أُوْبَا / قصة قصيرة/ نورة عبيد*


أُوْبَا
سمعت كثيرا عن فلسطين وعن أطفال الحجارة. وسمعت عن محمّد الدّرة وعن أبيه. عرفت أنّ الأطفال بفلسطين يكبرون سريعا. وشاهدت أيضا على الشّاشات والمنّصات ومواقع التّواصل الاجتماعيّ علم فلسطين مرفوعا مرفرفا ضاربا في الأعالي. صرت أحلم بفلسطين. بالأطفال الّذين فقدوا أمّهاتهم أو آبائهم أو الاثنين. رأيت نفسي بينهم أغنّي وأرقص تلك الرّقصة الفلسطينيّة الأصيلة. تلك الدّبكة الهدّارة . حفظت أغنيات وأشعارا تترنّم بفلسطين. وأنشأت صداقات مع أندادي من فلسطين. أحببت فلسطين؛ أرضها وناسها وزرعها وطيرها والحجر الّذي يمسكه أطفال فلسطين. ولا أنسى أوّل يوم لي بالمدرسة. نادتنا المعلّمة بأسمائنا. ودعت كلّ تلميذ أو تلميذة إلى السّبورة ليعرّف بنفسه. وكلّ التّعريف أن ننطق بأسمائنا. ونذكر أعمارنا و بلداننا. فأنا أدرس بمدرسة دوليّة خاصّة. لا زلت أذكر تلك الطّفلة السّاحرة. جميلة رقيقة عذبة الصّوت والوجه، ما إن بلغت مكتب المعلّمة حتّى قالت في ثقة واعتزاز بالنّفس: – أنا سلمى درويش من فلسطين. ولا أدري كيف وجدت نفسي بجانبها. أمدّ لها يدي مردّدة: – أنا نور السّالمي. من تونس وأعشق فلسطين. أنا أحبّ فلسطين. أنا أعرف فلسطين بعيدة. أنا أحبّ أن أكون مع أطفال فلسطين. رجعت سلمى لمكانها وعدت أيضا لمكاني. وبدل أن أنظر إلى السّبورة. تسمّرت عيناي بوجه سلمى. لا أذكر ردّة فعل المعلّمة. كلّ ما بقي بذهني ابتسامتها العريضة الّتي ألقت بصدري الاطمئنان. ولمّا رنّ الجرس مُعلنا انتهاء الحصّة. تقدّمت منّي سلمى ومسكت بيدي. وخرجنا متعانقتين إلى السّاحة. هناك وجدنا الأمّهات ينتظرن أبناءهن وبناتهن. بحثت عن أمّي وبحثت عن أمّها. ودون اتّفاق مسكت كلّ واحدة يد أمّها وقادتها نحو صديقتها. قلت لأمّي دون مقدّمات “وجدت فلسطين”. فابتسمت لي وللسّيدة الّتي وقفت أمامنا. مدّت يدها مسلّمة. ثمّ قالت في لكنة شرقيّة: – فدوى درويش. أمّ سلمى درويش. ملحقة بالقسم الثّقافيّ لدولة فلسطين. – فردّت والدتي مرحّبة: منى القاسم أمّ نور السّالمي. أستاذة التّاريخ المعاصر بجامعة منوبة. لم نغادر ساحة المدرسة إلاّ بعد أن تعانقنا طويلا. وبقينا نشيّع بعضنا. وعدنا إلى منزلينا ونحن ننتظر لقاء الغد. لم يكن لقائي بسلمى عاديا. فأنا أنعم بصداقات عديدة. صديقات وأصدقاء النّوادي والأهل والعائلة وأبناء زملاء والديّ. فلا يمرّ شهر تقريبا دون أن يضاف إلى قائمة أصحابي اسم أو اثنين. كان كلّ همّنا أن نلعب ونمرح ونبرز مهاراتنا. ونغضب ونتخاصم. ثمّ نعود من جديد بذات الشّوق للّعب والتّنافس. وكلّما سافرت أمّي لحضور ملتقى علميّا أو ندوة، أقيم مع جدّتي فاطمة. وجدّتي فاطمة مثقّفة من الطّراز الرّفيع تقول أمّي. لا يمرّ يوم دون أن تتصفّح كتابا أو معجما أو صحيفة. ولا تفوّت مشاهدة البرامج الثّقافيّة والسّياسة. فكلّما اقتربت من جدّتي، كلّما تغيّرت عاداتي واهتماماتي. فأتخلّى عن التّلوين. و أنصرف لمتابعة ما تتابع. فمن بيت جدّتي انتبهت لفلسطين. ومن هناك رأيت على شاشة التّلفاز شريطا وثائقيّا على أطفال الحجارة. فبادرت جدّتي قائلة: – أطفال الحجارة ! هل هم أطفال صنعوا من حجارة ؟ فنحن بنادي الفنون نصنع أطفالا من الصّوف ومن القصب ومن الصّلصال الصّحي. ونسمّي الأطفال عرائس. – ابتسمت جدّتي ابتسامة عريضة تبعها صوت خافت. وجدّتي لا تضحك مثلما نضحك ولم أسمعها مرّة تقهقه أو ارتفع صوتها لأمر من الأمور. ثمّ قالت: – أطفال الحجارة – يا روح جدّتي- أطفال فلسطينيون من القرى والمدن قادوا احتجاجا تلقائيّا على آلة الحرب الإسرائيليّة. أطفال تجمّعوا ورفعوا الحجارة سلاحا يواجه جيشا بالدّبابات والدّروع الواقيّة. فكانت انتفاضة مباركة. حجارة أطفال عزّل تقف في وجوه جنود مدّججين. وكما شاهدت – يا نور- رصاص حيّ أصاب مئات الشّهداء من الأطفال. وأصاب المئات في عيونهم البريئة. ففقدوا أبصارهم نتيجة استعمال الطّلقات المطاطيّة….آه يا كبدي. حرب القويّ على الضّعيف. حدث ذلك سنة 1987 وتوقّفت سنة 1993. – و لو لم أقاطع جدّتي ما كان لها أن تتوقّف عن الحديث: من أوقفها يا جدّتي؟ – الكبار طبعا أوقفوا … – المهمّ أنّهم أوقفوا الحرب. حرام يا جدّتي ما حدث. – ابتسمت ثانيّة معقّبة: حرام يا نور حرام. الأطفال يا صغيرتي مرايا الأمل. وأطفال الحجارة كانوا كذلك. ربّما لم أفهم معنى الرّصاص الحيّ الّذي تتحدّث عنه جدّتي. حتّى شاهدت فلما وثائقيّا عن محمّد الدّرة. يومها أيضا كنت بمنزل جدّتي. كانت تخيط أعلاما صغيرة. كنت أتابع حركة يديها وقدميها وهي خلف ماكينة الخياطة العتيقة. أبهرني أن تعالج جدّتي العجوز الأقمشة. وتشدّها لتكون أعلاما بهيّة الألوان. فأنا مفتونة بالأخضر والأبيض والأسود والأحمر. رفعت علما من كومة الأعلام الملقاة بجانبها. وقالت مبتهجة: – علم فلسطين ! كلّما خطت علما – يا نور- ورفعته أشعر أنّي رفعت فلسطين وأرض فلسطين؛ كلّ فلسطين. – فسألت مستغربة: ولم هذه الأعلام؟ إنّها برشاء! هذه المرّة ضحكت جدّتي فعلا من كلمة برشاء. فأنا سمعتها تقول لأمّي أنّها كلمة عربيّة تعني الكثرة. وأبعدت كومة الأعلام من أمامها وفي نخوة أجابت: – غدا يوم الأرض يا نور عين جدّتك. ويوم الأرض… – قاطعتها كعادتي: يوم محمّد الدّرة… – لا يا نور لا… محمّد الدّرة هو… – هو طفل قتله الرّصاص الحيّ ! انظري دمه يا جدّتي، انظري كيف يحتمي بأبيه، انظري يد أبيه انظري يا ماما وانخرطت في بكاء متواصل. كأنّ الرّصاصات الّتي أطلقت على محمّد تطلق عليّ الآن… فهربت من أمام الشّاشة، واختفيت خلف جدّتي كما اختفى محمّد الدّرة خلف أبيه….لم تصدّق جدّتي ما حدث! سرعان ما نادت على معينتها المنزليّة. وطلبت منها الاتّصال بطبيب العائلة. لم أستفق إلاّ وأنا ممدّدة على سريرها تهدهدني ماسكة بيدي. وبجانبي أبي. كانا يتبادلان النّظرات في صمت. حتّى قال أبي: – لنعد إلى المنزل يا نور…ألم أطلب منك تجنّب مشاهد العنف؟ – بلى. ولكنّ هذا مشهد حقيقيّ! – ولو يا نور. مازلت صغيرة. ستكبرين وتفهمين…أمّا الآن … – رجاء يا أبي اتركني حذو جدّتي… بادرت بهذا الطلب. لأنّي رأيت في عينيه قرار عودتي للمنزل. وأنا أحبّ البقاء هنا حتّى تعود أمّي. وافق على مضض. وقبل أن يغادر. لمحته يهمس لجدّتي بكلام على انفراد. الحقيقة أنّها ليست المرّة الأولى الّتي أتأثّر فيها تأثّرا بالغا بما أشاهد. فأنا ذكيّة القلب متفتّحة على كلّ ما يقع في العالم من حولي. وأشدّ ما تعلّقت به، هم لداتي من الأطفال. أطفال العالم الّذين لا مأوى لهم لسبب من الأسباب. أطفال تونس وأطفال فلسطين وأطفال اليمن وأطفال إفريقيا ..كلّ… كلّ الأطفال أشعر أنّهم إخوتي. ووجب أن يتمتّعوا بما أتمتّع من مأكل وملبس ولعب….كنت دائما أسأل أمّي عن سبب الاختلاف بين أطفال العالم ! لم لا يولد الأطفال ليسعدوا فحسب؟ لم يموت الأطفال؟ كانت أمّي كلّما أمطرت عليها بأسئلتي، تبحث عن إجابات لا تقنعني. وأكثر إجابة تقلقني وتغضبني “أنت صغيرة”. صحيح نحن صغار. لكنّنا نفهم مثل الكبار السّياسة والثقافة. نعم نحن نعرف أنّ السياسة هي الحرب. ونعرف أنّ السياسة هي القتل. ونحن متأكّدون أنّ السياسة هي لا تحبّ الأطفال. هذا ما نقوله نحن الأطفال إذا لعبنا أو رسمنا أو غنيّنا. نحن الأطفال نقول للكبار “أعطونا السّلام” عادت جدّتي لأعلامها. تعدّها وتصفّفها. ثمّ تضعها بكيس من قماش. وحاولت ألاّ نعود لحديث الصّباح. بيد أنّي نجحت في استدراجها. واقتلعت منها الإجابات الّتي أبحث عنها. فمحمّد الدّرة شهيد من قطاع غزّة، شهيد انتفاضة الأقصى سنة 2000. هكذا قالت جدّتي .من انتفاضة أطفال الحجارة إلى انتفاضة شعب فلسطين في كلّ أنحاء العالم. وأمّا يوم الأرض فهو يوم الأرض الفلسطيني الّذي يحتفل به الفلسطينيون كلّ 30مارس. احتفال يخلّد الوفاء لذكرى احتجاج الفلسطينيين على السّلطات الصّهيونيّة الّتي صادرت أراضيها بالجليل و النقب سنة1976 . احتجاج تحوّل إلى مواجهات عنيفة خلّفت جرحى وشهداء. ومن ينسى خالد وخديجة من؟ لم ترو لي جدّتي قصّة خالد وخديجة يومها. ربّما خافت عليّ وربّما خافت من أبي. تعرّفت على القصّة كاملة حين توطّدت صداقتي بسلمى درويش. وحدث ذلك بعد ستّ سنوات. لقد شاع بين المتعلّمين أنّ السّيدة الجميلة أمّ سلمى على قرابة بمحمود درويش. ومن منّا لا يعرف محمود درويش كما تقول أمّي! كانت سلمى تعتدّ بمعرفتها بهذا الشّاعر. ولتبرهن على قرابتها منه، كانت تضع دواوين شعره بمحفظتها. وكانت كلّ يوم أرض تقدّم للحضور قصيدة “الأرض”. لقد تعوّدت أن أحتفل بيوم الأرض مع جدّتي فاطمة. كنّا نذهب منذ الصّباح إلى مكان الاحتفال. هذه السّنة تخيّر المنظّمون أن يكون بقبّة المنزه. قبّة أقيمت لاحتضان الألعاب الرّياضيّة وبعض الحفلات الغنائيّة. وأشهر من غنّى بها مايكل جاكسون. هاهي سلمى درويش؛ الفتاة اليافعة تعتلي المنصّة الّتي ازدانت بأعلام فلسطين. وسجّاد فلسطينيّ. وخلفها علّقت صور الشّهداء الفلسطينيين. وصور محمود درويش وسميح القاسم وفدوى طوقان. ومئات الصّور لأطفال الحجارة وصورة لمحمّد الدّرة على شكل تمثال لولبيّ لافت. تقدّمت سلمى ترفل في لباس تقليديّ فلسطينيّ، وحول عنقها الشاش الشّهير المنسوج بالأبيض والأسود. لقد بدت لي سلمى حمامة كسرت حديد السّجون وقطّعت سلاسله. هاهي تحيّي الحاضرين بالدّبكة الفلسطينيّة الهدّارة. ثمّ تقول: أهدي إليكم قصيدة محمود درويش بعنوان “الأرض” وقد خلّد بها الشّاعر ذكرى أحداث يوم الأرض. وكلّ فلسطينيّ يعرف أنّ القصيدة تخلّد ذكرى الشّابة الشّهيدة “خديجة قاسم شواهنة”. ولا شكّ أنّكم لم تنسوا الحادثة ولن تنسوا. وتتراجع قليلا عن المصدح، وفورا عمّت القبّة موسيقى حزينة كأنّها تشقّقت من فجوج الجدران والنّوافذ، وكأنّها أنين يغادر الأفواه والأنوف والآذان. وانسحبت الموسيقى شيئا فشيئا لتستأنف سلمى الحكاية: – كانت عائلة خديجة تجلس على مصيف المنزل، لمّا فاجأهم طلق رصاص بالقرية. فأسرعوا إلى جوف البيوت. وحين انتبه الأب لغياب ابنه خالد طفل الثّماني السّنوات، أرسل ابنته الشّابة خديجة لتبحث عنه. فقد ظنّ الأب المسكين أنّ الجنود لن يقتلوا امرأة بعد حظر الجولان. إلاّ أنّهم صوّبوا الرّصاص على ظهرها وهي تهمّ بولوج البيت غير الآمن. ثمّ هزّت قدميها هزّا ورقصت رقصة الوفاء لخديجة وللأرض والشّهداء. وأطلقت كالصيحة لم نسمع منها غير ثلاثة حروف “أُوْبَا” وطفقت تنشد بصوت شجيّ: أنا الأرض والأرض أنت خديجة ! لا تغلقي الباب لا تدخلي في الغياب سنطردهم من إناء الزّهور وحبل الغسيل سنطردهم عن حجارة هذا الطّريق الطّويل سنطردهم من هواء الجليل صفّق الحاضرون طويلا. ومن الحاضرات من الفلسطينيات من أطلقت زغاريد توديع الشّهداء. فترقّقت النّفوس. وقبل أن تنزل سلمى من على المنصّة، علت جوقة من الشّبان المقنّعين. وأطلقوا ذات الصوت “أُوْبا”. ثمّ تشكّلوا على صورة العدد 194. فعجّت الحناجر فلسطين فلسطين. لم أفهم جيّدا ما يحدث ساعتها. لكنّ جدّتي مسكت بيدي. فابتسم بجانبها رجل بهيّ الطّلعة، مديد القامة. اشتعل رأسه شيبا. فربّت على كتفي وهو يقصد منصّة العروض. إنّه الشّيخ الّذي نودي باسمه “توفيق فياض” وكرّره المنادى ثلاث مرّات. كان يشقّ الجمهور ثابت الخطى والنّظرات. يرفع يده راسما شارة النّصر. يردّد مع المردّدين “أوبا، أوبا”. وعندما بلغ المنصّة وقف الحاضرون. وسرعان ما توسّط الشّبان. وطلب منهم رفع الأقنعة الّتي تغطّي وجوههم مخاطبا الحاضرين: – نحن أصحاب الأرض والعرض. وحقّ العودة حقّ مضمون بالأرض والقانون. – فردّدنا: أوبا أوبا سنعود لأرضنا واقفين. سنغنّي على أرض فلسطين. سنعود أجمعين. وكما طردنا من أرضنا وسمائنا سنعود لأديمها وبروجها. ولو كنّا مقبورين. الفلسطينيّ يا كرام شعب الجبّارين.فازداد الهتاف “فلسطين فلسطين”. انتهت العروض في حماس خالص. على إثره لبّت عائلتي دعوة عائلة سلمى للغداء على شرف حضور “شيخ الأسرى؛ توفيق فياض”. ونحن في الطّريق إلى منزل العائلة، علمت أنّ جدّتي تعرف أيضا توفيق فياض. فقد جمعتهما صداقة متينة منذ1982. كانت تحدّثنا عن صديقها كما تتحدّث عن كتاب أو فلم. فهذا الشّيخ الّذي أراه من أقدم الأسرى الفلسطينيين. استشهدت زوجته اللّبنانيّة .وهو أديب يكتب للأطفال والكبار. وانتهت به رحلة العمر إلى الاستقرار بتونس. وليس وحده من استقرّ بتونس. فكثير من الفلسطينيين يقيمون بيننا إخوة أحرارا. وعلمت من حديثهم أثناء الغذاء معنى 194. تحدّث ذلك الشيخ المهاب عن قانون العودة الّذي يقرّ حقّ الفلسطينيين في الاستقرار بأرضهم، بعد ترحيلهم وتهجيرهم وتعذيبهم. أنا لا أستطيع أن أتخيّل من يتجرّأ على هدم بيتنا ! ولا يمكنني تخيّل ذلك. كيف لي مثلا أن أترك غرفتي ودميتي وأمتعتي. كيف لي ألاّ أركب أرجوحتي كيف؟ أنّى استطاع الطّغاة أن يقتلوا مرايا الأمل كيف؟ وكيف يستطيع الكهول والشّيوخ ألاّ يعودوا إلى قراهم ومنازلهم كيف؟ فمن يمنع الفلاّح أن يعود إلى حقله؟ ومن يمنع الصّيّاد ألاّ يدخل البحر؟ ومن يمنعني أن أزور جدّتي وأتنقّل من المرسى إلى باردو من؟ أسئلة عجّت برأسي ورأس سلمى. لأوّل مرّة نحتفل بيوم الأرض بفضاء القبّة. ولأوّل مرّة تجتمع العائلتان. فكثيرا ما يكون أبي مسافرا أو أبو سلمى. وكثيرا ما تكون أمّ سلمى مشغولة. وأمّا جدّتي فنادرا ما تغادر مستقرّها الّذي ألفته. ولولا اطّلاعها على برنامج الاحتفال ما اصطحبتنا. وأظنّ الآن أنّ حضور توفيق فياض هو الّذي شجّعها على متابعة العروض. لقد استمتعت بمشاهدة مسرحيّة أبطالها سلمى وتوفيق فياض. أخبرت جدّتي. والصّراع في المسرحيّة قائم بين الحاضرين من ممثّلين وجماهير وظالم مستبّد غائب. لكنّه معلوم. فنحن جميعا يا جدّتي كنّا نصارع خطرا واحدا. خطر قتل ويقتّل الأطفال على أرضهم وفي عقر دارهم وفي حضن الآباء والأمّهات. فهزّت جدّتي يدها ربّما إعجابا وربّما استغرابا. والتفت إلى سلمى مطلقة تلك الكلمة اللّغز “أوبا”. فردّت عليّ “أوبا، أوبا”. حين انتبهت أنّ الأنظار تراقب حركاتي وسكناتي، وقبل أن أسأل عن سرّ هذه الكلمة، وقف توفيق فياض ومسك بيدي ويد سلمى وأطلقنا “أوبا ،أوبا”. ثمّ قال: – الكلمة – يا سادة يا مادة يدلّنا ويدلّكم على الشّهادة – مستوحاة من جذر (ء،و،ب) فنقول ” آب ” و”أَوَبَ” و “الأُوْبُ” وجميع مشتقات الجذر لها معنى أصليّ وهو. – فقلنا بصوت واحد: العودة، العودة. فردّ علينا ونظر إلى سلمى: نحن في يوم الوفاء للأرض ولأصحابها. نسلّمك يا سلمى نداء العودة والوفاء “أوبا” صوت خرج تلقائيّا يجمع شمل الفلسطينيين على أرضهم ولو بعد مليار عام. ثمّ جلس حذو جدّتي. بينما انطلقت وسلمى في حديقة غنّاء، ننضّد لهما أجمل باقة ورود حمراء وبيضاء سنلفّها بشريطين أخضر وأسود.