أدب وفن

عيد ميلاد أنتونى كوين أو زوربا اليونانى : أنا أرقص اذن أنا موجود

د . منى نوال حلمى


======================
عيد ميلاد أنتونى كوين أو زوربا اليونانى : أنا أرقص اذن أنا موجود =================================================

” يجب أن تتحلى بشئ من الجنون ، حتى تستطيع أن تقطع الحبل ، وتكون حرا “….

” خطيئة لا يغفرها الله ، هى عندما تدعوك امرأة اليها ، ولا تذهب “. ” لا أخاف شيئا ،
لا أتمنى شيئا …. أنا حر ”

. … لكل انسان حماقاته الكبيرة ، لكن الحماقة الكبرى ، هى ألآ يكون لديه حماقات ؟… ”

أنا لا أؤمن بأى فكرة ، لا أؤمن بأى شخص ، أؤمن فقط بنفسى ، بزوربا “

… ” فى كل الأوقات أستطيع أن أرقص ، ارادة الحياة تتجلى ذروتها فى الرقص “.


هذه كلمات أنتونى كوين ، الشهير بزوربا اليونانى ، فى فيلم يحمل هذا الاسم 1964 ، عن رواية نيكوس كازانزاكيس 18 فبراير 1883 – 26 أكتوبر 1957 ، ووضع الموسيقى ميكيس تيودوراكس 25 يوليو 1915 – 2 سبتمبر 2021 .
اليوم 21 أبريل 2025 ، الذكرى العاشرة بعد المائة لميلاد أنتونى كوين ، واحد من أهم فنانى الفن السابع على مستوى العالم .
الخلطة الفريدة بين جيناته الايرلندية من أبيه ، وجيناته المكسيكية من أمه ، أضفت سحرا وجاذبية ودهشة ، على ملامحه ، وبنيانه الجسدى . وهذا مكنه من اضفاء التنوع فى أعماله، خاصة فى الأفلام التاريخية ، والحربية و السير الذاتية . لا ننساه فى ” لورانس العرب ” فى دورعودة أبو تايه ، ” فيفا زاباتا ” ، عن شخصية الثائر ايميليانو زاباتا ، و” أسد الصحراء ” عن شخصية عمر المختار ، و” شهوة للحياة ” عن شخصية فنسنت فان جوخ .
أما فيلم زوربا اليونانى 1964 ، فقام بدور البطولة مع ايرين باباس ، وآلن باتس ، موسيقى ميكيس تيودوراكس ، واخراج مايكل كاكويانيس . وهو يجسد شخصية حقيقية ، التقى بها المؤلف خلال سفرياته . وهكذا وقف انسان بسيط ، لا يعرفه أحد ، الا رجل مسافر ،
متساويا فى الأهمية ، والاستحقاق ، مع الثوار ، والزعماء ، والفنانين المبدعين ، ان لم يكن أكثر منهم .
أعتقد أن فيلم ” زوربا اليونانى ” ، لو هو العمل الوحيد الأوحد ، فى مسيرة
” أنتونى كوين ” ، لكان كافيا جدا ، لاعتلاء القمة . فقد أهدانا ” رقصة زوربا ” ، احدى أجمل وأشهر الرقصات الشعبية اليونانية ، جزيرة كريت .
أحب الحرية ، وأعشق الرقص . وزوربا اليونانى ، بدون خُطب ، وشعارات ، ومزايدات ، هو نبى الحرية ، ورسول الرقص ، بلا منافس ، ولا شبيه . زوربا لا يتكلم عن الحرية ، بل يفعلها ، يفعل الحرية ، بأن يقطع حبل العبودية ، لا يتكلم عن الحياة ، بل يفعلها ، يفعل الحياة . والرقص هو ذروة التعبير عن حياتنا ، بجميع تفاصيلها ، ولوحاتها ، أحزانها ،
وأفراحها . زوربا ، يكره الكتب التى تستهلك حياة صديقه ” باسيل ” ، فى التفكير والتنظير والمنطق الأكاديمى الجامد . وتحجب عنه المتع الحقيقية . لقد أسماه ” دودة ” الكتب ، المسجونة داخل ” شرنقة ” معقدة الخيوط .


زوربا لا يملك الا لغة الجسد ، يطوعها كما شاء . يتمايل ، محتضنا الهواء ، يقفز لأعلى مثل شجرة مثمرة رشيقة ، أو سحابة لم تقرر بعد ، هل تكون عاصفة ، أم مطرا .
” ان كل يوم يمر علينا ، دون أن نرقص ، هو يوم ضائع ، ومفقود … كل حقيقة لا يصحبها ضحكات صاخبة ، هى كلام باطل …. سنندم على سنوات العمر التى انتهت ، دون أن نرقص ، ولو مرة واحدة ، “. هكذا تكلم ” فريدريك نيتشه ” 15 أكتوبر 1844 – 25 أغسطس 1900 ، فيلسوف القوة ، الذى اعتبر أن اجادة الرقص ، احدى صفات ” الانسان الأعلى ” ، لأنه أعظم تجلى لارادة الحياة . بل انه قال : ” ان الرقص منذر بالخطر .. ان الأقدام الرشيقة ، هى التى تجر الجيوش ، وهى التى تقرع طبول الحرب “. وهو القائل :
” لا تتجادلوا مع انسان لا يجيد الرقص “.
بالطبع ، الرقص خطير ، ومخيف . ليست صدفة ، أن أبشع المحرمات دينيا ، وأقوى المحظورات الاجتماعية والثقافية ، هى التى تقع على ” الجسد ” الانسانى ، وبصفة خاصة ،
جسد ” المرأة ” .
ان الانسان الذى يرقص ، يتحرك حركات متتالية ، على ايقاعات قصيرة ، متناغمة ، ويمكنها الانطلاق الى الأسرع أو الأبطأ ، أكثر أو أقل صخبا ، تخلق لوحة تشكيلية ، تمتع العيون والآذان ، تبهج وتسعد النفوس . نحن بالرقص نطير دون أجنحة ، ونعبر عن أصعب العواطف والأفكار ، دون أن نتكلم ، أو نمسك بالقلم ، أونشدو على الأنغام ، أو نشكل الصلصال .
فى جميع الفنون ، هناك عنصر مشترك ، وهو ” مقاومة ” الصخب والفوضى ،
المحيطة بالانسان . بالابداع الفنى ، يتحول الصخب الى نوتة موسيقية ، محملة بالأسرار ، ويصبح للفوضى خريطة محددة ودقيقة ، توصلنا الى مدن ، تنير بآلاف المعانى .
لا يوجد ما يحرر الانسان ، مثل الرقص . ومنذ نشوئه ، ارتبط بذروة الفردية ، والذاتية، والتعبير الحميم ، والخروج عن الأنماط السائدة ، فى المشاعر والعلاقات . الراقصة على خشبة المسرح ، ليست انسانا ، وانما عبوة من العواطف الناسفة . والراقص فى ساحة الرقص ، ليس بشريا ، وانما أقوى تجلى الهى . وكلنا يعلم الارتباط العضوى الوثيق ، بين الصوفية ، والرقص … الله يحترمك عندما تعمل .. لكنه يحبك عندما ترقص “. مقولة شهيرة من التراث الصوفى .
جميع الأساطير القديمة ، تحتوى على ما يُعرف ب تيربسيكور ، وهى كلمة يونانية ، تعنى الشعور باللذة والسرور ، من خلال الرقص ، و” الاندماج ” الكلى مع تعبيرات الجسد .
ان فاسلاف نجنسكى ، الراقص الروسى ، 12 مارس 1889 – 8 أبريل 1950 ، حصد شهرته العالمية ، من براعته فى تطويع جسده للباليه ، وتصميم حركات راقصة ، تتحدى خيال الناس ، وقدرات الجسد البشرى ، فى مواجهته للجاذبية الأرضية . فى النهاية ، أودت بصحته العقلية ، فاستحق لقب ” اله الرقص المجنون “.
وفى الديانات الأرضية مثل الهندوسية ، يلعب الرقص دورا أساسيا ، حيث الاله ” شيفا ” ، يُعرف بقوته التدميرية ، وهو يصارع الشياطين ، وينظم سير الكون ، عن طريق الرقص ، ويعبر أتباعه بدورهم عن ايمانهم واخلاصهم ، بالطقوس الدينية الراقصة .
وأتذكر هنا جلال الدين الرومى ، سلطان العارفين 30 سبتمبر 1207 – 17 ديسمبر 1273 ، مؤسس ” المولوية ” ، أحد الطرق الصوفية السُنية ، حيث يدور الراقصون الدراويش ، حول الشيخ فى المركز ، لساعات طويلة ، حتى الابتعاد عن العالم الأرضى
المادى ، وصولا الى نشوة الصفاء الروحانى ، ومن ثم التواصل مع الله ، فى وحدة كلية
لا تنفصم . قال الرومى : ” لا يفنى فى الله ، منْ لم يعرف قوة الرقص “.
ان قوة الرقص ، تأتى من أنه يلم الشتات المتبعثر ، المتناقض للانسان ، المجزأ بين
عقل ، وجسد ، وأحاسيس ، فى وحدة متماسكة متناغمة . الانسان المجزأ ، المنقسم ، يسهل اخضاعه ، والسيطرة عليه ، تأكيدا لمقولة : ” فرق تسد .
عندما أتم زوربا اليونانى ، أقصد أنتونى كوين ، عامه الخامسة والثمانين 2016 ،
جائته دعوة من ميكيس تيودوراكس ، لأداء رقصة زوربا ، على المسرح ، بعد نصف قرن ،
من انتاج الفيلم .
كامل العدد ، وكامل الفضول ، وكامل الدهشة ، كان المسرح .. تبادل الاثنان حضنا ، لنصف دقيقة . لكنه حمل ذكريات خمسين عاما . بهدوء خلع زوربا ، الجاكت .. وبدأ يرقص رقصته ، تحمل الطزاجة الأولى ، والشغف الأول . صفق له الجمهور ، وما زال يصفق حتى الآن . خاطب أنتونى كوين ، الجمهور قائلا : ” رقصة زوربا هى رقصة الحياة “. التقط ميكيس تيودوراكس الميكرفون ، فورا بعد هذه الكلمات الخمس ، يضيف : ” وما الحياة الا الحرية .. رقصة زوربا هى رقصة الحرية “.
عندما سئلت عن ماهية الرقص ، باعتبارها واحدة من أيقوناته العالمية ، قالت ” مارتا جراهام ” 11 مايو 1894 – 1 أبريل 1991 ، أن الرقص ، هو لغة الروح الخفية .
فكرتى عن الرقص دائما ، أنه ” نار أشعلها مستصغر الشرر “. واذا كانت الراقصة أو الراقص ، لا يعرف فن الاحتراق ، أو يخافه ، فعليه البحث عن شئ آخر .
هناك أشياء فى الحياة ، لا تعترف بالمنطقة الرمادية . اما ” كل شئ ” ، أو ” لاشئ ” .
قبلة العاشقين مثلا . لا يوجد شئ اسمه ، ” نصف قبلة “. اما أن تكون طريقا مختصرا الى الموت ، أو لا تكون . التركيز والدقة ، والاستغراق فى اللحظة ، هى ” السر ” للشعور بالمتعة ، ثم ارسالها الى الآخر .
زوربا اليونانى ، موجود فى كل مكان ، وليس فقط فى جزيرة ” كريت ” اليونانية . لكنه محاصر بالأفكار التسلطية ، التى لا تزدهر ، الا بوجود ثقافة ” القطيع ” ، التى تمجد التشابه والتنميط والبرمجة ، وتزدرى الخروج من الطوابير ، وعلب السردين .
رسالة زوربا ، هى ألا نكف عن محاولتنا ، لصنع فارق بيننا ، وبين الكراسى التى نجلس عليها …. لكل انسان ” ايقاع ” خاص ، عليه اكتشافه . لكل انسان ” رقصته ” المصممة حسب مقاسات جسده ، و تستطيع اخراج ” العفريت ” من داخلنا . وما ” العفريت ” ، الا الحقيقة العارية لأنفسنا ، أمام أنفسنا ، أولا .
زوربا اليونانى ، موجود فى كل مكان ، وليس فقط فى جزيرة ” كريت ” اليونانية . لكنه محاصر بالأفكار التسلطية ، التى لا تزدهر ، الا بوجود ثقافة ” القطيع ” ، التى تؤثم جسد الانسان ، تمجد التشابه والتنميط ، وتزدرى الخروج من الطوابير ، وعلب السردين .
رسالة زوربا ، هى ألا نكف عن محاولتنا ، لصنع فارق بيننا ، وبين الكراسى التى نجلس عليها …. لكل انسان ” ايقاع ” خاص ، عليه اكتشافه . لكل انسان ” رقصته ” المصممة حسب مقاسات جسده ، و تستطيع اخراج ” العفريت ” من داخلنا . وما ” العفريت ” ، الا الحقيقة العارية لأنفسنا ، أمام أنفسنا ، أولا .
كل العالم المتحضر الراقى ، يحتفل كل عام باليوم العالمى للرقص ، فى 29 أبريل .
ويهدف الى تشجيع الحكومات على دعم فنون الرقص ، ماديا ، وثقافيا ، وادخالها فى جميع مراحل التعليم ، وتمويل مهرجانات ومسابقات الرقص ، واستمرار التوعية بأهمية وضرورة
الرقص ، فى علاج الأمراض العضوية والنفسية .
فى بلادنا ، ” مينفعش ” نحتفل ب 29 أبريل . حسب المفكرة العربية ، يأتى يوم 30 أبريل ، بعد يوم 28 أبريل .
وقع اليوم التاسع والعشرون ، فى بلادنا ، رغم أنه ” لم يكن يرقص ” .


أحيانا أتسائل ، لماذا نمشى ، اذا كنا نستطيع أن نرقص ؟. هل نخاف الوقوع ؟؟.
تتعثر خطوات الانسان ، ويقع ، لأنه يرقص على ايقاع مزيف ، مسروق ، مقلد .
لم يسقط أبدا ، منْ يلبس رقصته .

نحن لا نشعر بالسعادة ، لأننا نعى أننا ، لا نرقص بالقدر الكافى ، أو لآننا لا نحصل على الحد الأدنى للرقص ، المطلوب للبقاء أصحاء النفس والجسد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى