أدب وفن

قصة قصيرة/ اليوم الموعود بقلم بختي ضيف الله – الجزائر

قصة قصيرة/ اليوم الموعود
بقلم بختي ضيف الله – الجزائر

بعد أن وصلنا إلى المكان الذي قالت كل الوسائل الإعلامية العالمية  أنه آمن، تمسك بي حفيدي بقوة، كأنه خاف أن يجتث من فوق الأرض، ثبّت قدميه على ترابها الساخن وانتظر المجهول.

– لا تخف يا ولدي، لقد تعودنا على هذه المشاهد المكررة.

توافد النازحون الفارون من قصف الطائرات والدبابات. التقينا بأحبتنا وأقربائنا من كل فلسطين، نستعرض أسماء المدن التي تركها الأولون، نعيد للتاريخ معالمه.

نظرتُ إلى السماء والسحاب المسخر في لوحة جميلة أبدعها ربٌّ شهيد على كل شيء، عكّر صفوها خوارُ ثور هائج تذكرت صوته الغريب وصورته البشعة؛ يخوّف الناس بقرنيه الحادين، يتوعدهم بالجحيم كل يوم، يستمع وينصت المرجفون في المدينة إلى لغة قواه.  همس صغيري إليّ، والدمع  يملأ مقلتيه:

-لم أقرأ على معلمي سورة البروج، وقد حفظتها كلها؟

قبّلت خديه المشرقين بالنور؛ فذهبَتْ عني تلك الصورةُ المظلمة التي ساقها غبار متصاعد من أقدامنا ونحن نجْمَع ليوم عسير.

ابتسمتُ ابتسامة عريضة، وابتسم هو فأطلقت عيناه دموعها المحاصرة،  لؤلؤات زيّنت خديْه الورديين.

– لا تقلق قد علِم معلمك بحفظك لسورتك، هو يعلم أنك مجتهد، جيد الحفظ..

لم أخبره أنه استشهد في القصف الأخير الذي ضرب المدينة ثلاث ليال متواصلة، لا يزال تحت حطام مدرسته بين كتبه، شاهدا على عدو حاقد يقتل فينا كل شيء جميل، ثم جثَوتُ على  ركبتيّ؛ احتضنته بقوة لعلي أنسيه بعض آلام يضيق بها صدره الصغير، تمنيت أن لا يرفع رأسه إلى السماء وقد امتلأت بسرعة البرق بطائرات كالجراد، لم نسمع لها صوتا، لم نر مثلها من قبل، أمطرتنا برسائل زرقاء مكتوبة بالعربية؛ أن نتوجه إلى سفن وحافلات لا تحمل أرقاما ولا أعلاما، أعدت  لنا لنرحل  إلى أرض غير أرضنا وإلا سنبقى في محشرنا تأكل أجسامنا النار.  

بعد أن قرأتها اعتصر قلبي ألما، كاد يخرج من قفصه؛ كيف نترك الأرض التي أحببناها وأحبتنا، فيها بداياتنا ونهاياتنا، نشبه زيتونها وبرتقالها، كيف تنتهي رحلة الأجداد هكذا؟ بخطوة بعيدة عن المسار الذي حدد لها يوم خرجوا من نابلس ويافا وحيفا..  حافيي الأقدام  بعد أن أحرقت  العصابات كل شيء، تتبع أثرهم أينما ذهبوا.

تراصّ الجميع كالبنيان، لم نبال بالرسائل التي حفظناها، لم نعد نسمع غير نبضات قلوبنا ونحن نستعد للرحيل؛ نصبّر بعضنا؛ هكذا قدرنا؛ اختارنا الله لنكون أنصاره في عالم موحش يشبه  أخدودنا التي نساق إليها، تصبُّ نار ذات وقود على رؤوسنا صبا، و تخرج من تحت أرجلنا، والناس أمام الشاشات شهود، قعود على الأرائك  في بث مباشر، يبحثون عن أجود الصور  لأجسادنا وأفضل والأصوات لصرخاتنا.

أغمض الجميع عيونهم كي لا نرى أجسادنا تشوى.. غرس حفيدي رأسه في صدري.. كأني سمعتُ روحه تخاطبني: إنّ ربي يبدئ ويعيد؛ يا ليت قومنا يعلمون أننا عدنا من جديد أحياء، وأنّ غزة خرجت من تحت رمادها، وأنّ العدو عاد إلى شتاته مهزوما..


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى