أدب وفن

سيرة غيرية للشاعر حسن علي شرارة و تحليل السيرة بقلم د. عبير سلامة

الدكتورة عبير سلامة

سيرةٌ غيريّة
1- امرأةٌ طليقةُ الوجهِ، مُشرقةُ المُحيَّا، برّاقةُ النّظراتِ، لمّاعةُ الملمَحِ، بهيّةُ الطّلعةِ، شفيفةُ الرّوحِ، رهيفةُ المشاعرِ، مُتوقِّدةُ الذّكاءِ. همْسُها وَقارٌ، ومنطِقُها حِكمةٌ.
2- دَحَرتْها الأقدارُ، وأَزْرَتْ بها مراراتُ الحياةِ، واكتسحتْها شقاءاتُ المُعاناةِ، وظفرتْ بها أنيابُ الوحدةِ… في عينيها أمطارٌ حبيسةٌ لا قرارَ لها، ولا حدودَ، بيّضتْ حدَقاتِها، وأوهَنت جفونَها. حصرتْها خلجاتُ الأنسِ الضّائعِ، والفرحِ المُصابِ بالضّمورِ، وهشّمتها طعناتُ العِشرة الزّائفةِ. فلا يُؤنسها إلّا صمتُ الوقتِ الّذي فقدَ قيمتَهُ.
3- إمرأةٌ ممشوقةُ الألمِ، ملجومةُ الفؤادِ، تعشقُ الآلَ، وتحلمُ بالمعجزاتِ. موّالُها إدخالُ اللّهفةِ في جوعِ الصّقيعِ، وعناقُ العاصفةِ… ترتاحُ فوقَ منكبيها مغاربُ الأيّامِ. وتحطُّ بصماتِها على شلالاتِ الصّوتِ المُصادرِ خلفَ الصّمتِ المُحترقِ. منهوكةُ الضّخِّ، يُحزنُها تدافعُ النّبضِ خارجَ مفاصلِهِ.
4- أميرةُ شجنٍ، تسهو حالمةً ببريقِ الأملِ. ينتحرُ فيها تمرّدُ الفجرِ، وتجتازُ بوّاباتِ الأحزانِ برجفةِ بقاءٍ، تتأبّطُ تأشيرةَ وصولٍ مفتوحةٍ على ساحاتِ وجدٍ حرونٍ؛ استرخى في عطلةِ الحواسِّ في زمانِ الوحشةِ، وما زالَ يحنُّ. يُنازلُ الألمَ تحتَ نفنافِ المللِ الهاربِ منْ كوخِ الضّجرِ…
5- امرأةٌ نجيَّةُ الغَيهَبِ، خليلةُ اللّيلِ، مخنوقةٌ منَ الوريدِ حتّى الصّميمِ. يحجزُها التّيهُ على بيادرِهِ، ويحملُها الإعصارُ مفتاحًا لحكمتِهِ، وواحةً لهياجِ حقدِهِ. يواكبُها شجنٌ عتيقٌ يمتدُّ ويتجذّرُ كالنّهدةِ في خلسةِ العزلةِ…
6- امراةٌ اشتقتْ منْ عِنادَ الصّبرِ، فتوّجَها الثّباتُ مليكةَ التّحدّي. وظلّتْ متمسّكةً بمنصبِها، رفضتِ الانصياعَ، وراحتْ تستلهمُ شاراتِ القمرِ، وترتقبُ الفجرَ، وسقسقاتِ النّدى على أكمامِ الزّهرِ، وإشراقةِ الشّمسِ؛ لتمسحَ دموعَها بمحرمةِ الدّفءِ والسّناءِ. تستلهمُ قسوةَ الوجودِ منْ حولِها، تستندُ إلى كتفِ الآهِ. تلمُّها السّكينةُ، فترتقُ الوقتَ بالتّجاملِ، وتديرُ ظهرًا لشيخوخةِ الشّمسِ، والزّمانِ الّذي يواصلُ ركضَهُ فوقَ سهوبِها. تبحثُ عنهُ في دفءِ المساءِ، وفي همساتِ الغيبِ. ترافقُها ارتعاشةُ الدّهشةِ في تململِ العتمةِ، وفي إغفاءةِ الصّوت تطوي الآلامَ لغدٍ آتٍ تدثّرُهُ في سرِّ الخفقةِ.
7- في عينيها أمطارٌ حبيسةُ أغوارٍ لا حدودَ لها. تمزّقُها الوحشةُ، وتحصرُها خُلجانُ الوقتِ الضّائعِ. يُؤنسُها صمتُ الحَمامِ الّذي فقدَ هديلَهُ ما وراءَ الصّدى… والرّجلُ في بالِها، ولكنَّهُ سحيقُ الغورِ.
8- امرأةٌ قُدّتْ منْ طِيبةٍ وطيبٍ، لها في علواتِ الأدبِ مكانٌ ومكانةٌ. تعشقُ السّكونَ، تُنصتُ لوقعِهِ، ففي الإنصاتِ تسامٍ… وفي الصّمتِ رُقيٌّ وهيبةٌ. ترتاحُ على تلالٍ منْ ذكاءٍ؛ فهيَ ساجيةٌ كالبحرِ المُوغلِ بالزّفيرِ. تتلاشى في طيّاتِهِ موجاتُ الشّهيقِ المُبتلّةِ حتّى الغرقِ، والسّفنُ مُعطلةٌ على امتدادِ مرافئِها تصارعُ العواصفَ، وأشرعتُها بيدِ الرّيحِ تُؤجلُ الإقلاعَ.
9- كم شربتْ نخبَ الجِراحِ في فيءِ العذابِ بكاساتِ المآسي والأتراحِ؛ فواجهتها بالإصرارِ، وحبِّ الحياةِ، وخفقِ الحنينِ، وعبقِ العبيرِ! تعيشُ بينَ الضّوءِ والظّلِ؛ تكتبُ أوراقَها، تلملمُ عريَ الكلمةِ، وتصرخُ على حِفافِ القلمِ… كأنّها سقطتْ سهوًا منْ أحشاءِ نجمةٍ شهقتْها السّماءُ في دمعةِ اللّيلِ، فكانتْ صمّامَ الهدوءِ الضّائعِ.
10- سنواتُ عمرِها رهنُ انتظارٍ… بيتُها الأفقُ الدّامعُ، وصديقُها الضّبابُ… يحدوها ماضٍ قريبٌ منَ الخيبةِ، وفي داخلِها شبهُ اطمئنانٍ تائهٍ بالمستقبلِ.
11- كم تبالدَ الأملُ على أعتابِها بينَ الضّوءِ والظّلِّ! ولكنّها ظلّتْ أميرةَ التّفاؤلِ، ومليكةَ المسرّةِ، وسُلطانةَ الفألِ الحَسنِ.
12- تسهو حالمةً ببريقِ الأماني، يحدوها الرّجاءُ… تنتحرُ على أسوارِها جيوشُ الكآبةِ، تجتازُ بواباتِ الأحداثِ بخطّى ثابتةٍ وواثقةٍ. تتأبّطُ تأشيرةَ فرحٍ مفتوحةً على ساحاتِ الهناءةِ والسّعادةِ، وواحاتِ العبيرِ، ومفازاتِ السّلامةِ.
13- كمْ رفضتِ الانكسارَ والاستسلامَ، وبقيتْ تحلمُ بتحقيقِ المعجزاتِ واجتِراحِ الخوارقِ! ومضتْ في امتدادِ القلقِ تبحثُ عنْ سلامِها المفقودِ خلفَ ضجيجِ الغدِ المنشودِ.
14- فيَا لها امرأةً تسلّحتْ بإرادةِ التّصدّي والصّمود! حقّا لقدْ صبرتْ فظفرتْ، وتأنّتْ فنالتْ ما تمنّتْ!
15- طوبى لها امرأةً مختلفةً في زمنٍ تشابهتْ فيهِ النّساءُ. ذ.حسن عليّ شرارة


تحليلُ السّيرةِ الغيريّةِ
توطئة:
بموهبتِهِ الموروثةِ، وثقافتِهِ المُكتسبةِ بجهد وإتقان؛ ولجَ الشّاعرُ حسن شرارة عالمَ الأدبِ من بابِهِ الواسعِ؛ فكانَ لهُ في كلِّ نوعٍ وفنٍّ أدبيٍّ موطئَ قلمٍ في صفحاتِ الأدبِ، يتّسعُ معَ اطّرادِ انتاجاتِهِ الّتي تصدرُ منْ قريحةٍ فيّاضةٍ. ففي ديوانِ نتاجاتِهِ: وصفٌ، وغزلٌ، وحكمةٌ، وتربيةٌ، ورثاءٌ، وهجاءٌ، ووطنيّةٌ متأصّلةٌ،إلّا أنّ السّيرةَ كادتْ تغيبُ منْ أعمالِهِ، لكنَّ النَّصَّ الّذي بينَ أيدينا نموذجٌ عنْ فرادةِ إبداعِهِ- وإن قلَّ- في هذا المجالِ، فهوَ عملٌ مختلفٌ ومخالفٌ لنمطِ السَّيّرِ المعهودةِ؛ ما جعلَهُ في الصّفوفِ البارزةِ في هذا الفنِّ، وصاحبَ مدرسةٍ جديدةٍ في فنِّ السِّيرةِ، ولعلَّها منَ المرّاتِ القليلةِ الّتي يقتحمُ فيها شاعرُنا هذا النّوعَ الأدبيَّ. فقد ألِفناهُ يصُول ويجُول في العديدِ منْ مجالاتِ الفنونِ الأدبيّةِ الوجدانيّةِ الرّاقيةِ… لكنَّهُ هذهِ المرّةَ آثرَ اقتحامَ فنِّ السّيرةِ مدفوعًا بثورةٍ نفسيّةٍ دفّاقةٍ ومشاعرَ جيّاشةٍ خرجتْ في بعضِ محطّاتِها عن المعهودِ والمألوفِ. وهوَ، وإن كانَ أسلوبُهُ في النّثرِ الأدبيِّ يختلفُ شكلًا عن أسلوبِهِ في الشّعرِ الوجدانيِّ، إلّا أنَّ المضمونَ الرّاقي هَو السّمةُ المُشتركةُ الّتي تُميّزُ كتاباتِهِ، بصرفِ النّظرِ عنِ الطّريقةِ الّتي تأخذُها هذهِ الكِتابةُ. لذلكَ، أمكنَ القولُ إنَّ خلفَ الطّريقةِ الّتي يكتبُ بها الشّاعرُ حسن شرارة سرًّا عميقًا نلتمسُه في رهافةِ المعنى ودقّةِ التّصوير وروعة البيانِ وجمال الأسلوب. حتى، ليُمكِنُ الخُلوص إلى نتيجةٍ مَفادُها، أنّ “شرارة” مدرسةٌ في الكِتابة، لا تقفُ عندَ حدودِها اختلافاتٌ في الأنواعِ الأدبيّةِ، أو الأنماطِ الكِتابيّةِ، أو الأساليبِ الجُمِليّة.
والسّيرةُ، كفنٍّ أدبيٍّ، يعتمدُ التّقريرَ ويتوسَّلُ المُباشَرةَ. إلّا أنَّه قد صدّعَ هذهِ القطعِيّاتِ، وزحزحَها في وعي القارئِ العربيِّ. إذ إنَّهُ زاوجَ ما بينَ المُباشَرةِ والإيحاءِ، وجعلَ الوصفَ الذّاتيَّ يغلبُ السّردَ التّقريريَّ، ورفعَ اللّغةَ الشّعريّةَ فوقَ اللّغةِ الواقعيّةِ، وقفزَ فوقَ الأحداثِ النّمطيّةِ؛ ليجعلَ القارئَ الحصيفَ يكتشفُها بذاتِهِ عبرَ سيلٍ غزيرٍ منَ المشاعرِ الطّافحةِ، فيُساهمُ في تشكيلِ الحدثِ والتِقاطِ الصُّورةِ.
إنّها، إذًا، طريقةٌ جديدةٌ وغير مألوفةٍ في طرحِ فنِّ السّيرةِ الغيريّةِ للقُرّاءِ. ولا نُبالغُ إذا قلْنا إنَّ “شرارة” قد فتحَ هذا البابَ واسِعًا أمامَ الأدباءِ لمُحاذاتِه في هذا النّهجِ الحديثِ.
مُقدّمة:
حضورُ المرأةِ بارزٌ في الأدبِ نثرًا وشعرًا منذُ القدمِ، وعندَ الأممِ جميعًا، فهيَ تُحرّكُ إلهامَ الشّعراءِ تجاهَها بذلكَ الانفعالِ الفطريِّ؛ بحبِّها، وصدِّها، ولينِها، وعنادِها، وإخلاصِها، وغدرِها، وحُسنِ خُلقِها، وجمالِ خَلقِها، بفرحِها أو حزنِها. وتتنوّعُ الفنونُ الأدبيّةُ الّتي يتوسّلُها الأدباءُ “أُطرًا” يُفرغونَ فيها تجاربَهم معَ المرأةِ المُلهمةِ. لكنَّ نقاءَ النّوعِ لا يُنتجُ جميلًا كما يُنتجُ التّهجينُ. وأدلُّ دليلٍ على ما أقولُ هذا النّصُّ الأدبيُّ. فهوَ أشبهُ بكشكولٍ منَ الأنواعِ الأدبيّةِ، والأساليبِ البلاغيّة المتآلفةِ على هيئةِ لوحةٍ تشكّلتْ خطوطُها بعباراتٍ مغموسةٍ بحبرِ الإحساسِ.
فما المكوّناتُ الّتي انتسبَ إليها النّصُّ؟
النّثرُ: هو قسيمُ الشِّعرِ في الأدبِ، وتحتَهما تندرجُ الفنونُ، وهذا النّصُّ تداخلتْ فيهِ الأدبيّةُ والشِّعريّةُ باستثناءِ الوزنِ الشِّعريِّ الّذي غابَ؛ ليُرجّحَ كفّةَ النّثرَ الّتي يفرضُها فنُّ السِّيرةِ الغيريّةِ. وقد تجلّتا في النّصِّ منْ خلالِ التّراكيبِ النّحويّةِ، وتآلفِ المفرداتِ المُتباعدةِ، كما في الأساليبِ البلاغيّةِ. ما جعلَ العباراتِ موحيةً، ومؤثّرةً، ومُحمّلةً بالدّلالاتِ الّتي تميّزُ العملَ الأدبيَّ عمّا سواها.
السِّيرةُ الغيريّةُ: فنٌّ أدبيٌّ يتناولُ حياةَ شخصٍ أثّرَ في الكاتبِ بأسلوبٍ سرديٍّ يرتكزُ على عناصرَ محدّدةٍ ومتسلسلةٍ، غيرَ أنَّ الشّاعرَ هنا تفلّتَ منْ أسلوبِ السّردِ التّقليديِّ، وتخلّى عن عناصرِهِ؛ ليُقدّمَ نصًّا مُتمظهرًا في خطابٍ توجّهَ بهِ إلى صاحبةِ السِّيرةِ مُسترسلًا في وصف ما استنبطَهُ منْ معاناةِ صاحبةِ السّيرةِ، سيرةِ حياتِها، فراحَ يتلو على مسامعِها ما يسمعُهُ منْ نشيجِها، وممّا باحَ بهِ صمتُها، ولمْ يبُحْ بهِ لسانُها.
الوصفُ: لمّا كانَ موضوعُ النّصِّ معاناةَ امرأةٍ؛ فحريٌّ بالوصفِ أن يكونَ وجدانيًّا؛ تُنتجُهُ لحظةُ انفعالٍ تحرّكُها شحنةٌ منْ عاطفةٍ ثابتةٍ في التّكوينِ الإنسانيِّ لدى الشّاعرِ، أثّرَ فيها موقفٌ ما، أو مشهدٌ، لكنّهُ وإنْ كانَ مُفعمًا بروحِ الشِّعرِ؛ فإنّهُ يبعدُ عنِ الوجدانيّةِ في أنَّهُ غيرُ قابلٍ للتّلحينِ، إذ إنَّ العباراتِ طويلةٌ، وذاتُ إيقاعٍ رتيبٍ. وقد قدّمَ الشّاعرُ الوصفَ بصورٍ ذهنيّةِ حسيّةٍ استحالتْ الى رؤًى كشفتْ عنْ ذكاءٍ وجدانيٍّ يُوظّفُ ما اختزنتْهُ ذاكرتُهُ منْ أثرِ التّجاربِ الذّاتيّةِ، والمعلوماتِ الموروثةِ والمكتسبةِ؛ ليشكّلَ صورًا تقرّبُ المعنى،وتجسّدُهُ.
باعث النّظم: قد لا يكونُ الباعثُ معروفًا، لكنّه يُستجلى من استنطاقِ النّصِّ الّذي كشفَ أنَّ الشّاعرَ مُتأثٌّر بمعاناةِ امرأةٍ، وهذا التّأثّرُ المُعبَّرُ عنه بهذا النّصِّ الأدبيِّ الزّاخرِ بالصُّورِ البلاغيّةِ ذاتِ المعاني الإنسانيّةِ العميقةِ، لا يصدرُ إلّا عن شخصيّةٍ تتبّوأُ درجةً عاليةً في سلّمِ الرُّقيِّ الإنسانيِّ السّامي. وقد يدلُّ تخصيصُ الشّاعرِ حديثًهُ عن امرأةٍ على أنَّ اللّحظةَ الشُّعوريّةَ قد أوقدتْها امرأةٌ، لكنْ لا نعلمُ كيفَ؟ ومتى؟ وأينَ؟ ولِمَ؟ وهنا يُطرحُ سؤالٌ: هل الشّاعرُ مُنحازٌ إلى المرأةِ وقضاياها؟ أم أنَّ تأثّرَهُ الإنسانيَّ شموليٌّ وعميقٌ؛ أي أنَّهُ يتأثّرُ بأيِّ موقفٍ إنسانيٍّ بالمطلقِ؟ وهذا السّؤالُ تجيب عنهُ دراسةُ الأعمالِ الكاملةِ للشّاعرِ.

إيقاعُ النّصِّ: بدأ النّصُّ بوصفٍ حِسيٍّ وطبعيٍّ على إيقاعِ النّقراتِ السّريعةِ، ثمَّ انتقلَ إلى وصفِ الحالاتِ الشّعوريّةِ والنّفسيّةِ على إيقاعٍ بطيءٍ. ولعلَّ في ذلكَ انعكاسًا لوجدانِ الشّاعرِ المُتأثّرِ بصفاتِ تلكَ المرأةِ؛ فعندما يصفُ جمالَ شكلِها، وحُسنَ طبعِها؛ فإنّهُ يرقّصُ كلامَهُ على إيقاعِ الفرحِ، وعندما يصفُ معاناتِها فإنّهُ يرقّصُها على إيقاعِ الحزنِ الرّتيبِ. فالإيقاعُ إذًا هوَ انعكاسٌ لوجدانِ الشّاعرِ.

هيكليّة النّصّ: ينطوي مضمونُ النّصِّ على موضوعٍ واحدٍ مُنبسطٍ، أي أنّهُ لا يخضعُ لتسلسلٍ منطقيٍّ وزمنيٍّ كسائرِ السّيرِ. فقد أفرغَهُ الكاتبُ في لحظةٍ شعوريّةٍ حلّقَ فيها في سماءِ الوجدانِ بعيدًا عن عنصري الزّمانِ والمكانِ .

هويّةُ المرأةِ: بالرّغمِ منْ أنَّ النّصَّ سيرةٌ غيريّةٌ فإنَّ الكاتبَ لم يصرّحْ باسمِ المرأةِ، ولمْ يُقدِّمْ وصفًا خاصًّا يُثبتُ هُوُيّتَها بهِ. ولعلّهُ عندَ إنتاجِ النّصِّ كانتْ في ذهنِهِ امرأةٌ بعينِها، وقد أرادَ أنْ يتّخذَها نموذجًا ينقلُ بها الوصفَ منْ دائرةِ الهمِّ الضّيّقِ إلى رحابِ الهمِّ الإنسانيِّ. فأخفى هُوُيَّتَها وملامحَها، ما منحَها هويّةً مُطلقةً غيرَ مُقيّدةٍ بزمانٍ ولا بمكانٍ.. فهوَ – كما يبدو- يُدركُ أنّ المعاناةَ مُستمرّةً منذ أن وُجدَ الخَلقُ، وستبقى مُتجدّدةً ما دام الخَلقُ يَفِدونَ إلى هذهِ الحياةِ.
بِنيةُ النّصِّ: إنّهُ نصٌّ مُنبسطٌ إنْ صحَّ التّعبيرُ، فهوَ لمْ يخضعْ للتّسلسلِ الزّمنيِّ الّذي تتوالى فيهِ الأحداثُ، ولا لتطورِ الانفعالِ؛ فهوَ على مستوًى واحدٍ. فالتّأزّمُ الشّعوريُّ يبدأ منْ أوّلِ النّصِّ إلى آخره؛ فقد صاغَ الكاتب عباراتِه منْ أطرافِ بعضِ الفنونِ البلاغيّةِ؛ بقصدِ المبالغةِ في التّعبيرِعنِ المعاني الّتي تجلّتْ بوضوحٍ منْ دونِ أنْ تفقدَ قيمتَها الفنيّةَ المُتميّزةَ، وجمالِ إيحائِها، وتأثيرِهِ؛ فامرأتُه محتسبةٌ صابرةٌ على ضيمِ الحياةِ، قلقةٌ ممّا تخبئهُ لها، ويسكنُها الحنينُ إلى شيءٍ ما.
التّجريدُ: “هوَ أنْ ينتزعَ منْ أمر ذي صفةٍ أمرًا آخر مثلَهُ فيها”. وهنا في هذهِ الصّورةِ اتّخذ التّجريدُ شكلًا عكسًّيا عمّا تواضعَ عليهِ العُلماءُ، فالمرأةُ المُخاطبةُ مشتقّةٌ منْ عنادِ الصّبرِ، ومنْ قلقِ الحياةِ، ومهجةِ الحنينِ، وليستْ هذهِ الأمورُ مشتقةً منها.. وقد ينتزعُ منْ الأمرِ صفةً كـ: لئنْ سألتَ فلانًا لتسألنَّ بهِ البحرَ، أو أكثرَ، أوكقولِ الشّاعرِ: لي منكَ أعداءٌ، ومنهُ أحبةٌ، وهنا انتزعتْ المخاطبةُ منْ تلكَ الأمورِ، وربّما في ذلكَ تأكيدٌ على أنَّ الشّاعرَ لا يقصدُ امرأةً بعينِها، أو أنَّ كلَّ النّساءِ قد اجتمعنَ في موصوفتِهِ. ومنْ ناحيةٍ أخرى فإنَّ تعدّدَ المنتزعِ منهُ يوجّهُنا إلى ما هوَ ضدّ التّجريدِ، وما يُمكنُ أنْ نُطلقَ عليهِ الوصفَ التّراكميَّ.
الكِنايةُ: الكنايةُ هيَ ما يتكلّمُ بهِ الإنسانُ، ويقصدُ بهِ غيرَهُ، وفي هذهِ الصّورةِ كنّى الشّاعرُ عن مدى صبرِ تلكَ المرأةِ الّذي فاقَ الحدَّ. فهذهِ المرأةُ مُشتقةٌ منْ عنادِ الصّبرِ، وهيَ ليستْ كسائرِ النّاسِ يبلغُ الصّبرُ عندَهمْ حدودًا لا يطيقونَهُ بعدها.
الاستعارةُ: هيَ علاقةٌ قائمةٌ على المُشابهةِ بينَ المُشبّهِ، والمشبّهِ بهِ، وقد شبّهَ الكاتبُ عنادَ الصّبرِ والمرأةِ بالوالدةِ والمولودةِ الّتي أخذتْ صفاتِ أمّها، أو هما كالخليّةِ الّتي انشقّتْ عنْ أمّها. فجسّدَ بذلكَ المعنى المجرّدِ قوّةَ الصّبرِ وأكّدهُ، ووضّحَهُ.
المبالغةُ: كما أنَّ هذهِ العبارةَ أسلوبُ مُبالغةٍ لمْ يُدرجُهُ البلاغيّونَ ضمنَ الأساليبِ البلاغيّةِ، لكنّهُ يستدعي إلى الذّهنِ الأسلوبَ الّذي يصفُ المصدرَ نحوَ قولِ الشّاعرِ: فهنَّ بهِ جودٌ وأنتمْ بهِ بخلُ. إذ جعلَهم نفسَ الجوادِ ونفسَ البخيلِ، والشّاعرُ جعلَها مُشتقةً منْ عنادِ الصّبرِ والمُشتقُّ منَ الشّيءِ ويرثُ صفاتِهِ.

المسارُ النّفسيُّ في بناءِ النّصِّ: إنَّ غيابَ التّطورِ التّقنيِّ في بناءِ هذا النّصِّ / السّيرةِ قابلَهُ شبهُ غيابٍ للتّطورِ الانفعاليِّ والنّفسيِّ الّذي كادَ أن يكونَ دفقةً واحدةً؛ لولا النّقلةُ منَ المقطعِ الأوّلِ – الّذي تحدّثَ عمّا تتزيّا بهِ تلكَ المرأةُ منْ صفاتٍ جماليّةٍ وطبعيّةٍ – إلى المقطعِ الثّاني. ثمَّ سارَ النّصُّ على وتيرةٍ نفسيّةٍ واحدةٍ في وصفِ حالِ تلكَ المرأةِ الّتي تضجُّ حياتُها بالمعاناةِ والهمومِ، الّتي تُخفيها لتظهرَ في سلوكيّاتٍ غامضةٍ، وفي مظاهرِ الشّقاءِ الّتي اعتلتْ وجهَها .
وهذا الوصفُ أبدعَهُ الانفعالُ الشّعريُّ اللّحظويُّ المُرتكزُ على عاطفةٍ ثابتةٍ في التّكوينِ النّفسيِّ لدى الكاتبِ.

أوصافُ المرأةِ: قبلَ الحديثِ عنْ أوصافِ المرأةِ لا بدَّ منْ تقسيمِها؛ فهيَ:
أ- صفاتٌ جماليّةٌ، ومنها: طليقةُ الوجهِ، مشرقةُ المُحيّا، لمّاعةُ المَلمحِ، وبهيّةُ الطّلعةِ.
ب- صفاتٌ روحيّةٌ، ومنها: شفيفةُ الرّوحِ، رهيفةُ المشاعرِ.
ج- صفاتٌ طبعيّةٌ، منها: مُتوقِّدةُ الذّكاءِ، همْسُها وَقارٌ، ومنطِقُها حِكمةٌ .
د- صفاتٌ نفسيّةٌ، ومنها: الشّعورُ بالوحدةِ (وظفرتْ بها أنيابُ الوحدةِ)، والحزنِ (ممشوقةُ الألمِ).
ولمّا كانَ المحورُ الأساسُ في النّصِّ معاناةَ امرأةٍ؛ فقد قلّلَ الكاتبُ منَ الأوصافِ الحِسيّةِ، والطّبعيّةِ، وأكثرَ منَ الأوصافِ الوجدانيّةِ الّتي أنتجتْها لحظةُ انفعالٍ، حرّكتْها شحنةٌ منْ عاطفةٍ ثابتةٍ في التّكوينِ الإنسانيِّ لدى شاعرٍ أثّرَ فيها موقفٌ ما أو مشهدٌ؛ فاقتصد في نقلِ ما صوّرتْهُ حدقةُ العينِ الّتي تُبصرُ الجمالَ الحِسيَّ، وحدقةَ العقلِ الّتي تكشفُ الفكرَ، وأسرفَ في إعمالِ حدقةِ روحِهِ الشّفيفةِ؛ لينقلَ مكنوناتِ نفسِ تلكَ المرأةِ، وسماتِ شخصيّتِها .
وبينَ الصّفاتِ الحسّيّةِ والطّبعيّةِ وبينَ الصّفاتِ الأخرى تناقضٌ ظاهرٌ وجليٌّ، لا يستوي في شخصٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ، وهو يعكسُ حالةَ الوجدِ عندَ الشّاعرِ، وهو وَجدٌ منفعلٌ بينَ مدِّ الإعجابِ بها، وجَزرِ التّأثّرِ والتّأسِّي عليها؛ فعلى سبيلِ المِثالِ يصفُها بأنّها برّاقةُ النّظراتِ، وبأنَّ في عينيها أمطارٌ حبيسةُ. ويصفُها بأنَّها: ينتحرُ فيها تمرّدُ الفجرِ، وبأنّها امراةٌ توَّجها عِنادُ الصّبرِ مليكةَ التّحدّي.
وهذا التّناقضُ يُذكّرُنا بقصيدةِ بودلير “أزهارُ الشّرِّ” الّتي وصفَ فيها امرأةً ذاتَ وجهينِ: ضاحكٍ جميلٍ، وباكٍ دميمٍ. وهي تعكسُ حركةَ التّوتّرِ الانفعاليِّ والعاطفيِّ لدى الشّاعرِ. فهو تارةً يرى بحدقةِ العينِ الرَّعناءِ، وتارةً بحدقةِ العقلِ الرّاجحِ، وأخرى بحدقةِ الرّوحِ الرّهيفةِ.
وقد انتقى الكاتبُ الصّفاتِ الحسّيّةَ والطّبعيّةَ منَ المجازِ القائمِ على علاقاتٍ دلاليّةٍ بينَ المعنى الحقيقيِّ، والمعنى غيرِ الحقيقيِّ، والّذي أصبحَ لهُ مدلولٌ مباشرٌ لكثرةِ تداولِهِ. كما أنّها من التّعابيرِ السّياقيّةِ؛ وهيَ الّتي يشيعُ فيها تلازمُ كلمتانِ. وهيَ: طليقةُ الوجهِ، ومشرقةُ المُحيّا، وبرّاقةُ النّظراتِ، ولمّاعةُ المَلمحِ، وبهيّةُ الطّلعةِ، وشفيفةُ الرّوحِ، ورهيفةُ المشاعرِ، ومتوقّدةُ الذّكاءِ، ومنطقُها حكمةٌ. وزادَ منْ عنديّاتِهِ همسُها وقارٌ؛ وهو مستوحًى منَ اتّصافِ المنطقِ بالحكمةِ.
وانتقى للصّفاتِ الأخرى مجازًا أنتجتْهُ سبحاتُ خيالٍ يبتدعُ منَ الأشياءِ المُتباعدةِ والمُتناقضةِ صورًا للمعاني المجرّدةِ، ومنْ ذلكَ: ينتحرُ فيها تمرّدُ الفجرِ، تجتازُ بوّاباتِ الأحزانِ.
عباراتُ النّصِّ: يبدو أنَّ النًّصَّ مجموعةٌ متآلفةٌ منَ العباراتِ المُتنوّعةِ، وهذا التّنوّعُ في تآلفِهِ يُضفي عليهِ ظِلالًا نفسيّةً تبعثُ بعضًا منَ الحركةِ في الإيقاعِ الرّتيبِ.
1- نوعُ الجُملِ: تنوّعتِ الجُملُ في النّصِّ بينَ الاسميّةِ الّتي تدلُّ على الصّفاتِ الثّابتةِ، والفعليّةِ الّتي تدلُّ على الصّفاتِ المُكتسبةِ الّتي تتبدّلُ بتبدلِّ الأحوالِ. وغابتْ عنهُ الجُملُ الإنشائيّةُ الّتي لا تتناسبُ معَ النّمطِ السّرديِّ والوصفيِّ. وقد قلّتْ أدواتُ الرّبطِ في هذا النّصِّ؛ ما جعلَ العباراتِ كمجموعةِ صُوَرٍ مجموعةٍ في لوحٍ واحدٍ. وهذا يدفعُنا إلى الظّنِّ، وربّما الاعتقادِ بأنَّ الشّاعرَ بحسِّهِ المُرهفِ قد تلمّسَ تمزّقَ روحِ تلكَ المرأةِ، وانعكسَ هذا التّمزّقُ في قلّةِ الرّبطِ بينَ عباراتِ النّصِّ الواحدِ.
2- عباراتٌ تقريريّةٌ مباشرةٌ: وهيَ عباراتٌ تسعى لعرضِ الواقعِ، ويخفتُ فيها الانفعالُ، ومنها: بيّضتْ حدقاتِها، وأوهنتْ جفونَها، فهاتانِ العباراتانِ لولا أنْ سبقتهما الصّورةُ البيانيّةُ (في عينيها أمطارٌ حبيسةٌ) لكانَ منَ المُمكنِ أن تكونا كنايةً. ومنْ تلكَ العباراتِ: صبرتْ فظفرتْ، وتأنّتْ فنالتْ ما تمنّتْ.
3- عباراتٌ موحيةٌ: هيَ رؤًى أخرجَها الشّاعرُ بعباراتٍ ذاتِ ظلالٍ موحيةٍ بدلالاتٍ متنوّعةٍ. وهذهِ الرّؤى وليدةُ تلاقحِ خيالِ الشّاعرِ المُبدعِ معَ عاطفتِهِ الجيّاشةِ. وهذهِ العباراتُ كثيرةٌ، ومنها: إمرأةٌ ممشوقةُ الألمِ، وتستندُ إلى كتفِ الآهِ، وتحصرُها خُلجانُ الوقتِ الضّائعِ.
4- عباراتٌ طويلةٌ ومركّبةٌ: بعض العباراتِ طويلةٌ، ومركّبةٌ منْ مجموعةِ صُورٍ تحتاجُ إلى أناةٍ في قراءتِها، والتماسِ معانيها ودلالاتِها. وهذا التّراكمُ الصُّوريُّ في العباراتِ إنّما هوَ وليدُ رؤًى عميقةٍ امتزجتْ في خيالِ الشّاعر، وخرجتْ على هذا الشّكلِ الّذي يُشبهُ في قراءتِهِ لوحةً فنيّةً تشكيليّةً. ومنْ تلكَ العباراتِ: ترتاحُ فوقَ منكبيها مغاربُ الأيّامِ، وتحطُّ بصماتِها على شلالاتِ الصّوتِ المُصادرِ خلفَ الصّمتِ المُحترقِ، وتجتازُ بوّاباتِ الأحزانِ برجفةِ بقاءٍ، تتأبّطُ تأشيرةَ وصولٍ مفتوحةٍ على ساحاتِ وجدٍ حرونٍ؛ استرخى في عطلةِ الحواسِّ في زمانِ الوحشةِ، وما زالَ يحنُّ. يُنازلُ الألمَ تحتَ نفنافِ المللِ الهاربِ منْ كوخِ الضّجرِ.

الطّبائع الفنيّة: يعجُّ النّصُّ بالأساليبِ البلاغيّةِ الّتي تؤدّي المعاني بعباراتٍ منزاحةٍ عنِ المألوفِ، تتجسّدُ بها الدّفقاتُ الوجدانيّةُ الصّادرةُ عنِ الشّاعرِ. ومنْ هذهِ الأساليبِ:
1- المجازُ الحكميُّ: وهوَ الّذي يكونُ في إسنادِ الفعلِ، أو ما هوَ بمعنى الفعلِ إلى غيرِ ما هوَ لهُ، ومنْ ذلكَ إسنادُهُ الوقارَ إلى همسِها، والحكمةَ إلى صمتِها. وقد أرادَ منْ خلالِهما أن يصفَها بالحكمةِ والوقارِ. وهذا التّوسّلُ بالمجازِ الحكميِّ يأخذُنا إلى أنَّ وقارَها وحكمتَها بمنطقِها. معَ العلمِ أنَّ هاتينِ الصّفتينِ قد تتجلّيانِ أيضًا بالسّلوكِ والمظهرِ. وهذا الحصرُ يُظهرُ عنايةَ الشّاعرِ بالجانبِ الفكريِّ والحواريِّ عندَ تقييمِهِ للأشخاصِ. وهذا أمرٌ بدهيٌّ فعندَ التّقييمِ ينظرُ المُقيّمُ منْ منظورِ اختصاصِهِ.
2- الاستعارةُ: تكثرُ في النّصِّ الاستعارةُ المكنيّةُ، وهيَ الّتي يُحذفُ منها المُستعارُ منهُ، ويُرمزُ إليهِ بلفظٍ منْ لوازمِهِ، ومنها: دحرتْها الأقدارُ فهنا ذكرَ لفظَ المُستعارِ لهُ (القدرُ)، وحذفَ المُستعارَ منهُ (الإنسانَ)، ورمزَ إليهِ بالفعلِ (دحرَ)، وهوَ تعنيفٌ بالدّفعِ باليدِ. وقد أرادَ الكاتبُ منْ هذهِ الصّورةِ البيانيّةِ أنْ يصفَ المرأةَ بأنّها محرومةٌ قصرًا منْ مُسبّباتِ السّعادةِ الّتي يخطُّها القدرُ. فتوسّلَ المعنى بتجسيدِ القدرِ؛ بأنْ أعطاهُ هيئةَ الإنسانِ الّذي يدفعُ بيديهِ مُعنّفًا، حتّى صارَ المعنى قويًّا وواضحًا منْ خلالِ هذهِ الصّورةِ الذّهنيّةِ.
3- التّشبيهُ التّمثيليُّ: وهوَ تشبيهُ صورةٍ مركّبةٍ بصورةٍ مركّبةٍ. ومنْ ذلكَ: يواكبُها شجنٌ عتيقٌ يمتدُّ ويتجذّرُ كالنّهدةِ في خلسةِ العزلةِ، فقد شبّهَها بأنَّ الشّجنَ متجذّرٌ فيها يلازمُها كما تُلازمُ النّهدةُ المهمومَ في خلسةِ العزلةِ، وقد أرادَ بهذا التّشبيهِ أنْ يُبيّنَ مدى عمقِ الحزنِ في روحِها، فتوسّلَ المعنى بتجسيدِ الحُزنِ؛ بأنْ جعلَهُ كالشّجرةِ لهُ جذورٌ راسخةٌ بفعلِ الزّمنِ؛ فقربَ المَعنى واتّضحَ منْ خلالِ تشكيلِ هذهِ الصّورةِ الذّهنيّةِ. وهُنا تدخلُ في التّشبيهِ استعارةٌ مكنيّةٌ، وقد رشحتْ هذهِ التّوليفةُ البلاغيّةُ عن وجدٍ مُحلّقٍ في خيالٍ مُبدعٍ خَلّاقٍ.
4- الكِنايةُ: هيَ ما يتكلّمُ بهِ الإنسانُ، ويقصدُ بهِ غيرَهُ. ومنْ ذلكَ: أميرةُ شجنٍ. فقد أخفى الشّاعرُ صفةَ الشّعورِ الكبيرِ بالشّجنِ، وعبّرَ عنهُ بأميرةِ شجنٍ، وهيَ كِنايةٌ عنْ صفةٍ، وهذهِ الكِنايةُ قريبةٌ لم يحتجِ القارئُ إلى تحليلٍ ذهنيٍّ لمعرفةِ المُرادِ؛ لأنُّه منَ المُتداولِ، فمتى حصلَ الإنسانُ على كمٍّ منَ الشّيءِ، قيلَ إنّهُ أميرُهُ. وقد عمدَ الكاتبُ إلى توسّلِ الكنايةِ هُنا؛ لأنّ ما يُؤدّى بها يكونُ أبلغَ، ولهُ أثرٌ أعمقُ في النّفسِ مِمّا لو عبّرَ عنهُ بأسلوبٍ مباشرٍ.
5- التّجريدُ: “هوَ أنْ يُنتزعَ منْ أمرٍ ذي صفةٍ أمرًا آخرَ مثلَهُ فيها”. ومنْ ذلكَ: امرأةٌ قُدّتْ منْ طِيبةٍ وطيبٍ.
فقد جرّدَها منْ كلِّ الصّفاتِ التّكوينيّةِ، وجعلَها مخلوقةً منَ الطّيبةِ والطّيبِ، ولعلَّهُ يقصدُ بالطّيبِ حُسنِ السّيرةِ العطرةِ. وهذا التّجريدُ يعكسُ تركيزَ الشّاعرِ على هاتينِ الصّفتينِ، أو أنّهما صفتانِ بارزتانِ فيها. وعلى كلِّ حالٍ فإنّهما ليستا تجريدًا بالمعنى الدّقيقِ؛ لأنَّ النًّصَّ مبنيٌّ على وصفٍ تراكميٍّ، وهوَ منزعٌ ضدَّ التّجريدِ الّذي يضيّقُ الوصفَ.
6- الحذفُ: ظاهرةٌ لغويّةٌ ترتكزُ على القرائنِ، وتحقّقُ أغراضًا بلاغيّةً وجماليّةً، وقد تشرّعُ الكلامَ على الدّلالاتِ والاحتمالاتِ الّتي قد يكشفُها السّياقُ، وقد يتوقّعُها القارئُ منْ تلقاءِ نفسِهِ؛ ففي جملةِ دحرتْها الأقدارُ حذفَ الشّاعرُ الجارَّ والمجرورَ؛ لاعتمادِهِ على ما تضمّنَهُ النّصُّ ممّا يُغني عنْ ذكرِهما هُنا. وهوَ كما مرَّ إبعادُها عنْ مسبّباتِ السّعادةِ. وفي قوله: حقّا لقدْ صبرتْ فظفرتْ. فقد حذفَ تمامَ الجملةِ، وأبقى على المسندِ والمسندِ إليهِ لوضوحِ المعنى؛ فهيَ صبرتْ كما دلَّ النّصُّ على المُعاناةِ حتّى ظفرتْ بِما تحلمُ بهِ.
ولا يحقّقُ الإيجازُ أغراضًا بلاغيّةً وجليّةً وحسب، فهوَ اقتصادٌ لغويٌّ يُبعدُ المللُ، وينبو عنِ الرّكاكةِ. والإيجازُ هوَ البلاغُة بعينِها كما قرّرَ البلاغيّونَ، ومنْ أدركَ مواضعَهُ فأوجزَ؛ فقد دخلَ صرحَ البلاغةِ منْ أوسعِ أبوابِهِ.
7- التّكرارُ المعنويُّ: وهوَ تكرارُ المعاني بعباراتٍ مختلفةٍ. وقد أكثرَ الكاتبُ منَ التّكرارِ المعنويِّ في وصفِهِ لتلكَ المرأةِ، وقد عكسَ ذلكَ الزّخمَ الانفعاليَّ الّذي أحدثتْهُ تلكَ الصّفاتُ في نفسِهِ. ويصحُّ أنْ نقولَ بأنَّ هذهِ الكثافةَ في العباراتِ يُرادُ منها التّأكيدُ على المعنى، أو أنَّ الشّاعرَ حريصٌ على إبرازِ التّفاصيلِ الدّقيقةِ؛ بتكرارِ العباراتِ الّتي تضيفُ كلٌّ منها على الوصفِ زيادةً. ومنَ التّكرارِ المعنويِّ: دَحَرتْها الأقدارُ، وأَزْرَتْ بها مراراتُ الحياةِ، واكتسحتْها شقاءاتُ المُعاناةِ.
ومنه أيضًا: الوحدةُ: ظفرتْ بها أنيابُ الوحدةِ – لا يُؤنسها إلّا صمتُ الوقتِ الّذي فقدَ قيمتَهُ، حصرتْها خلجاتُ الأنسِ الضّائعِ خليلة الليل في زمانِ الوحشةِ يُنازلُ الألمَ تحتَ نفنافِ المللِ الهاربِ منْ كوخِ الضّجرِ نجيَّةُ الغَيهَبِ، خليلةُ اللّيلِ تستندُ إلى كتفِ الآهِ تلمُّها السّكينةُ وفي إغفاءةِ الصّوت تطوي الآلامَ لغدٍ آتٍ تدثّرُهُ في سرِّ الخفقةِ.
ففي كلِّ عبارةٍ جديدةٍ يقدّمُها عنِ المعنى الواحدِ يكونُ قد وضعَ تفصيلةً جديدةً ليُكملَ بها الصّورةَ.
خاتمةٌ:
لقد أفاضَ الشّاعرُ “شرارة” وأجادَ، وقدّمَ نصًا مفصّلًا، أو قُلْ صورةً كلّيّةً مرصّعةً بصُورٍ جُزئيّةٍ غايةً في الإحكامِ والإتقانِ. وقد حملتْ هذهِ التّرصيعاتُ إيحاءاتٍ نفسيّةً، وشكّلت خطوطًا عريضةً ودقيقةً؛ أبرزتْ تفاصيلَ الشّكلِ والرّوحِ لدى تلكَ المرأةِ. وأصبحتِ المعاني المجرّدةُ بعبقريّةِ الشّاعرِ صُورًا ذهنيّةً مُركّبةً، كشفتْ عنْ ذكاءٍ وجدانيٍّ خارق، وقدرةٍ رهيبةٍ على تجسيدِ الأفكار المُجرّدةِ بتوليفةٍ منَ المحسوساتِ.
ولشدّة ما أسبغَهُ الشّاعرُ على هذهِ المرأةِ منْ توصيفاتٍ خارجةٍ عن المألوفِ، قد يأخذُنا الظّنُّ بعيدًا إلى أنَّ ملامسةَ روحِ الشّاعرِ لروحِ تلكَ المرأةِ منْ خلالِ الإيقاعِ والصُّورِ الفنّيّةِ والتّعابيرِ المُركبةِ، بأنّهُ يُسقطُ تجربتَهُ على امرأةٍ افترضَها من نسجِ الخيالِ؛ وهوَ ما يُعرفُ في علمِ النّفسِ بالإسقاطِ التّحويريِّ. وهوَ نوعٌ منْ وصفٍ للذّاتِ أخفاهُ برداءِ الموضوعيّةِ والحياديّةِ.
وأيًّا ما كانتْ طبيعةُ التّجربةِ الّتي ولّدتْ هذهِ المقطوعةَ الرّائعةَ، فإنّنا لا يُمكنُ إلّا أنْ نقفَ مشدوهينَ منْ براعةِ الشّاعرِ وهوَ يُجسّدُ هذهِ التّجربةَ بأجملِ الأساليبِ الفنّيّةِ، وأرقِ المشاعرِ الإنسانيّةِ. وهذا يأخذُنا إلى نتيجةٍ قطعيّةٍ بأنّ الشّاعرَ حسن شرارة منَ القلائلِ الّذين تجاوزوا عقدةَ الفنِّ الأدبيِّ، والنّوعِ الأسلوبيِّ باتّجاهِ كُليّةِ التّجربةِ الإنسانيّةِ المُتجرّدةِ منَ القيودِ والأشكالِ والأنماط

الدكتورة عبير سلامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى