريضيّ من أساليب البديع تمهّد إلى أنّه هو الموجّه والمعلّم، وهم سرّه في الشّجاعة والخُلق الكريم؛ فهم امتداد له وما يقال فيهم ينسحب عليه. التلميح: ضدّ التّصريح، وهو أن يُشار إلى معنى مقصود غير مصرّح به بلفظ يدلّ عليه تلميحًا؛ لتحقيق غرض بلاغيّ أو دلاليّ. وقد نبا الشّاعر في بعض المواضع عن الوصف المباشر؛ فلجأ إلى التّلميح، منتقيًا بعض المفردات المعجميّة؛ ليشدّد على المعنى الّذي تحمله، ويبرز أهمّيّته، ومنه أميننا في قوله: وأمـيـنُـنا حَـسَـنٌ تُـطِـلّ رجـالُـهُفـوقَ الجيوشِ وسيفُهُ مسلـولُ • فأميننا صفة للمنصب الّذي يتولّاه، والأمين في اللّغة ضدّ الخائن. وقد انتقاه الشّاعر بعناية؛ لأنّه مشتقّ من الجذر اللّغوي أمن، الّذي تحمل فروعه معانٍ سامية، تصدق الصّفات المُشتقّة منها على قائد المقاومة، وهي: الأمن ضدّ الخوف، والأمانة ضدّ الخيانة، والإيمان ضدّ الكفر، والإيمان وهو التّصديق وعدم التّكذيب. • والكرّار في قوله: فبـهِ مِـنَ الكَـرّارِ سهـمُ بـلاغـةٍوفـصـاحةٌ وحـصافـةٌ وأصولُ صرّح بأنّه ورث بلاغة التّعبير، وفصاحة اللّسان، ورجاحة العقل، وسداد الرّأي، وطيب الأصل من عليّ بن أبي طالب. لكنّه ألمح تلميحًا إلى أنّه ورث صفة الإقدام والقيادة منه؛ وذلك باستخدامه لفظة “الكرّار”، وهي صفة لقّبّ النّبي بها عليًّا بن أبي طالب، حين سلّمه الرّاية في غزوة خيبر؛ ليفتح القلعة الّتي عجز المسلمون عن فتحها. التّشبيه: هو تصوير فنّيّ، تعقد فيه مقارنة بين طرفين يشتركان في صفة يزيد فيها المشبّه به عن المشبّه، ويراد منها تقريب المعنى وتوضيحه. وقد استخدمه الشّاعر في القصيدة بأنواع متعدّدة، كان أبرزها: • التّشبيه الخفي: وتجلّى ذلك في أنّه استعاض بكمّ من ألفاظ المعجم الحربيّ، عن مشبّهٍ حسّيٍّ؛ فهم في معاركهم يحتجبون عن الإعلام الّذي ينقل الصّور، فلم يجد سوى هذا الكمّ من الألفاظ العسكريّة؛ لتقريب المشهد؛ ولتقديم معادل كمّيّ لشجاعتهم وبطولتهم، وتمكينهما في ذهن المتلقّي. وقد يريد من هذا الحشد التّفصيل، والتّأكيد على حسن انتظامهم، وتوزيع مهامهم في منظومة المقاومة، كما في البيت: أُسدٌ بساحاتِ الوَغىوضَـياغـمٌ وفَـوارسٌ وشُــبـولُ. فهم في الميدان متراتبون في الفئة العمريّة، ونلمح ذلك في وصفه لهم بالأُُسد والشّبول، لكن لكلّ منهم دور تكامليّ يؤدّيه في المعركة، ويدلّ على ذلك قوله: “ضياغم وفوارس”. المجاز: المجاز هو استعمال اللّفظ في غير ما وضع له؛ لوجود علاقة بين المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازيّ. ويشترط فيه وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقيّ، وهو ثلاثة أنواع: • المجاز المرسل: تقوم علاقة المجاز المرسل على غير المشابهة بين المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازيّ؛ ومن ذلك: قوله: “تـمّـوزُ شَـهْـرٌ لـلـوفـاءِ جَـمـيـلُ”، فقد لجأ الشّاعر إلى أسلوب المجاز المرسل؛ موظفًا العلاقة الزّمانيّة بنسبه الوفاء إلى الشّهر الّذي أبدى فيه المجاهدون وفاءهم للأرض. وقد حمل هذا المجاز لطيفة بلاغيّة، إذ خصّ تمّوز بالوفاء، وهو نوع من التّجريد يراد منه المبالغة، لكن الشّاعرَ أراد إلصاق صفة الوفاء بهذا الشهر؛ حتّى تصبح ملازمًة له. • المجاز العقليّ: تقوم علاقة المجاز العقليّ على الإسناد، ومن ذلك قوله: وزمانه بدمائِنا مجبولُ. استخدم الشّاعر أسلوب المجاز العقليّ في هذه العبارة، مسندًا إلى الزّمن اسم المفعول “مجبول”. ووفق قواعد البلاغة فقد أتى بالغلوّ المستكره، لكن هذا الغلوّ في مثل هذا السّياق، كان له وقعٌ في القلوب والأسماع. وقد وضّح في هذا المجاز قصد الشّاعر من نسبة الوفاء إلى تموز وحفظ سلامة الوزن والقافية. • الاستعارة: تقوم علاقة الاستعارة على المشابهة، ومن ذلك قوله: “ويطِـلُّ فجـرٌ للعدالـةِ مُـشـرقٌ”، فقد استعار للعدالة من الشّمس إشراقها؛ بجامع البهجة والنّور الّذي تبعثه في نفوس النّاس، وقد اختار لها وقت الفجر؛ لأنّه لمس تشابهًا خفيًّا بينهما؛ فظهور العدالة سيأتي بعد الظّلمة؛ كما يأتي الفجر بعد ظلمة اللّيل. وهذه الصّورة ليست مبتكرة، لكنّها لم تفقد القيمة الجماليّة والتّعبيريّة؛ لأنّها متناسبة مع سياق الكلام. التّضمين: هو أن يجعل الكاتب من مضمون كلامٍ آخرَ جزءًا من نسيج كلامه؛ وذلك في قوله: ” يَكفيهِ أنَّ النّـصرَ مِـنْـهُ بـشـارةٌ*ورؤًى، ووعــدٌ، صادقٌ مأمولُ، فهذا البيت تضمين لعبارة قائد المقاومة الشّهيرة : “كما كنت أعدكم بالنّصر دائمًا أعدكم بالنّصر مجدّدًا”. إذ وظّفه الشّاعر في سياق المدح لقائد المقاومة، وجعله صفة أخلاقيّة لو لم يكن غيرها فيه؛ لكانت كافية في جعله مفخرة، وعزّة لنفسه، ولشعبه.
الكناية: فنٌّ من فنون القول، وهي لفظ أريد به غير معناه الذي وُضع له، وهي أبلغ من الإفصاح؛ لأنّها تُجسّد المعاني بالصّور المحسوسة، ومن ذلك قوله: “وسيفُهُ مسلـولُ”. فقد استخدم الشّاعر سيفه المسلول، ويعني المنسلّ من الغمد، وهو سلاح قديم لم يعد يستعمل في المعارك، لكنّ الشّاعر كنّى به عن صفات الشّجاعة، والجهوزية، وعدم الرّبأ بالنّفس، والخبرة القتاليّة.
تاسعًا: إيقاع القصيدة:
يتناسبُ إيقاع القصيدة مع موضوعها، ويحاكي بتنوّع نغماته وَغى المعارك، أو أنّه يُحاكي عركهم في القتال. ويتجلّى ذلك في: اختيار الشّاعر للبحر الكامل التّام، غير المجزوء، فهو بحر رصين، يتناسب مع مدح الأبطال، وتصوير بطولاتهم، والتّغنّي بالانتصار.
استخدم الشّاعر التّفعيلة السّليمة (متفاعلن ///0//0)، وتفعيلة زحاف الإضمار(متفاعل/0/0/0)، والقطع (///0/0) بغير انتظام، وقد شكّل هذا التّنوّع تموّجات صوتيّة حاكت حماسة الشّاعر عند نظم القصيدة. -اعتمد الشّاعر اللّام المضمومة رويًّا، وهو في الأصل حرف مجهور، وقد زاده موقعه وإضمامه جهرًا.
خاتمة:
بادل الشّاعر المقاومة الوفاء بالوفاء، فنظم قصيدته الحماسيّة في مدح قائدها ورجالها في لحظة شعوريّة صادقة نقيّة؛ كصدق وعد قائدها، ونقاء تضحية رجالها، فاستدعى من الذّاكرة مشاهد البطولة العربيّة الّتي شاهدنا رسومها، وقرأنا عنها في كتب التّاريخ؛ فكانت القصيدة عن واقعة حديثة بلبوس قديم، نظمها الشّاعر؛ وهو يستلهم أمجاد الماضي ويستقرئ الحاضر معًا؛ ليستشرف المستقبل.
أخيرًا، إذا كان من كلمةٍ تُقال في خاتمة هذا الموقف الجليل، فهي أنّ شاعرنا الدّكتور حسن شرارة يُعتبر أنموذجًا فريدًا للمُقاومة في هذا العصر الحديث. ولا أتقصَّدُ المُقاومة هنا بشقّها العسكريّ القِتاليّ، وإنّما بشقّها المعنويّ الذي يتوسَّل الكلمات سبيلًا لشحذ الهِمم. وقد تكون المقاومة بالكلمة في بعض الأحيان تُضاهي المُقاومة بالسّيف والبندقيّة، لأنّ الكلماتِ خالدةٌ بخلود الزّمن؛ تحمل في أحشائها بسالة قائليها، وشرف انتمائهم، وعمق أصالتهم.
الدكتورة: عبير سلامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى