إعادة الاعتبار إلى آراغون المفترى عليه بعد رحيله بعقود طويلة
إعادة الاعتبار إلى آراغون المفترى عليه بعد رحيله بعقود طويلة
طاردوه وشتموه ونسبوا إليه شعراً لم يكتبه لكنه بقي حياً فيما طواهم النسيان
إبراهيم العريس
يقيناً أن ما من شاعر فرنسي عاش خلال القرن العشرين تعرض للافتراء والظلم من قبل مواطنيه وأحياناً محازبيه بقدر ما تعرض الشاعر والكاتب لويس آراغون. لقد كان مناوئوه من القوة والسلطة المعنوية والنفوذ الثقافي وأحياناً السياسي بحيث إن صاحب “مجنون إلسا” احتاج إلى الانتظار ثلاثين عاماً بعد رحيله أواخر عام 1982 قبل أن يستقر أخيراً في قبره هادئ البال مطمئناً، وهو الذي أسعد الفرنسيين وغير الفرنسيين بمئات القصائد والنصوص، وكذلك بتلك الأغنيات التي استقيت من أشعاره وغناها ولحنها كبار المبدعين الفرنسيين من جورج براسينس إلى ليو فيري ومن بربارا إلى جولييت غريكو، وصولاً طبعاً إلى المبدع جان فيرا رفيقه وصديقه الذي ارتبط اسمه به وغنى من شعره أغنيات خالدة ضم بعضها ألبومان حملا تحديداً عنواناً ذا دلالة: “جان فيرا يغني آراغون”. بكلمات أخرى كان آراغون حالة خاصة في الشعر والكتابة الفرنسيين، ولكنه كان كذلك في النضال السياسي في هذا البلد بل حتى في المشاكسة حتى على رفاقه. وما كان من شأن تلك المشاكسة أن تعجب كثراً بما في ذلك رفاق له في الحزب الشيوعي الفرنسي الذي ارتبط به منذ انفصل عن السورياليين، لكن ارتباطه به كان نقدياً مشاغباً ما جعل البعض ينسب إليه، على سبيل الحط من شأنه طبعاً، قصيدة في مدح ستالين كانت في الحقيقة من نظم بول اليوار لا من نظمه. ومن هنا علقوا له توصيفاً ستالينياً مقحماً، ناسين أن صاحب القصيدة الرائعة “الملصق الأحمر” كان من الانتقاد للستاليني إلى درجة أنه قصد موسكو يوماً ليتدخل ضد الاضطهاد الذي كان يتعرض له مكسيم غوركي هناك، ما أثار استياء سلطات موسكو وجعلها لا تغفر له ذلك إطلاقاً.
الرفاق يقفون ضده
ولعل الغريب في أمر آراغون أن مناوئيه الكبار والمفترين عليه لم يطلعوا من صفوف اليمين الفرنسي الذي دائماً ما ناصبه هو العداء وهزأ به، ولكن من صفوف اليسار نفسه الذي وقف دائماً موقف الغاضب منه، وربما لمجرد أنه كان ناجحاً في حياته وعمله، مبدعاً في كل ما يفعله، مستقيماً في سلوكه. أما هو فإنه لم يبالِ كثيراً بما كان يجابه به، بل كان يسخر من الصائدين في مائه العكر، إلى درجة أنه ذات يوم حين اشتد الهجوم عليه بسبب بورتريه رسمه بيكاسو لستالين لمناسبة موت هذا الأخير ونشره هو على الصفحة الأولى من مجلته “الآداب الفرنسية”، أجاب المحتجين مبتسماً “أأنا مجنون حتى أرفض نشر رسم لبيكاسو في مجلتي؟!”.
إعادة الاعتبار
لقد احتاج آراغون إذاً إلى الانتظار ثلاثين سنة قبل أن يعاد إليه الاعتبار بصورة أقرب إلى أن تكون نهائية، ويتحول إلى أيقونة حقيقية معترف بها في الحياة الثقافية الفرنسية، وتتوقف الحملات التي تواصلت ضده وكأنه كان لا يزال حياً. ولقد بلغت إعادة الاعتبار ذروتها قبل عشر سنوات من الآن لمناسبة حلول الذكرى الثلاثين لرحيل آراغون على يد الكاتب والباحث جان ريستا، الذي تولى بعد رحيل الشاعر إدارة مجلة “الآداب الفرنسية” بعد أن كان هو منفذ وصية آراغون وكاتب مقدمة طبعة البلياد الأنيقة من أعمال ذلك الكاتب الكبير، بالتالي كان ريستا هو من بادر إلى وضع خاتمة للافتراء على آراغون، مذكراً المفترين، مرة وإلى الأبد، بأن آراغون الإنسان لم يعد بيننا بجسده بل رحل لتبقى “كتاباته وأشعاره خالدة خلود كل النتاجات الكبرى التي أبدعها المبدعون الكبار من طينته في فرنسا وخارجها طبعاً، فبات أيقونة كبرى فيما غاب المفترون عليه في مهب النسيان”. والحال أن ريستا إنما ضافر كلامه هذا قبل عشر سنوات من اليوم (حيث ثمة استعدادات أدبية للاحتفال قريباً بالذكرى الأربعين لرحيل آراغون)، بالمعرض الكبير الذي أقيم يومها تحت عنوان “56، شارع فارين” وتحديداً في الفضاء المسمى على اسم المعماري البرازيلي الكبير أوسكار نيماير في المقر العام للحزب الشيوعي الفرنسي -وهو من تصميم نيماير، ويعتبر آية عمرانية كبيرة وسط العاصمة الفرنسية- وضم المعرض مجسدات تصور جدران شقة آراغون المزينة وكأنها لوحات كولاج ضخمة، من المعروف أن آراغون وامرأته إلسا تريوليه اشتغلا عليها طويلاً وعلقا عليها وألصقا مقتطفات ورسوماً ومخطوطات وما إلى ذلك من ذكريات تصور حياتيهما واهتماماتهما طوال حياتهما المشتركة. ولقد تواكب ذلك المعرض يومها مع سلسلة من الندوات واللقاءات التي ركزت على إبداع آراغون وحياته، ناسية تماماً كل ضروب الافتراء والسباب التي تعرض لها في حياته وظلت تطارده سنوات بعد رحيله.
الرجل الذي حسم الأمر
قبل سنوات عشر من الآن حسم جان ريستا الأمر إذاً، وذكر بما كان آراغون يقوله لمن يبادر إلى الهجوم والافتراء عليه في كل مناسبة ولدى كل جديد يصدره. كان الشاعر يقول مبتسماً: ولماذا لا تبدأون بقراءة ما أكتب قبل أن تبادروا بالهجوم عليَّ؟ بالنسبة إلى ريستا كان السؤال الأول الذي “ينبغي الإجابة عنه بصدد آراغون في هذه اللحظة هو التالي: ما الذي يبقى اليوم من آراغون؟ أشعاره؟ رواياته؟ كتاباته بشكل إجمالي؟ أم ذلك العمى السياسي الذي رأى البعض أنه قد طبعه لفترة من حياته؟”. ومن دون لف أو دوران كان جواب ريستا “ما يمكننا اليوم قوله هو أن آراغون يقرأ اليوم أكثر من أي وقت مضى بخاصة أن الجزء الأكبر من كتاباته قد نشر وفي طبعات أنيقة من ناحية وطبعات شعبية من ناحية أخرى. ومن بين قرائه هناك أجيال بأسرها من قراء شبان ولدوا أو نشأوا بعد رحيله وبعد أن زالت تماماً أسباب المعارك التي دارت من حوله”. ولتأكيد هذا ينبه ريستا إلى الزيادة اللافتة في عدد الأطروحات الجامعية التي يخصصها الطلاب لفن آراغون كما إلى أن معظم أدبه قد ترجم إلى لغات لا تعد ولا تحصى. وفي هذا السياق يقر ريستا طبعاً بأن آراغون ناصر ستالين ذات حقبة من حياته، لكن ستالين الذي نال رضاه كان منتصر ستالينغراد وقاهر النازيين الهتلريين وباني الاتحاد السوفياتي، لا ستالين القمع والمحاكمات والغولاغ. وهنا يتوقف ريستا عن هذا الكلام المندفع ليقول “… هل في إمكان أحد على أية حال أن يأتيني بنص لآراغون يمكن وصفه بأنه نص ستاليني؟”.
كان يعلم ولكن…
“صحيح. يقول ريستا، إن آراغون كان يعلم بما يحصل في بلد الاشتراكية الأم لكنه كان يلجأ إلى الصمت لأنه كان حريصاً على ألا يؤذي ستالين ليلي بريك شقيقة إلسا، التي كانت لا تزال مقيمة في موسكو وعيون الستالينيين مفتوحة عليها”. في نهاية الأمر كان آراغون كما يؤكد ريستا “مناصراً لموسكو لكنه كان منتقداً لسياساتها من الداخل. كان مؤيداً لكنه لم يكن أعمى، ثم كانت هناك الحرب الباردة وكان من الواضح أن أي إمعان في (فضح) الستالينية خلال عهد ستالين وحتى بعد زوال هذا الأخير، معناه الوقوع في فخ العمل لصالح الأجهزة الأميركية كما فعل كثر من اليساريين المناوئين لستالين. ومن هنا فضل آراغون دائماً العمل من الداخل بما في ذلك نسفه مسلمات أيديولوجية من منظور يساري لا من منظور يميني (بما في ذلك وقوفه مناصراً، مثلاً للموجة الجديدة في السينما الفرنسية التي كانت تناوئ ليس فقط الستالينية بل الحقيقة السوفياتية نفسها. أفلم يكن هو أول الكاتبين تأييداً لسينما جان لوك غودار وفوضويتها في فيلم (بيارو المجنون) على الصفحة الأولى من مجلة (الآداب الفرنسية) تحت عنوان سيضحى شهيراً وأيقونياً طوال السنوات التالية، جاعلاً الستالينيين أنفسهم يتميزون غيظاً وغضباً: (ما الفن؟ إنه غودار)”. وإذ يتابع ريستا حديثه كاشفاً عن عشرات المواقف والتصريحات الآراغونية المتوافقة مع ذلك الموقف المشاكس تماماً على كل جمودية ستالينية، يختم قائلاً “في الحقيقة أن آراغون رد بنفسه على كل المفترين عليه بحيث ما عاد في حاجة إلينا لرفع الظلم عنه!”.
السبت 28 مايو 2022
المصدر
https://www.independentarabia.com/node/336081