أدب وفن

طريق الشمس” لعبد المجيد زراقط ،          الاحتجاج وجمالياته الروائية

 طريق الشمس” لعبد المجيد زراقط ،          الاحتجاج وجمالياته الروائية

الحسام محيي الدين 

يجدِّد عبد المجيد زراقط  كتابة الذاكرة الوطنية اللبنانية، من طريق صدور هذه الكتابة عن مرجعية واقعية  تتمثل في الحياة المعيشة ، في لبنان الجنوبي ( جبل عامل تاريخياً ) ، في اَونة من الزمن تلي هزيمة ١٩٦٧ ، وصولاً الى ماقبل نشوب الحرب اللبنانية ، في نصٍّ سردي يكشف مساراً تاريخياً أفضى الى قيام هذه الحرب .

هذا النًّصُّ السردي الجديد هو ” طريق الشمس ” ، الرواية الصادرة عن دار البيان العربي ، بيروت طبعة أولى ، سنة 2022 . 

ترسم هذه الرواية أفقَ احتجاجٍ عنيف على واقع التخاذل العربي في مواجهة العدو كائناً من كان .  

يتمثل هذا الاحتجاج  في نصٍّ روائي يتصف     بجماليات روائية ، قوامها بنية روائية دائرية ، تبدأ بفصل يروي قيام العدوِّ الإسرائيلي باجتياح لبنان الجنوبي ، وخروج كمال الساهر وهو شخصية روائية رئيسية  ، إلى حيث يؤسس مع الشباب للبدء بمقاومة الاحتلال ، وخروج حبيبته منى رشيد من قريتها ، قبل وصول جنود الاحتلال إليها ، وتنتهي بمواصلة عمليات المقاومة وزواج الحبيبين .

في سياق هذه القصة الإطار ، تُروى حكاية الواقع اللبناني ، التي تجري بين قرية جنوبية حدودية وبيرت ،  في هذه الاَونة الزمنية ، من تاريخ لبنان ، وفي مسار قصة حبٍّ بين حبيبين مختلفي الطائفة .

تشكِّل هذه البنية تقنية روائية تجريبية ، تتمثل في أن يودع كمال الساهر أوراقاً كتبها هو ومنى لدى صديقه وزميله سميح الصافي ، ويطلب منه أن يكتب هو مايعرفه ، فيفعل ذلك ، فيتعدَّد الرواة، وتتشكَّل بنية روائية يتعدَّد رواتها/ أصواتها  ، ويتكسر زمنها ويتقطع .  

 تنطق هذه البنية الروائية بأفق الاحتجاج الروائي ، مايفتح  باب الأمل  بالتحرير وقيام النظام الصالح ، يفتحه  أولئك الذين يصنعون المستقبل بدءاً بالتأمُّل والتفكير والحلم،     فالرفض والتمرد ، ثم بالممارسة والعمل على الأرض .

هذه الرواية هي الرواية الرابعة للروائي اللبناني  تنتظم ، في سياق  مشروعه الرائي  الى واقع يحكمه سلطانٌ مستبدٌّ فاسدٌ ، وينشط فيه العميل أو الخائن ، و رجل المخابرات السيِّئ الممثل للنظام الحاكم .  

هذه  الثلاثية مستفحلة في تاريخ المجتمَعَين :  المحلِّي والعربي ، أدَّت إلى أن يحيا المواطن العربي بؤس، الواقع  ،  وخصوصاً في مرحلة شهدت هزيمة عام 1967 وما بعدها .

 يركِّز  الروائي ، في قصِّه ، في الاَونة التي تلت الهزيمة ،  على حركة المقاومة الفلسطينية ، ونشاطها ، وقتذاك ، على الحدود اللبنانية الجنوبية ، وقيامها بعمليات ضدَّ  العدوِّ  الإسرائيلي ،  إضافة إلى ما رافق ذلك من صراع عقدي بين اليمين واليسار ، في لبنان ،  عطفاً على الاختراقات الأمنية للداخل اللبناني من كافة أجهزة الاستخبارات ، عربية ودولية ، وحيث لم يكن الجنوب ، آنذاك ، يملك من مقوِّمات الصمود شيئاً يُذكر، في مواجهة الهجمات الاسرائيلية عليه، ضدَّ المقاومة الفلسطينية  والمقاومين الوطنيين . 

الزمان الذي تجري فيه الأحداث هو  ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية ، والمكان هو الجنوب اللبناني الذي لا يفارقه زراقط  بوصفه  مرجعاً لرواياته ،  حيث  يخوض ” كمال الساهر ” اليساري المثقف والمعلمة ” منى رشيد” ، وهما من طائفتَين مختلفتَين ، وفي مدرسة  قرية حدودية مع فلسطين  ، معركة إثبات الهوية الوطنية  على جبهتين : الأولى مواجهة العدو وتحرير الأرض ، والثانية : تحقيق العدالة الاجتماعية بمختلف وجوهها ، وذلك بمواجهة الثلاثي : السلطة المستبدة الفاسدة ، ومخابراتها ، وعملاء اسرائيل  .

 تجري هذه المواجهة   بالتلازم مع قصة حبٍّ جارفة جمعت كمال ومنى  بقوَّة ، ونسفت أقاويل وترهات الاختلاف المجتمعي بين طائفة وأخرى .

يبسط زراقط رؤية فنية عضَدَها  حُسْنُ المصادفة مع ما نعيشه توّاً في لبنان سياسياً واجتماعياً في ظل طبقة حاكمة طبّق فسادُها الآفاق ، فيفتح الباب على سؤال وجودي كبير جداً يمهّدُ فيه لعقلية جديدة في إعادة تفسير المبادىء الشائعة والشعارات الزائفة ، مضمونه أنه ما الفرق بين أيّ  طرفٍ من أولئك الثلاثة في خطورتهم على تحرُّر المجتمع والحدِّ من تطوُّره إلى الأفضل ؟ فالعميل بخيانته الوطن لا يقل سوءاً وضرراً عن  الزعيم السياسي  بشجعه وظلمه وسرقته مقدرات البلاد والعباد ، ولا عن رجل المخابرات الذي يمثل السلطة الفاسدة ، ويترجم جورها وتفنُّنها في سحق آمال الناس ووأد مطالبهم في حياة كريمة وحرية وتعليم واستشفاء وعمل .   

في الوقت الذي يعاني فيه الناس من هذا الواقع ، يقوم العدو  الإسرائيلي المحتل  بالقتل والتدمير والتهجير … ،  فيشرِّد إخوة لنا صباح مساء على امتداد الأراضي العربية المحتلة . في  هذا الواقع،  يؤمِنُ كمال ومنى بأنَّ ما يفعلانه هو استكمال طريق الأجداد في مقاومة الغزاة ، منذ أن احتلَّ الصليبيون بلادنا ، وبأنَّ لهؤلاء الغزاة دائماً ركيزة في الداخل هم العملاء ويتمثلون ، في هذه الرواية ،  في ” سرحان ذيب ” العميل الاسرائيلي الذي يستدرج  بالكلام دائماً ” سميح صافي ” المدرس المناضل  ليتحرى عن أحوال صديقه كمال ونشاطه في تجميع قوى الشباب من حوله لبناء مقاومة ضد العدو ، والتي بدأت فعلا في عملياتها الاستنزافية في تلك الاَونة  .

في الجانب الاَخر ، كان  مدير المدرسة والناظر العميل   وقاسم حمّاد ، وهو رجل البيك ،  وآخرون معهم ، الفريق المناوئ للمقاومين ، والمتواطئ على أهل القرية الشرفاء ، والمعادي للمبادئ الوطنية ، المحاول ، إضافة الى خدمته للثلاثي المذكور اَنفاً ،  تشويه صورة كمال والايقاع به في غير موقف ، للإيحاء بإخفاقه في التدريس ، من طريق رفع تقارير دورية بحقه إلى المسؤولين لنقله إلى قرية بعيدة ، عطفاً على شيطنة صفاته وسمعته أمام حليم رشيد والد حبيبته منى ، ومن الباب الطائفي تحديداً  لكونه المسلم الذي أحبّ مسيحية ،  ودائماً بالتعاون مع ” البيك ” الفاسد المفسد ورأس المرتشين الذين لا تنتهي موبقاتهم وشرورهم من استقبال هدايا أولياء الطلاب لإنجاح أولادهم ، إلى احتلال بعض منازل أهل القرية بدعم ” اسرائيلي ” .

في سياق هذا القصِّ لرواية الواقع الراهن  ، تنتظم قصص تمثل الواقع التاريخي ، فتتشكل ثنائية تعاضد تفيد خطاباً سائداً في هذا الفضاء الروائي هو : ” حفر أجدادنا وآباؤنا الصخر ليبقوا في هذه البلاد ويعمروها ويحموها ، وعلينا نحن الواعين أحوال واقعنا أن نواصل طريقهم .. طريق الحياة ، طريق الشمس ، لمقاومة عدوِّ الشمس ” .

 كما تنتظم ، في سياق القص، عناصر قصصية : حكايات وتداعيات إنسانية عفوية متدفقة ، وأشعار ، وحِكم ، وقصصُ حبٍّ عذبة ، رفدت جميعها القضية  الرئيسية في الرواية  .

تشكلت بنية هذه الرواية  في سياق زمن روائي محبوك ، وحيِّز مكاني / فضاء روائي دالٌّ وخلَّاق للمعنى ، يحكم بناءه روائي مُتمكن، بلغة روائية بسيطة ، لاتخلو ، في حالات تقتضي ذلك ، من لغة شاعرية .

والملاحظ هو انتظام مايمكن تسميته   ب ” الأنتروبولوجيا ” ، بمعناها العلائقي بين الناس في الخاص والعام ، في السياق الروائي . ويمكن للقارئ أن يرى ، في هذه الرواية ،  وثيقة فنية مدينية جديدة تمثل الواقع اللبناني الجنوبي ، الواقف دائماً في مواجهة المحتل الاسرائيلي ، عدوِّ الشمس ونقيضها .

في هذا الفضاء ،  تتعدد الأصوات الروائية ، لكننا نحسب أنَّ زراقط ينكشف دائماً على انحياز واضح لتقوية أحدها ، أو بعضها ، بالامتلاء العقدي ، وإضعاف الآخرين بتفريغهم أو تهميش محتواهم الفكري ، في تقنية سردية ، كي  يؤكد انبثاق روايته من منظور روائي يشكل البنية السردية ويحكم بناءها .

يتناوب  الرواة  القصَّ بجرأة وعفوية وصراحة ،  وبمناسبات مختلفة ، في خطٍّ مُتكسّر زمنياً بتقنيات الاستباق والاسترجاع والانحراف المتكرر للسرد ، من ذكريات إلى وصف أو تأملات أو تعليقات ، مما تحتاجه فنية السرد في نمو الحبكة ونمو الشخصيات وتعميق الرؤية حتى توليد الدلالات المتوخاة المباشرة للصدق الروائي الذي تنهض عليه الرواية ، ومفادها أن حركية السرد يجب أن تتوافق مع حركية المجتمع وتطوره وتغيره إلى الأمام ، لا جموده وتلبُّثه في مكانه .

الحسام محيي الدين

كاتب وناقد . لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى