بوتين.. أوكرانيا.. الأوجه الخفية”.. محاكمة تاريخية بحبر سياسي
د.طارق عبود *
يعيش العالم هذه الأيام تحولات كبيرة، فبعد أن ساد الستاتيكو على مستوى النظام الدولي، الذي تحكّمت في مفاصله الولايات المتحدة الأميركية على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وبما أنّ العالم اليوم ينتظر نتائج الحرب في أوكرانيا وتأثيرها في الخريطة الجيوسياسية العالمية، فمن المفيد رؤية المشهد السياسي الكلي، لفهم ما يجري، وتأثيره في مستقبل العالم. في هذه اللحظة التاريخية يتصدّى الكاتب الروسي – الأوكراني، فلاديمير فيدوروفسكي، لإصدار كتابه “بوتين، أوكرانيا، الأوجه الخفية، عالم تشوبه المخاطر” الصادر عن دار النهار في بيروت
والكاتب هو ديبلوماسي سابق، وعمل مترجماً شخصياً للرئيس ليونيد بريجنيف، أي أنه كان على اطلاع واسع على دائرة القرار في الاتحاد السوفياتي السابق. لكن، للأسف، ما كان ينتظره القارئ من إحاطة محايدة، أو غير منحازة بصورة كلية إلى أحد الطرفين، يجعله محبطاً، لأنّ الكاتب، وهو العارف بكثير من تفاصيل الاتحاد السوفياتي ورؤسائه، وبالفترة الانتقالية التي مرّت فيها روسيا، منذ تسلم ميخائيل غورباتشوف الحكم، ثم مرحلة بوريس يلتسين، كان شديد الانحياز إلى المحور الغربي، وحاول جاهداً أن يكون الكتاب محطة لانتقاد كل شيء منذ انتصار الثورة البولشيفية، وصولاً إلى تسلم غورباتشوف الحكم، ثم التصويب الواضح على الرئيس فلاديمير بوتين، وتاريخه وحاضره.
قراءة سياسية للتاريخ
يُجري الكاتب في هذا المؤلّف مسحاً تاريخياً للرؤساء الذين تعاقبوا على زعامة الاتحاد السوفياتي، من فلاديمير لينين، إلى ميخائيل غورباتشوف، ليصل في نهاية المطاف، بعد هذا العرض، إلى التركيز على شخصية الرئيس فلاديمير بوتين، ومحاولة فك رموزها العقلية والنفسية، اتكاءً على تجارب الرؤساء الذين سبقوه إلى الكرملين في القرن الماضي، وتقديم خلاصة إلى القارئ – من وجهة نظر الكاتب – للتعرف إلى شخصية الزعيم الروسي، وطموحاته الشخصية والسياسية والتاريخية
فالكتاب قراءة سياسية للأحداث التاريخية في مرحلة الاتحاد السوفياتي السابق، من منظور سياسي أيديولوجي أحادي. يتقصّد الكاتب أن يُبدي رأيه السياسي في الأحداث، عبر ترويج شخصيات معينة، وصنع هالة لها، والتصويب على شخصيات أخرى، وحشد ما أمكن من العناصر السلبية، والتصويب عليها من أجل اتهامها وتعريتها وإدانتها.
يبدأ الكاتب فلاديمير فيدوروفسكي كتابه بوضع رأيٍ سياسي، في حدث لمّا ينتهِ بعد، وهو الحرب الروسية الأوكرانية، فيقول: “تاريخياً، تُعَدّ أوكرانيا فشل بوتين الأعظم. في المطلق، كان من الممكن أن تشكّل أوكرانيا صلة وصل بين روسيا والغرب. لقد دفع بوتين أكثر من 18 مليار يورو لتعزيز نفوذه في أوكرانيا، فحاول شراء الأقلية الأوكرانية الحاكمة، وقام بتمرير الغاز الروسي لتغذية أوروبا… إلّا أن النتائج جاءت عكسية تماماً”. (ص 9).
يهمل الكاتب أنّ الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، موّل ثورة ملوّنة لإطاحة الرئيس الشرعي فيكتور يانوكوفيتش، وأن الغرب افتتح مسار التفسّخ في المجتمع الأوكراني، وصولاً إلى عام 2014، والحرب العرقية بين مكونات المجتمع الأوكراني.
يناقض الكاتب نفسه عندما يتهم الرئيس بوتين بتوريط روسيا في مخاصمة الغرب، وصولاً إلى الحرب مع أوكرانيا في 24 شباط/ فبراير من عام 2022. فيستشهد الكاتب بـ”السفير الأميركي العظيم – وفق تعبيره – جورج كينان، صاحب نظرية الاحتواء ضد التوسع السوفياتي، والذي قال إنّ عدم اتحاد روسيا بأوروبا يشكّل أكبر هفوة ارتكبها الغرب منذ يسوع المسيح” (ص 10). ويعقّب الكاتب على كلام كينان بالقول، إنّ كينان على حق، فلا يزال الرأي العام الروسي مقتنعاً اليوم بأنّ الغرب لم يكن يريد القضاء على الشيوعية، بل القضاء على روسيا (ص 10).
إذاً، تقع المسؤولية على الغرب، وفي المقدمة الولايات المتحدة الأميركية، وليس على روسيا، ولا سيما أن الجميع يعلم بأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، طلب صراحة إلى الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، الانضمام بصورة واضحة إلى حلف شمال الأطلسي، لكن الأميركيين رفضوا ذلك، وعملوا على توسيع حلف شمال الأطلسي لتطويق روسيا، وَجَبّوا كلَّ الوعود التي قطعها وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر لميخائيل غورباتشوف، بشأن عدم توسع حلف الناتو، وعدم ضم دول المنظومة الاشتراكية السابقة إلى الحلف
سادة الكرملين.. “عجَزة وديكتاتوريون”
يبدأ الكاتب فتح سجلات الرؤساء، الذين تعاقبوا على الكرملين، ويركّز سهامه على جوزيف ستالين، ولا يوفّر أياً منهم، مستغلاً الفرصة في تفريغ مكنوناته العاطفية السلبية تجاههم.
كان استهداف الرئيس الأسبق للاتحاد السوفياتي جوزيف ستالين (1878-1953) واضحاً من جانب الكاتب، الذي أصرّ على وصفه، عشرات المرات، بالديكتاتور. وغايته في ذلك أنّ الكاتب يعتبر ستالين ملهم بوتين الفعلي.
يروي الكاتب تفاصيل ما جرى في إبان الهجوم النازي الألماني على الاتحاد السوفياتي في عام 1941، وكيف كان الضياع والخوف يسيطران على القيادتين السياسية والعسكرية. ويسرد التفاصيل الدقيقة لما حدث، ويصرّ على تلوين حكايته برأيه السياسي. ففي أثناء مديحه شجاعة الرئيس ستالين، لا يتأخر في تمرير ما يريد، فيشير كيف كان يُعدم الفارين من الحرب، ليقدّمه في صورة السفاح والديكتاتور، والذي لا يرحم. وحتى في وصفه مشهد موته، يجهد الكاتب في تلطيخ صورة الزعيم السوفياتي، الذي انتصر على جيش هتلر الجرار، وكان سبباً رئيساً، إن لم يكن السبب الوحيد، في هزيمة ألمانيا: “يوم الأحد في الأول من آذار/ مارس، حجز نفسه في شقته، ناهياً الخدم عن الدخول… عند الحادية عشرة مساءً، فتحت مدبّرة المنزل الباب بقوة بمساعدة المرافقين. كان ستالين ملقىً أرضاً، فاقد الوعي، وملطّخاً بالبول. عندما تم الاتصال ببيريا، أمر هذا الأخير بترك الديكتاتور ينام” (ص 44).
أما خروتشوف، فيصفه بابن فلاح، وبالعامل السابق، وأنه شبه أُمّي، تعلّم السياسة في الميدان (ص47). وكان إصلاحياً محكوماً بالفشل (ص 55). ويستشهد الكاتب بشاعر، قال في عام 1958 إن “ستالين مجنون وقاتل كبير، لكنّ خروتشوف وغد وخنزير” (ص 57).
ويمر على ليونيد بريجنيف، فيقول إنه كان في عقده الخامس عندما وصل إلى السلطة، يحب الحياة، يهتم كثيراً بشكله، ويمضي أوقاته في الصيد والمكائد السياسية (ص 58)
غورباتشوف ويلتسين.. محرّر وسكّير
يبدأ الكاتب الحديث عن مرحلة الرئيس الأخير للاتحاد السوفياتي: في العاشر من حزيران/ يونيو من عام 1985، قرر المكتب السياسي التطلع إلى أصغر أعضائه، رجل جذّاب ومؤثّر، يبلغ من العمر 54 عاماً. إنه ميخائيل غورباتشوف. نبرة صوت هذا الرجل ومظهره، واختياره ملابسه، كلّها أمور لافتة للنظر. تتّسم ثيابه البورجوازية القاتمة بلمسة من الموضة الإيطالية. إلى جانبه امرأة تتباين كثيراً عن السيدات اللواتي كنّ يرافقن الأمناء العامين السابقين الأربعة. وجه زوجة غورباتشوف ودود، وعيناها لامعتان، وتتمتع بخفة الروح. رايسا وميخائيل متزوجان منذ عشرين عاماً، لكنهما يبدوان مغرَمَيْن كما اليوم الأول” (ص 61).
يكمل الكاتب إعجابه بزعيم البيروسترويكا، فيقول: لم يكن غورباتشوف عميلاً غربياً وضيعاً منتدباً من الاستخبارات الأميركية من أجل إضعاف البلد، كما يقول عنه الروس حالياً، لكن “كان لاعبو البيروسترويكا الأساسيون على ثقة تامة بأنّ النظام التوتاليتاري مجرم، ويجب أن يهلك” (ص67). ويقول الكاتب عن بوريس يلتسين، إنه من صنيعة غورباتشوف: “غورباتشوف هو من خلق بوريس يلتسين سياسياً. مصير غورباتشوف المستقيم، يقابله مصير يلتسين المتعرج والمفاجئ، كلاهما مواظب وكادح” (أين؟ لم نعلم).
إلّا أنّ يلتسين برز في عناده الشديد، إلى حدّ أنه انتفض يوماً في وجه معلمته (اعتقدنا أنه انتفض في وجه الأميركيين، الذين أذلّوه وأذلوا روسيا) (ص 68).
يتابع الكاتب: نجا يلتسين من حوادث متعدّدة (لم يذكر أحدها المؤلف)، وكان يتمتع بجسم رياضي (لم نشاهده إلا مترنّحاً مخموراً مهزوزاً). ويبرر الكاتب أنّ صحته تدهورت عندما تسلّم الحكم في الكرملين. عندما كان الكاتب يصف الرؤساء السابقين، كان يصفهم بالمرضى والعجزة، ويتهمهم بالخرف وبالخفّة. يتابع: كان يلتسين كثير المرض، متمرداً على العلاج، مريض قلب، يتعاطى الكحول بكثرة (لم يقل إنه كان مدمن كحول سكّيراً متهالكاً). وعلى الرغم من الأدوية الكثيرة التي كان يتناولها، فإنه كان يُدهش الطبقة السياسية في براعته في ربط التحالفات وحلّها (ص 69).
بوتين، أوجه خفية، ومشروع واضح
يكتشف القارئ أن غاية نشر هذا الكتاب هي التحريض على الرئيس الروسي، وانتقاده.
يستهل فيدوروفسكي كلامه على بوتين، فيقول: أولاً، هو فتى شارع، يهابه الأولاد الآخرون. يتصرف كعصابة سانت بطرسبورغ. لا يسامح أبداً، لا يتراجع، صلب الشخصية، ومحب للسيطرة. من هنا، يمكن تفسير تطرّفه (ص 16).
“أصبح فلاديمير بوتين مشكلة روسيا الأساسية، مع كل التداعيات المهمة على الشؤون الخارجية” (ص 15).
“مشروع بوتين الوطني كناية عن أوسع تجمّع ممكن بشأن مبادئ غير واضحة، لكن واعدة، تلامس المخيلة الجماعية الروسية: الحنين إلى الاتحاد السوفياتي، الديانة الأرثوذكسية، الإمبراطورية، تقديس الشخص، الفكرة الأوراسية، وعودة البلد إلى طبيعته واستقراره بعد فوضى أعوام حكم غورباتشوف، وبعده يلتسين” (ص 96).
على هذا المنوال كتب فيدوروفسكي كتابه، وقد يجد له البعض عذراً، لأنّ هواه وتوجهه كانا نحو الغرب؛ هذا الغرب الذي قال عنه إنه لم يعرف كيف يلتقط الفرصة لاحتواء روسيا وضمها إليه، ولأنّ الكاتب مشتت على المستوى الوطني، عندما أهدى كتابه إلى والدته الروسية، ووالده الأوكراني.
الكتاب فيه فيض من المعلومات التاريخية، ولا سيما المتعلقة بمرحلة الاتحاد السوفياتي، وصولاً إلى مرحلة الرئيس بوتين، ولا سيما أنّ الكاتب خبير كبير في تاريخ روسيا، وكان على تماس مع الدائرة المقرِّرة في الاتحاد السوفياتي، وفي الحزب الشيوعي، وكان في استطاعته أن يمرر رسائله السياسية، ويعطي رأيه بطريقة أقل مباشرة ووضوحاً، لكنه اختار كتابة التاريخ وفق نَفَسٍ سياسي غير محايد.