أدب وفن

فادي قباني في قصيدة اعتراف وتأمل بعنوان : أقدم اعتذاري

فادي قباني في قصيدة اعتراف وتأمل
بعنوان : أقدم اعتذاري

أنطوان يزبك

قراءة الاديب انطوان يزبك

وفيت وفي بعض الوفاء مذلّة
لإنسانة في الحيّ شيمتها الغدر .
أبو فراس الحمداني

لا يكتب فادي قباني إلا بعد قناعة ،ولا يجاهر برأي إلا بعد اختبار وهو إنسان وفيّ إلى ما بعد حدود الوفاء ، والغدر الذي واجهه هو أكثر من غدر مصدره انسانة أو إنسان ؛ إنه غدر جماعي مصدره الكثرة والناس، يعمّم حكما على كلّ وجوه الحياة ، خاصة بعد مجريات سنين الفشل والخلل والخبل التي مرّت ولا نزال نعاني تحت وطأتها.

في هذه القصيدة ، نرى فادي قباني مكافحا مستاء ضنينا على ذاته و وحدة نفسه الداخلية ، لم يكتب إلا تحت وطأة مؤثرات ذهنية داخلية صعبة ، وضغوطات وألم عنوانها كلها رهافة الاحساس، ومحنة عاطفية إنسانية شاملة ، كبيرة ، تمتدّ جذورها إلى أعوام واعوام .
وفادي ليس إنسانا صعب المزاج ، ولا هو محب للعزلة كما قد يظن البعض ولكن في هذه القصيدة التي عانى كثيرا حين كتبها ؛ الكثير والكثير من جوانب روحه الداخلية و ما آلت إليه الأيام في أقبح عصر من عصور الانحطاط ، وفادي يعيش متأمّلا في صحراء نقبية ناسكا كمثل القديس يوحنا المعمدان يغتذي بشهد القفار كما يقول في القصيدة ويوزع من عسله ولا يبخل على أحد من الطالبين ، هذا الشهد الذي هو في الحقيقة نكتار كل التجارب وكل الخبرات في عالم القصيدة الذهبي الذي فقد لمعانه وتهافت في ظلّ سنين عجاف وجحود لا يوصف لشدّة قسوته ، جحود لا يصدّقه من يعتبر أن الإنسان هو كائن سام من المفترض به أن يزرع ويحصد الحق والخير والجمال .

واجه فادي جحودا ، يصدر من قبل أقرب الأقربين ، يصدر على هتاف المدّاحين المدانين من قبل الحقيقة التي تشوّهت بيد جماعات من الناس الذين انضموا إلى جوقة التفاهة واللامبالاة ، وهم يسخرون و ينشرون النميمة والاغتياب ..

فادي قباني في هذه القصيدة المكثفة والمقطرة من عصارة تفكير عميق ، يمثل كل شخص يحترم ذاته الداخلية وأعني بالذات الداخلية الشخصية النفسية التي هي مزيج العواطف والضمير والقناعات والخيارات التي اردناها لأنفسنا طوال حياتنا وهذه النفس الذاتية الداخليّة نحمّلها الكثير من اجل الارتقاء بالثقافة والعلم والمعرفة ، هذه الذات نرهقها ارهاقا شديدا و نستنزفها من اجل تحقيق المثل العليا التي ناضلنا لأجلها حتى نكتشف مدى مجانية الذين بذلنا أنفسنا من أجلهم فتقتلنا سذاجتهم و قلة حيلتهم الفكرية وأجرؤ على القول ” قرديتهم” فمعظم الناس من الذين يجاهرون بانتمائهم إلى وسط الثقافة باتوا يتسعدنون ويتناتشون اثمار الموز من على مائدة الوهم ، ومن يشاهد تهافتهم بصورته المذلة ، تأنف نفسه ويطلب الغفران من ذاته كما فعل فادي جاثيا تائبا وأكاد أقول ، نادما أيما ندم ، فهو يعلم يقينا أن من هانت عليه نفسه هانت لدى الناس :
لا تحاججوني يقول ، ولا تجاهروني ، بقي مع الجميع شاطرهم القوت والخيرات والعسل سهر معهم حتى “طلوع الضو” ولكن ماذا كانت النتيجة؟
في كتاب : أنا لست مجنونا إنما أنا لست أنت ؛ للمؤلفين روجر بيرمان وسارة البريتون ،رسما للشخصية الإنسانية ، خلاصته انه قد يكون ثمة تماثل بين الناس ولكن الفروقات كبيرة والخطأ الكبير الذي قام به فادي في حياته الماضية أنه كان يقيس الناس على نفسه وأحبهم حبا كبيرا من دون شروط حبا قدسيا إلى أبعد حدود ، فتألّم كثيرا ليكتشف على غرار السيد المسيح : ان مملكته ليست من هذا العالم
فالأرض هي كما يرد في الكتاب المقدس ” وادي دموع” و حقل تجارب واسع تسقط فيه القنابل الذرية النووية العاطفية التي ما إن تنفجر ، حتى تتولّد منها سحابات خيبة وألم قهري، لا تنقشع بسهولة ، في هذه القصيدة بوح صادق ونزاهة وكثافة في التعبير كما أسلفت ، هي واحدة من القصائد التي تعيش طويلا في الوجدان لأنها تتلقف لحظة كثيفة و قوية يكون فيها الإنسان في ذروة الوعي والانكشاف الحسّي والروحي ، فيقول وفي لحظة فريدة و مرة واحدة لا تتكرّر ابدا ، خير ما يقال في ملايين المرّات ، وهاكم القصيدة خير دليل على ما يدور في الذات الإنسانية :

قصيدة الشاعر فادي قباني

أقدم اعتذاري

لا تُحاجِجوني زهواً بانكِساري
ولا تُجاهروني بسوطِ انهياري

فلا أمسي أمضيتهُ عنكم غائبا
وما تنعّمتُ جاحدا بشهدِ قِفاري

كنتُ أطويهِ ليلي عليّكم قائما
اصبو لفجر طال لأجلهِ انتظاري

بئسَ ما حَصَدْتُهُ بالقحط نادما
بعد أن ذَرَيْتُ لكم غلالَ بذاري

ما علمتُ ان لكم بالريحِ منادما
وأني سأشحذُ الهوانَ باختياري

الا تبا لقدر اتاني بوجههِ جاهما
إذ خانني الظن أنّ بكم انتصاري

ها قد تباهى ذا اللُّؤمِ عليَّ لائِما
وما كان من عفوٍ الا بدَحِّ وقاري

اعود بذاكرة ما كنت عليها هائما
اجثو امام نفسي اقدم اعتذاري .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى