أدب وفن

أحمد اسماعيل* يقرأ بين سطور القصة الضائعة لأنيسة عبود**

عين
على ذواتنا الجمعية هويتنا و أوطاننا و وحدتنا في تفاصيل القصة الضائعة للكاتبة الروائية و الشاعرة أ. Anisa Aboud أنيسة عبود
النص أولاً

القصة الضائعة

عادي جدا ان اقول . نعم .حاضر .
البرد خطير لا تهملي كنزتك .نعم .
لا تلمسي يد ابن الجيران سيترك فراشاته الملونة في اصابعك ، وقد تلسعك دون انتباه منك . اقول نعم . لا تضحكي امام الغرباء يظهر سنك المكسور فيعيرونك ( بالفجقا ) ويقولون بانك شيطانة وكثيرة الحركة . نعم . لا تضعي العطر الفواح وانت في طريق المدرسة يهاجمك النحل ويدخل شعرك ..ستصرخين وربما ستركضين في شارع العمارة وتصيرين فرجة للعابرين . نعم ..نعم .
امتلات جيوبي ب ..نعم ، وفاضت كما يفيض الكأس المترع بالماء . فشعرت بي رفيقتي مريم ..قالت لي وهي تنظر الى جيوبي المترعة ب ( نعمات كثيرة ترمح امام صوت امي وصوت ابي واخوتي ) وتحدث لعثمة في صوتي وارتباكا في حروفي : افرغي جيوبك في النهر المحاذي لبيتكم حين ينزل المطر ويفيض .. فيجرف معه الأشجار والاطيار و مافي جيوبك من اكداس الاشارات والنعم . ثم تابعت وهي تضحك وتسند رأسها الى زجاج النافذة ..جيوبنا مخصصة للحلوى والفستق السوداني المملح وليس لوصايا بائدة . ابتسمت ولم اعترض .كنت في الأعدادية .وكنت ارتدي مريولا مدرسيا كحليا
خاطته لي الخياطة ( علية دياب ) التي كانت تسكن بيتا قديما مبنيا من الحجارة الرملية و يطل على القلعة التي تتوسط المدينة وتبهر اهلها بمدرجاتها وصمودها في وجه الزمن على الرغم من الاعتداء الذي حصل عليها من قبل حاكم المدينة الفرنسي في فترة الانتداب .لم يكن هذا الحاكم يعبأ بتراث البلد ولا باهله .فجهز لنفسه بيتا حديثا على سطح القلعة وطلاه بالابيض .
فبدا نافرا ومستفزا ومتحديا للمشاعر . ما كنت اعرف عمر القلعة ولا ادرك اهميتها الابعد ان دخلت الجامعة حينها ادركت بانها مدرج روماني مبني على نمط مدرج بصرى الشام الذي نهبه فيما بعد مسلحو الأعلام الخضراء والسوداء و باعوا محتوياته في ساحات اسطنبول وباريس وبرلين وواشنطن . وتاجروا بزمنها وتاريخها.
في احدى المرات اتهمتني امي بأني اخبئ عنها اسراري .. ففتشت جيوبي قبل ان تغسل مريول المدرسة غير انها لم تجد اي نعم ولا اي لاء ..اختلط الامر عليها وشعرت بالحزن .لم تقل شيئا وهي تنسحب لتكمل تمشيط شعرها الطويل . فأخبرت ابي . حضر ابي و صرخ في وجهي ..وتغير لونه ثم خرج من باب البيت الى المصطبة وعاد مسرعا . غرف حفنة من اللاءات ومن ال – نعم – ووضعها في حقيبتي . بكيت وشعرت بثقلها وانا اقطع المسافة بين المدرسة المحاذية لجامع ابي بكر الصديق و ساحة البلدية ، حيث يتوافد طلاب ثانوية محمد سعيد يونس بقبعاتهم المزهوة بالنسر السوري والشرائط الحمراء والخضراء على اكتافهم .كنت احب اللون الاخضر وكانت زميلتي منى تعرف ذلك ..وتعرف مدى ارتباكي حين اعبر الساحة وسينما الفردوس .. الا اني لم اخبرها..كنت متعبة من حقيبتي الزيتية ام ( سحابين ) المتراصة بالكتب ونظرات ابي ، ما جعلني اسقط الحقيبة في الساحة وتنفلش الكتب والنظرات ، وتنكسر عشرات اللاءات و- النعم – على الارض وتتبعثر امام الطلبة العابرين بسرعة باتجاه الكراج وهم يبتسمون ويلقون تعليقاتهم الخجولة ( ام عيون دباحة .ام .. )الى ان صادفني ابن جيراننا فاخبر ابي بأني بعثرت كل ( ال نعم ) في الشارع ولم يبق معي الا بعض اللاءات ..فسألني ابي هل هذا صحيح ؟ وهل عرفت بك المدينة ؟
قلت : لا
كرر السؤال وانا اجيب بلا الى ان سألني بغضب وامي تقف قبالته وتشد ازره : هل سرقوا منك ( ال نعم ) التي وضعتها في حقيبتك لتحميك من الحساد واولاد الحرام ؟
فقلت بسرعة ودون اي تفكير : نعم .
زمجر ابي واحمرت عيناه وضرب عصاه في الارض وقال : ماذا اخذت في المقابل ؟
قلت : اخذت سبحة من احد الشبان
قال لي . هذه تذكار مني .وضعها في يدي ولامست اصابعه اصابعي فبكيت . وحين فتحت حقيبتي لأخبىء السبحة وجدت اسمي مرسوما على جلد الحقيبة فحفظته عن ظهر قلب
غضبت امي وارتفع صوتها : وهل كنت بلا اسم .؟
لم اجب .شعرت بالارتباك .. الاستاذ امسك يد ابي وهزها وهو يقول بصوت رقيق : ماذا تفعل ؟
اترك لها حقيبتها ودعها تملؤها بما تريد . . لقد رأيتها تسير محنية الظهر في الشارع من ثقل الحقيبة . صمت ابي وتغيرت ملامحه ..فتنهدت بعمق ورحت ابكي واشكو امري للاستاذ وانا اركل حقيبتي وأبعثر ها في ( سيباط المنزل ) .
رشت امي الماء قبل ان تكنس الشظايا حتى لا يتصاعد رماد الافكار المحترقة ويملأ الجو بالضباب . شممت رائحة التراب المبلول وقررت حين اصير في الجامعة أن لا احمل حقيبة ابدا .
لكن للاسف . مات ابي قبل ان ادخل الجامعة بأيام . تحطمت روحي
وشعرت بالحزن الشديد وتأسفت له وانا ازرع الورد على قبره وأعده بأن اشتري حقيبة مثل التي اشتراها لي في مراهقتي .وربما اكبر وان أجمع كل اللاءات والنعم والرماد وما تبعثر وضاع وارتبه في الحقيبة الجديدة احتراما لذكرى والدي فالذكرى وسيلة ناجعة لاستحضار الغائبين وتلبية رغباتهم
لكن لا اعرف اذا ما كانت الذكرى تظل طازجة الى ما بعد التخرج من الجامعة .
حين دخلت امي الى غرفتي فجأة ارتبكت .
هل قرأت افكاري برأيك يا علي ؟
انهيت الرسالة بهذا السؤال لكن علي لم يرد . بعد سنة اتصل وقال :الامهات يقرأن دقات القلب . لم ارد
وقبل ان ينهي ثرثرته .
اغلقت هاتفي في وجهه
وتابعت ترتيب حقيبتي

….
Anisa Aboud

… .
قراءة أحمد إسماعيل/سورية

لن أذكر منجزات مبدعتنا في القصة و الرواية والشعر حتى لا أطيل عليكم لأنها مكتبة بحد ذاتها و إنجازاتها الأدبية على لسان كل من تنفس الياسمين

بداية مع العتبة العنوانية و التي تتألف من كلمتين


القصة كتعريف حكاية مكتوبة طويلة تستمد من الخيال أو الواقع أو منهما معا كما في قصتنا
وتبنى القصة على قواعد معينة من الفن الأدبي و الجمع قصص .
أما كلمة الضائعة: المصدر ضاع اي وجد نفسه في ضياع موحش في تلف و لهو و إهمال
و الضائع :هو المفقود أو المهمل
و في علم النفس: حالة نفسية من مظاهرها الحيرة و غياب الهدف و التشتت الفكري و الشعور بالوحدة و بالحرمان من العون والهداية.
و من خلال هذه العتبة العنوانية نرى أن الكاتبة استطاعت أن تجمع كل هذه الحقائق و المعاني في سردها و بلغة مجازية فاخرة
وهنا نتساءل ماهو المقصود بالقصة الضائعة
قبل قبل الولوج في أحداث القصة لنرى شخصياتها ومجازاتها و أبعادها
البطلة والتي تعبر عن ذواتنا مجهولة الاسم وأثناء الحبكة أضاعت اسمها
فهي بذلك ترسم هويتنا وشخصيتنا و كيف تنعكس في أوطاننا.
الأم : الوطن
الاب : القانون و ضوابطه
علي: السند أو الأخ الصالح الذي يمسك بيدك ليريك الحقيقة
والاسم ليس موضوعا عن عبث ف علي كرم الله وجهه كان منبعا في العلم و الحكمة والفقه وكتاب نهج البلاغة خير من يتحدث عنه.
منى : هي ابنة الجيران و يمكن أن نقول أنها دول الغرب التي تسعى ليل نهار لتخرجنا عن ثوبنا.
الخياطة: هي من تحيك جوهر الإنسان و تقاليده وطريقة تفكيره على حدود قماشة.
والكاتبة لم تكتف بذلك بل صورت البيئة التي تسكنها من خلال القلعة و مدى صمودها و كيف كانت تبهر الجميع رغم كل الاعتداء عليها فهي ترسم نسخة من صمود الوطن ومدى حفاظها على الثوابت و الإرث و التقاليد.
المريول و جيوبه : لغة الجسد و جيوبه يمكن أن تلخص اللسان الذي نتحدث به و الذي يعبر عن قلوبنا و محتوياتها
الحقيبة : هي الذاكرة التي تمكننا من وضع الحلول من خلال ما تحتويه أفكار سواء كانت بالصالح أو الطالح وقد ذكرت الخيارين لأنها تتغير في أحداث القصةو تتغير محتويات الحقيبة وتتلوث.
_ السبحة : هو ما يستخدمه الكثير في الذكر
لكن إذا نظرنا إلى أصولها في أمر محدث

_ الشعر الطويل للأم : غناها بالثروات و الخيرات
_ الجامعة: مكان يرمز إلى نوع التحضر و الانفتاح على أفكار وحضارات الوطن و حضارات و أفكار غيرها
و سأقف هنا عند الانفتاح الملوث حين يكون بعيداً عن الحقيبة بعيدا عن الإرث
بالتأكيد ستصبح ذواتنا ملوثة
_ ابن الجيران : هو الواشي الذي يريدالفتنة بين أفراد الأسرة بين أفراد الوطن لتسود الفوضى الخلاقة
فهو هنا ينزل في مقام العميل الذي يخفي ثوبه الحقيقي.
_ الشاب الذي أعطاها السبحة : هو الفكرة المبطنة التي لايشبه داخلها خارجها هي الفكرة المعسولة بالأناقة و الرقي و بداخلها الوهن والمرض و الهلاك
_ استحضار البعثرة و سقوط الحقيبة بجانب سينما الفردوس
فيها دلالة على الجنة والخلاص بين الحقيقة وما يروج له
الجنة التي في الكتب ليست واقعنا الدنيوي
_ التعليقات:
الخجولة _ أم عيون دباحة..
هي بحد ذاتها تصف كيف ينظر الغرب لخطواتنا ويصفها بالخجولة. و عينه على جمال أوطاننا وخيراتها و التي يصفها بأم عيون دباحة

_ موت الأب : فقدان القانون
_ رمي مافي الحقيبة في النهر: طريقة غسل العقول
فهي تحضر بدلا منها حقيبة مليئة بالحلوى و الفستق…

_ حرفية التناص و اسقاطاته في النص


١_ موقف السبحة حديث (و اعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات.) وقد ورد في الأثر الكثير من الأحاديث عن الرسول (ص ) وهو يسبح بالاصابع.
و بغض النظر عن فكرة أنها بدعة أو ليست بدعة
فالكاتبة تقصد من خلالها أنها نتمسك بالقشور وننسى الأصول…
بل أننا تصبح أهم من أي شيء لذلك البعض يضعها في على معصمه او رقبته أو يزين به البيت والباب وكأنها الحامي والحصن
لاحظوا البطلة بعد اخذها لاحظت أنها نسيت اسمها و رمت الحقيبة و ركلتها

_ موقف اغلاق الهاتف ووصف ماكان فيه من حوار بالثرثرة قصة قوم نوح في سورة نوح و هم يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم حتى عميت قلوبهم
( و اني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم و استغشوا ثيابهم و أصروا و استكبروا استكبارا ) سورة نوح الآية 7
موقف ذواتنا التي تقول ما لا تفعل وذلك تناص مع الآية القرآنية يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون… ). سورة الصف الآية 3

تفاصيل القصة بنائيا


المطلع : اسثارة الحواس من خلال مشهد من الأسئلة و جعل المتلقي في فضول لمعرفة ما وراء كل هذا ال نعم
وجعله يمسك بكل منها ليتفحصها …و رغم أنها روتينية يومية من خلال استحضارها من الواقع اليومي فهي تحكي واقعنا،
_ الكاتبة استحضرت مجموعة من الحقائق التي تعيشها ذواتنا على أرض الواقع و جعلت الحدث يتدفق كقطرات نهر غزير كل قطرة تعرف من أي تبدأ و أين تنتهي و تصب
فكل مجاز و كل شخصية وضعت في السرد في الزمان والمكان المناسب لها و وظفت بشكل دقيق و حرفي.
_ المكان : ربما يكون واقع كثير من أوطاننا لأننا نعاني من الفوضى في أغلبها
ملاحظة: يمكن أن تكون الأماكن التي ذكرتها في دمشق وسوريا مجازية حتى تخدم بناء السرد لا أكثر.
الزمان : يمكن أن يمثل السرد زماننا و خاصة في العقد الأخير ويمكن قياسه على أزمنة ماضية بحكم أننا أمتنا العربية تعرضت للكثير من تلك الفوضى في أزمنة ماضية.
القفلة: المشهد الأخير للنص وخاصة الجملة الأخيرة عميقة جدا ( تابعت ترتيب حقيبتي )
قد يرى فيها البعض أنها جملة عادية لكنها ليست كذلك
هي بعمقها تتركنا في دوامة من التساؤلات
اي حقيبة سنرتبها؟؟؟!
كل مافيها الآن ملوث كيف سنرتبها و نحن انسلاخنا عن ذواتنا و عاداتنا و معتقداتنا و إرثنا و حضارتنا…
نحن القصة الضائعة التي كتبها استهتارنا و عدم اكتراثنا..
نحن العرب…نحن الوحدة التي فقدت روابطها..
نحن المجهول الذي ضاع اسمه و المرتب كما يشتهيه الغرب…

ميزات اللغة البنائية للسرد


1_الاستثارة الذهنية وتحفيز الوعي من خلال المطلع واستمرار وأحداث النص في رحلة الحقيبة مع ال نعم و اللااءات:
لماذا قول نعم عادي جداً
هي هي عادية فعلا
أم أن الكاتبة كانت تسعى لاستثارة الوعي داخل ذات كل متلقٍ باختلاف ثقافته وبيئته و لأنها تعتبرها أهم وظيفة لأي كاتب..
الوعي الذي نحن بحاجة له في حياتنا لنزيل عن أرواحنا هذا الكم الهائل من الركام و الصدأ و الإحباط.
و كما قال رينيه ديكارت: الوعي هو حقيقة بديهية ندركها من خلال الحدس العقلي و لا يمكن أن يمسه الشك.
و وفقاً لما يقوله فرويد: يتألف الجهاز النفسي للإنسان من ال هو و الأنا و الأنا الأعلى
ال هو : يمثل الغرائز والرغبات غير المعقولة
الأنا : هو منطقة الصراع التي توفق بين دوافع ال هو و الأوامر المثالية للأنا الأعلى و يتحكم الواقع في الأنا و المثل تتحكم في الأنا الأعلى
وكل هذه النقاط التي ذكرها فرويد و رينيه ديكارت نراها في القصة
فالصراع كان محتدما في الذات وكان واضحا منذ مطلع النص حتى نهايته و كأنه يسطر في القفلة كملحمة أدبية لحظة غيابه عن مسرح العقل.
2_ استخدام الكاتبة لمجازات و رموز سهلة و بسيطة قريبة من ذهن المثقف و غيره
( الحقيبة..النهر..سينماالفردوس… الخياطة…منى..علي..الشاب..ابن الجيران..البطلة التي ذات الاسم المجهول و التي أضاعت اسمها
3_ استخدام الشخصيات و عامل الزمان والمكان بشكل مألوف بحيث تجعل من وجودها عامل محفزا ومشوقا مثيرا للفضول والتساؤلات كونها تستنطق ذواتنا الجمعية
4_استخدام التناص في أكثر من موقف في السرد كما ذكرتها مسبقا.
5_ استخدام الكاتبة لغة المفارقات و ذلك من خلال الحقيبة
من اللحظة الأولى لحملها.. ثم سقوطها..ثم انكسار مافيها وبعثرتها..ثم رميها…ثم شراء حقيبة جديدة وترتيبها بشكل جديد.
6_اللعب على وتر المونولوج وحديث الصمت الداخلي للذات:
امتلاء الجيوب ب نعم وكيف فاضت كما يفيض الگأس المترع بالماء… كنت احب اللون الأخضر…. وغيرها.
7_ تسليط الضوء على فكرة الضياع من خلال المفارقات التي مرت بالبطلة و هي تحمل الحقيبة و كيف كانت قبل و بعد.
وفي النهاية لا يسعني سوى أن أشكر كاتبتنا أ. أنيسة عبود على الفسحة التي منحتها لنا في تنفس هذه القصة قصة ذواتنا و عروبتنا و وحدتنا قصة ضياعنا وضياع اسمنا وقيمتنا وهيبتنا


*شاعر و قاص

**شاعرة و روائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى