غير مصنف

فى أربعينيّة ابن “أصيلة” الأصيل .. محمّد بن عيسىَ كما عرفتُه

فى أربعينيّة ابن “أصيلة” الأصيل .. محمّد بن عيسىَ كما عرفتُه

د. السّفير محمد محمد الخطابي *

فى العاشر من شهر أبريل الجاري حلّت الذّكرى الأربعون لرحيل أحد أبرز وجوه السياسة، والثقافة، والإعلام فى المغرب السفير الوزير محمد بن عيسى الذي غادرنا الى دار البقاء فى  الثامن والعشرين من شهر فبراير 2025  رحمه الله.. ماذا عساني أن أقول عنه بعدما قيل فى حقّه وعن رحيله المُفجع الكثير،هذا المثقف الحصيف الذي تعرّفتُ عليه منذ أوائل السّبعينيات من القرن الفارط  إثر عودتي من رحلة الدراسة والتحصيل فى قاهرة المعزّ لدين الله الفاطمي،كنّا  آنذاك شباباً فى مقتبل العُمر، وفى شرخ الحياة وريعانها ، كانت رؤوسنا مملوءة بأفكار التحرّر، والإنعتاق، والتّوق، والتطلّع نحو عالم أفضل أكثرَ عدالة، ومساواة، ونزاهة ونبلاً ، وكانت قلوبنا تتفجّر وتلهج بحبً الوطن الغالي الذي غبنا عنه لسنواتٍ بعيدة ، ذقنا خلالها طعم الغربة المرير،والتيه،والبِعاد، والسفر، والترحال ،والتجوال فى بلاد الله الواسعة ،كانت كتاباتنا المبكّرة تنثال على أناملنا كشلاّل منهمر، وكانت تُبصَم على تلك الصّفحات الناصعة البياض من أوراق الفولسكاب التي لم يعد لها وجود فى حياتنا اليوم ،والتي حلّت محلّها دساتين الرّقن على الحروف المرصُوفة على واجهات الحواسيب المختلفة الأحجام والأصناف التي أصبحت تملأ حياتنا فى كلّ مكان ، كانت هذه الكتابات المُبكّرة تأخذ طريقها الى النشرفى الصّحف، والجرائد والمجلاّت العربية والوطنية آنذاك أمثال : ”  أخبار اليوم” ،و” العُمّال” ،و”الهلال” المصرية، ثمّ فى ” العَلَم” ، و” المُحرّر”،  و” الأنباء” و” دعوة الحقّ ” المغربية ،و بعد ذلك فى “العربي” الكويتية، و” الدّوحة ” القطرية، و”الأقلام”  العراقية”، وبعد ذلك  فى صُحف المهجر الدولية اللندنية : “العرب” ،و” الشرق الأوسط”، و” القدس العربي” ، وسواها من المجلات والصّحف الأخرى .

طموح مُبكّر

كان محمد بن عيسى  إبّانئذٍ لمّا يزلْ فى مقتبل العُمر أنيقاً ، رشيقاً ، تملأ ذقنه لحية خفيفة ، كان دائمَ الابتسام ، يميل للدّعابة،والبسط، والمزاح ، كان كثير السّؤال ، شديد الطموح ،كان أديباً وفناناً ومبدعاً بالفطرة ،وكأنه  كان يخبّئ فى صدره مخزناً واسعاً تتزاحم فيه الفِكَر، وهواجس الإبداع ، وتشعّ منه ومضات الإشعاع ، كان دائم البحث، والتنقيب عن الجديد فى مدينته الصغيرة ذات الآمال الكبيرة  “أزيلا ”  (التي تعني الجمال باللغة الأمازيغية) والتي أصبحت  مع مرور الزمن ( أصيلة ) رفقة ثلة وشلة من أصدقائه ورفاقه الأقربين أمثال الصديقان الفنان المرحوم محمد المليحي ،والشاعر محمد البوعناني وسواهما ، لم يكن بن عيسى يتقلّد بعد أيّا ً من المناصب العليا الرفيعة التي ستسند إليه  فيما بعد ، والتي أبلى فيها البلاء الحسَن وتسنّم  بها صولة المجد والشهرة والذيوع والانتشار رويداً رويداً فى بلده المغرب ثم امتدّت شهرته وانتشرت  فى مختلف بلدان المشرق العربي.

تحريك العلاقات الاسبانية -المغربية

غداة إلتحاقي للعمل أواخر السبعينيات من القرن الفارط فى سفارتنا بمدريد كان بن عيسى يزورنا مع صفوة من المثقفين والكتّاب والمبدعين المغاربة فى اسبانيا، وكان همّنا هوتحريك العلاقات الاسبانية -المغربية وإخراجها من الرّكود والجمود اللذين كانا يطبعانها آنذاك ،  كان المثقفون الإسبان والمغاربة فى الضفّتين ما فتئوا يؤكّدون على الدّورالمحوري الذي تلعبه الثقافة على وجه الخصوص فى توثيق وتعميق وتطويروتفعيل العلاقات بين البلدين الجاريْن ، حيث اضطلع هؤلاء المثقفون بالفعل آنذاك بدورطلائعي فى هذه المهمّة. ففى عام 1978 تمّ تأسيس “مجموعة المثقفين الإسبان والمغاربة” بمبادرة من  صفوةً من الكتّاب، والأدباء، والمفكّرين المغاربة والإسبان 40 مثقفاً من المغرب ( منهم محمد بن عيسى، ومحمد شقور، ومحمد المليحي، وعبد الكريم غلاب، ومحمد العربي المساري، وعبد الجبار السحيمي، ومحمد الصبّاغ ،وفاطمة المرنيسي ، وكاتب هذه السّطور،وآخرين. مقابل 46 مثقفاً من إسبانيا كانوا جميعهم من بين الموقّعين على بيان مشترك نُشر فى كبريات الصحف الاسبانية آنذاك ، الذين طالبوا فيه بضرورة تحريك العلاقات الإسبانية المغربية ، وإعطائها نفساً جديداً ، وإذكاء روح التفاهم والحوار بينهما. وقد أفضت هذه البادرة المبكّرة إلى تنظيم عدّة ندوات حول مختلف أوجه التعاون الثقافي، والأدبي،والتاريخي، منها إرساء قواعد ثابتة ودائمة للحوار والتفاهم والتعايش بين الطرفين وسواها من المبادرات،والخطوات الأخرى التي كانت تهدف برمّتها إلى بلوغ الغايات، والأهداف التي تخدم المصالح المشتركة للبلدين، والتصدّي للأفكارالخاطئة الجاهزة،والأحكام المسبّقة  المغلوطة التي  لم تكن  تقدّم الصّورة الحقيقية لكلا البلدين.

كان  محمد بن عيسى حريصاً فى مداخلاته خلال هذه اللقاءات – التي كانت تُعقد طوراً فى مدريد، وتارة فى مراكش- على تنبيه الاسبان الى مغبّة ضياع  لغتهم وتقهقر ثقافتهم فى  مختلف مدن  المغرب وهيمنة اللغة الفرنسية  فيها وانتشارها بدل الاسبانية،  كان يتحدّث بلغة اسبانية بسيطة، وبكلّ تواضع  وجرأة كان يضرب المثل بنفسه ويقدّم للإسبان الدليل على  تراجع لغتهم فى شمال المغرب وجنوبه  كونه  كان – يقول- أنه يعجز التحدّث بها اليوم  إليهم بطلاقة .

محمد بن عيسى وكولومبيا

عندما تقلّد محمد بن عيسى منصب وزير الشؤون الخارجية والتعاون كان كثير الأسفار، وكان حريصا على إيلاء العلاقات المغرببية مع بلدان أمريكا الاّتينية على وجه الخصوص عناية كبرى، وفى هذا السياق قام بعدّة زيارات رسمية إلى عواصم أمريكا اللاتينية فى طليعتها العاصمة الكولومبية بوغوطا فى إطار أشغال اللجنة الثنائية العليا للبلدين ، كما انه كان على علم انّ هذا البلد  كان هدفاً أساسياً لخصوم وحدة المغرب الترابية بعد ان أوصدت الابواب امامهم ، وبقدر ما كان الجانب السياسي أثيراً لديه خلال هذه الزيارات، كان يولي أهمية خاصّة للجانب الثقافي كذلك ، فقد أشرف على  تدشين عدّة ملتقيات وندوات  ثقافية ومعارض تشكيلية مغربية نُظّمت بنجاح فى هذا البلد الصّديق فى ذلك الإبّان ، كما انه كان حاضراً عندما دُعيث لإلقاء محاضرة باللغة الاسبانية حول رواية ( مائة سنة من العزلة) للكاتب الكولومبي الذائع الصّيت غابرييل غارسيا مركيز بالديوان الأدبي الذي يحمل إسم ( نوجال) الكائن ببوغوطا،فى إطار ندوة دولية نظمها هذا الديوان المرموق عن مركيز. وتجدر الإشارة فى هذا الصدد أنه غيرُ خافٍ على أحد الأهمية القصوى التي يوليها الكولومبيّون للثقافة على وجه العموم ، لذا ليس غريباً ان تُلقّب عاصمتهم ب  “أثينا ” أمريكا اللاتينية” .  

إذا كنتَ فى حاجةٍ مُرسلاً !

وعندما شغل محمد بن عيسى منصب وزير الثقافة  فى الفترة المتراوحة بين (1985-1992) قام رئيس الحكومة الكنارية المستقلة آنذاك الإشتراكي “خِيرُونيمُو ساهافيدرا”بزيارة رسمية للمغرب بدعوة من الملك الراحل الحسن الثاني – وكان الملاحظون يعتبرون جزرالخالدات آنذاك بمثابة  “تندوف الغربية” لتغلغل خصوم المغرب آنذاك فى هذا الأرخبيل الذي شغلت فيه منصب القنصل العام للمغرب وعميد السلك القنصلي، لذا أولى الملك الحسن الثاني أهمية خاصّة لزيارة المسؤول الكناري لبلادنا ، وقد عيّنتني وزارة الشؤون الخارجية مرافقاً ومترجماً خاصّاً  لهذا الضيف الكناري الكبير،وبعد ان طفنا فى مختلف المدن المغربية للتعرّف على تاريخ المغرب وحضارته الألفية العريقة تقرّر أن يستقبله العاهل المغربي فى مدينة “ورزازات ” حيث كان يقوم بزياراتٍ رسميةٍ لها ولبعض المدن الاخرى فى جنوب المغرب ، وقد رافقه خلال هذه الجولة الملكية بعض الوزراء منهم محمد بن عيسى.  

وما زلت أتذكّر أننا نزلنا فى فندق فاخر كان يُسمّى  ” الشمس” ، وذات صباح كان بن عيسى جالساً على أريكة مريحة بجوار مسبح الفندق وبيده جريدة ” الشرق الأوسط” اللندنية وفى عينيه نظارة على جنابيها خيط أسود يمتدّ الى أذنيه، دنوتُ منه ، وسّلّمت عليه، فردّ عليّ السلام بلطف، ثم قال لي : اجلس قليلاً بجانبي . ثم قال لي : لقد لاحظتُ أنك منسجم مع رئيس الحكومة الكنارية المستقلة بعد الجولات التي قمتما بها فى العديد من المدن المغربية ، ولابدّ أنّك أقمتَ معه صداقة خاصّة ، والحالة هذه، أرجوك ان تومئ له وتقنعه بأن يوجّه لي دعوة رسمية لزيارة جزرالكناري لنعمل على تقوية العلاقات والروابط الثقافية والسياسية بين بلادنا وجزر الخالدات ، فقلت له  : بكلّ سرور لك أن تطمئن ، ثمّ أردف قائلاً  بصوتٍ خفيض : ولكن، لا تقل له أنني طلبتُ منك أن تقول له ذلك ! حينئذٍ  قلتُ له على الفور : يا سيدي الوزير أذكّرك بما قاله الشاعر المنكود الطالع طرفة ابن العبد  فى هذا القبيل ،فصرتُ أتلو عليه :

إِذا كُنتَ في حَاجَةٍ مُرسِلاً  / فَأَرسِل حَكيماً وَلا توصِهِ

وَإِن ناصِحٌ مِنكَ يَوماً دَنا /    فَلا تَنأَ عَنهُ وَلا تُقصِهِ

وَإِن بابُ أَمرٍ عَلَيكَ اِلتَوىَ /   فَشاوِر لَبيباً وَلا تَعصِهِ

فانتفض من مكانه مبتسماً وأخذ قلمَ  حبرٍ كان بجانبه وقال لي : قل ..قل  لي من جديد.. فأمليتُ عليه هذه الأبيات، وكتبها على الطرف الأعلى  من الصّفحة الأولى للجريدة التي كانت بين يديْه . ثم توادعنا والتحقنا بالرّكب الرّسمي الذي بدأ يتحرّك  لأنّ ساعة استقبال الملك الحسن الثاني للرئيس الكناري كانت قد أزفت.  

إتّحاد كتّاب المغرب وموسم أصيلا الشهير

 كان بن عيسى صديقاً عزيزاً ،ومثقفاً حصيفا .كان شديدَ الذكاء ،حاضرَ البديهة، شغوفاً بالطُرفة الحلوة ،والنكتة اللاّذعة ،وكان خطيباً مِصقعاً،ومتحدثاً لبقاً ،ومحاوراً مفوّهاً،كان شخصاً متواضعاً عكس ما كان يُقال، ويَفتري عليه البعض من باب الحيف فى هذا القبيل . كان أوّل من دافع عنّي الى جانب المشمول برحمة الله  الصديق الوزير السفير محمد العربي المساري أوائل السبعينيات من القرن الفارط للإلتحاق وأحظى بعضوية ( إتحاد كتّاب المغرب) اذ كان الإشكال إبانئذٍ قائماً فى التساؤل التالي  :هل يحقّ ان يصبح  عضواً فى حظيرة هذا الاتحاد مَنْ له كتابات منشورة ومشهودة فى مختلف الصحف والمجلات ولم يصدر له بَعْد أيُّ كتاب ؟ فصوّت الكتّاب الأعضاء آنذاك بالاغلبية على هذا الأمر لصعوبة النشر فى ذلك الوقت.

أسّس الفقيد الراحل الى جانب صديق عمره، وصديقنا الفنان التشكيلي المرحوم محمد المليحي مهرجان موسم” أصيلة” الثقافي السنوي الشهير، حيث أمكنه ان يستدعي له العديد من الشخصيات الثقافية والسياسية والفنية  الهامة من العالم العربي ،ومن أفريقيا وأوروبا، وأمريكا اللاتينية ، واستمرّ محمد بن عيسى يرعى هذا المهرجان كمثقف، وكعمدة لمدينته الجميلة لمدة تنوف على أربعين سنة، حيث جعل من مدينته الصغيرة واحة فكرية وارفة، ومدينة تعانق وتنشرالثقافة من كلّ صِنف،  وتحيي تظاهرات دولية فى مجالات الغناء،والموسيقى، والرّسم ،والتشكيل وجعل جدرانها تشعّ بالألوان فى مختلف أحياء المدينة ،  كما جعل الأجواق والفرق  الموسيقية الوطنية والعالمية تصدح فى كلِّ ركنٍ وناصية من هذه الحاضرة الأصيلة .وكانت قاعات المحاضرات تعجّ بالكُتّاب، والمثقفين، والفنانين  (عرباً وأجانب) فى كلّ فرع من فروع الابداع بحضور جمهور غفير من المغرب ومن مختلف البلدان العربية ،والأوربية وكان بن عيسى حريصاً على المشاركة بحماس في مختلف هذه الأنشطة والملتقيات الثقافية.

ومعروف انه تولى الإشراف على جريدة  حزب “التجمع الوطني للاحرار”. ثم التحق فيما بعد بحزب الأصالة والمعاصرة، ونال عام 1988جائزة الأغاخان للعمارة الإسلامية عن اعادة تأهيل مدينة اصيلة، إذ جعل المدينة تنتشر فيها الحدائق الغنّاء ، والرسوم التشكيلية تملأ مختلف جدرانها فى كلّ مكان ، فضلاً عن الجُسور،أوالقناطر، أوالكباري ذات الطابع الاندلسي الفريد.

فى ليالي مجريط السّاحرة

خلال عملي كمستشار ثقافي، وسياسي وصحافي بسفارتنا بمدريد فى الثمانينات من القرن المنصرم كان محمد بن عيسى يزورنا بين الفينة والاخرى،وكنا نصول ونجول فى مدينة مدريد الى جانب أصدقائنا المشتركين السفير محمد العربي المساري، والمفكّر المهدي المنجرة، والسفير محمد العربي الداودي ، والاديب بهاء الدين الطود ( الذي كانت تجمعه بابن عيسى صلة قرابة عائلية ) ،والأديب الضلّيع فى لغة سيرفانتيس محمد شقور رحمهم الله ، كنّا نذرع شوارع مجريط وأزقّتها العتيقة  فى جُنح الليل وهزيعه الأخير ونحن نتجاذب أطراف الحديث من كلّ لون  وصنف حتى يستبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود..!.

وعندما كنت سفيراً للمغرب فى كولومبيا و فى ( بنما، والإكوادور،سان كيتس إي نييفيس ،وترينيداد وطوباغو ،وغراناد من بلدان الكرايب ) فى الفترة المتراوحة بين (2003- 2008 ) قام  محمد بن عيسى بعدّة زياراتٍ رسمية خلال هذه المدّة  لهذا البلد الرائع والمُذهل جمالاً ، الذي تربطه علاقات صداقة  متينة بالمغرب.. وكان بذلك الوزير العربيّ الأكثرزيارة لكولومبيا من بين الوزراء العرب آنذاك . الحديث عن هذا الرجل حديث ذو شجون ، جميل، وطويل، وممتع ، ومتشعّب ،ويُعتبررحيله المفاجئ خسارة فادحة لمدينته الفيحاء أصيلة (التي كان من أقطابها وأعلامها البارزين) وللثقافة ، وللمغرب عامّة.

***********************************************

*كاتب وباحث ومترجم من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.  


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى