أدب وفن

أنطوان يزبك : أوتاد البادية قصيدة تكتبها سهاد شمس الدين عني !

أوتاد البادية قصيدة تكتبها سهاد شمس الدين عني !

أنطوان يزبك*

عندما أقول أن قصيدة أوتاد البادية تكتبها سهاد شمس الدين عنّي ، فأنا أقصد ما أقوله حرفيا ، ولو بدا الأمر غريبا بعض الشيء فالشاعرة في هذه القصيدة بالذّات تنوب عني وتعبّر عمّا يختلج في أعماقي وما يلاحقني ليلا نهارا في غربتي !وحين تقول سهاد :
وأنت في طريقك الى المنفى … تعتريني مشاعر مختلفة ويذهب بي الحنين إلى ربوع بلادي ، تعود إليّ الساعات إلى ذكريات ذلك اليوم الممطر ، ذكريات الرحيل والبعد والغربة وكل مسميّات تلك المشاعر .
يقول الكتاب الكريم : كلّ نفس ذائقة الموت ، أنا بدوري اختبرت أيضًا نوعا آخر من الموت الداخلي وذلك حين تكون النفس ذائقة الرحيل. وأجد في هذه القصيدة صدى لمشاعري، أرى حروفا ذهبيّة من نور تشعّ شعّا ، تكتب سيرتي ورحلتي في الحياة وفي تفاصيلها الدقيقة .
أجل كل نفس ذائقة الرحيل والغربة والبعاد الى بلاد بعيدة قاسية ، وأستطيع أن أقول أن سهاد أصابت مني مقتلا كما يقال عادة ولكن بسهم عفيف لطيف من شعر و قصيدة . ليس سهما قاتلا بل محييا ، فقد كتبت سهاد سيرة رحيلي وكتبت أفكاري وكتبت ابتعادي وعزلتي عن كل ما أحبّه في هذه الحياة !
كتبت سهاد لوحة بأحرف مذهّبة كما أسلفت ،توصيفات للهجرة ، كنت أقرأها في الكتب منذ بداية عهدي بالقراءة والكتابة وكنت أخاف من مجرد التفكير بلحظة الرحيل … وها إنني فجأة أعيشها بالفعل و أختبرها كلّ يوم !
” أوتاد البادية “هي الشاهد الوحيد على ما تطويه المشاعر ، فحين يرحل القوم تبقى الشخوص واقفة منتصبة ، وكأنها ترمقنا تتحدانا تنظر إلينا من بعد ميتافيزيقي لا نستطيع أن نلجه أو حتى أن نفهمه ( أوتاد ) نحيلة جافّة تبدو مثل فتيان صغار يهابون الريح والظلمة ومع ذلك يبقون واقفين ! وعلى الرغم من مخاوفهم المستمرة والمبهمة والمجهولة المصدر ، فهم لا يهابون الحرب ولا يهابون خوض المغامرات والمعارك مهما كانت صبيانية . ليس هؤلاء الفتيان من فتيان الصمت الأعظم الذي نهابه ونعتقد أننا فشلنا بسببه ، بل لدى هؤلاء الفتيان ، حكايات كثيرة يخبروننا عنها في الزمن القادم .
أوتاد من خشب ناقصة دما وروحا فليكن ، ثمّ وبسحر ساحر تدبّ فيها الحياة هذه الأوتاد تستطيع امتصاص النسغ من الوجود ومن الروح الحائرة الموجودة في الكائنات ، أوتاد تدبّ فيها الحياة لتقاتل كما في واحد من الأفلام الكرتونيّة بالأبيض والأسود الذي شاهدته في الماضي ، ظنا منّي أنه للصغار ولا يلبث وأن يتحوّل الى فيلم للبالغين يصبح فيه الوتد متحدّيا ويخطط لقلب العروش واحتلال الممالك .
حين يعبث الخيال بنا لا نعود صغارا بل نكتسب شيخوخة مفرطة ومبكرة ليس في الجسد والروح بل في الوعي والمتخيّل ، ولا نستطيع أن نقول أنها هلوسات فالذي يعيش على تكرار الفزع والجزع لا يولد من رحم المأساة وحسب بل يتناسل من لدن الجنون والمصيبة والفاجعة ، عذرا يا أحباء على ما أقوله ولا يظنّن أحد أنني أدخل في سعير السوداويّة ، فمن يقرأ شعر سهاد شمس الدين ، لا يستطيع سوى أن يشعر بالأمل والفرح فهي تختار من حُلاها و أساورها الأثمن وتبيعه وبثمنه تأتي بالكلمات الجميلة كي تصوغ القصيدة من عصارة هذا الجمال الأثيري الحالم ، وهذا الكلام الذي يدخل الى أعماق الروح ويبثّ فيها الفرح والتفاؤل والضياء والأمل على الرغم من كل ما يحيط بنا من مآس وظروف لا تحتمل . ولكن حين تتكلم سهاد عن ثوب الرحيل أنظر الى ثيابي وأنظر إلى قيافتي ووجهي في المرآة فأشعر برهبة كبيرة ، لأننا عادة نرتدي أثوابنا في رحلات حلوة ولقاءات ممتعة مع من نحب وحين نعود من رحلتنا ، تبقى علينا عطور هذه اللقاءات ملتصقة بأثوابنا بعد عودتنا من اللحظات الجميلة النادرة التي قضيناها مع من نحب ! كل ثوب معلق في خزانتنا ليس مجرد قطعة من القماش بل هو مسجّل دقيق للذكريات والمشاعر والهمسات فكيف بنا حين نتجرّد من هذه الاثواب ويأتي القدر الغاشم ويسرق منّا ذكرياتنا ومشاعرنا بعد أن حاك لها الزمن مناديلا من سهرات مبهجة ، وفرح وانزياح من عصر خيالي جميل الى جمال آخر يزداد رومنسية مع الأيام والسنين .
وحين تقول سهاد :
خائفا مثل جميع الخائفين تبحث عن ملاذ أمين…تذكرني الشاعرة بما كان يقوله ذلك الفارس المقاتل الشجاع بالكلمة محمد الماغوط الذي يعتبر أن كل أبناء بلاد العرب يعيشون بالخوف والقلق في طول بلادنا وعرضها، نعم لقد أصبحنا بدون جغرافيا لقد أصبحنا في مكان آخر من العالم حيث لا أحلام زاهية لدينا ولكن نتعزّى بالقصائد فهي أهم ما وضعناه من زاد في حقائبنا قبل السفر.
تقول سهاد أيضا في هذه القصيدة :
ذاكرتك مليئة بالحنين والأنين أجل ذاكرتي مليئة حتى الثمالة ، بكلّ هذا وفيها شبه خليّة نحل تتلاقح فيها كل جينات الحنين حيث يحاول الخوف أن يبني له حاضنة دائمة تسمّم العسل بيد أنه يخفق .
هذا الخوف المشترك والمتداخل مع ذكرياتنا يهاجمها بانفعال ، يقرع ملحّا بابها يريد الدخول والإحتلال يحاول أن يطرد منّا فرحنا ، هذا المجبول بعرق قهرنا ، هذه خلاصة ذاكرتنا التي تعكس كالمرآة يومياتنا المحمّلة بالذكريات والحنين الأول الذي يترافق مع شعور شديد بالفقدان .
يفيض حنيني حين أتعلق بأهداب القصيدة ،ليس الشعر مجرد رواية بل هو سحر يتمادى في لحظة ما و يحاول غوايتنا ، نبتعد أو لا نبتعد ولكن يظلّ الوطن فينا في عروقنا يقول محمود درويش :” الحنين ندبة في القلب، وبصمة بلد على جسد .”
وأنا أسمح لنفسي أن أزيد أن الحنين الى الأرض التي هي الوطن ، هو بصمة لا بل دمغة في الروح والقلب والمكان الأفضل ليكون مرتعا للروح ، هذه الروح السخيّة المقتبلة لكلّ عزّ و فرح . و أنا افتخر بحمل علامة بلادي لأنها علّمتني على وجودي من خلال اللغة الراقية ، و علّمتني الأدب وأيضا أدب الحياة ، أضافت روحا على روحي ورقيّا على رقي ما تتوق نفسي إليه وأعطتني ملكات الفهم لرومنسيات الشعر والجمال حتى تتسامى نفسي وترتقي في عوالم الروح والكينونة المقدسة .
سهاد ترى في الوجوه التي غادرتنا ياسمينا ، تسكب في شعرها صورا قادمة من ذاكرتي أنا ومن طفولتي حيث كانت بلدتي الساحلية وحيث تفتحت حواسي على رؤية الجمال ، وحيث لم يكن يخلُ منزل أو مصطبة من شجرة ياسمين ، زهور الياسمين وعطر الياسمين وحكايات الياسمين تختصر كل طفولتي وأحاسيسي والحب الاول ، و المغامرات العاطفية الأولى والقراءات الشعرية الأولى حين يبدأ الفتى يتلمّس طريقه في دنيا الأدب والشعر . القراءات العذبة التي تجعل الحياة تدبّ في القلب العاشق وتمنح الدفء للعاطفة قبل أن تغرق في جليد المحيط المتجمد !
سهاد لقد كانت قصيدتك هذه، تشقّ الطريق أمامي. تدخل الى مشاعري المعقّدة التي تحلّق فيها الأرواح كما في” نسيج من هباب ” اللاكينونة، قصيدة تمسكني من يدي وتعيدني إلى صفاء الذات.
هكذا قرأت القصيدة وهكذا استمتعت بها وأيضا فرحت أنك أنت سهاد تنقلين مشاعري ، تنقلينها في قصيدة فيها حضور قوي من ذاتك ، عنصر مجدد للانفتاح على كون جميل جعلته الحروب ينغلق على ذاته . كون هو في الحقيقة مثل صالة سينما تعرض حصرا أفلاما موسيقية musical movies ، اضطرت بسبب الحرب الى إقفال أبوابها ، ومع ذلك تبقى قصيدتك يا سهاد جميلة في كل حين ومهما كان موضوعها فهي تعبق بالرائع من العطور وشحنات كبيرة من اللهفات، والصور المتسامية التي تحمل في ما تحمله إرسالات مبهجة من معين الخير الأعلى و الحضور الربّاني الذي يبارك وحدتنا عندما يشتدّ الضيق !

قصيدة الشاعرة سهاد شمس الدين
..
وأنتَ… وفي طريقِكَ إلى المنفى…
قد تضع في فمكَ قطعة حلوى
تُنسيكَ مرارة الطريق
وقد تحتار
أيّ ثوبٍ سترتدي
لتُبعِد عنكَ الشبهات
بأنّك كغيرك… قد تشعر بالبرد…
أو قد يكون هناكَ بركان داخلك
يستعد للقفز من عينيكَ
أو قد تكون تهمتكَ
خائفاً مثل جميع الخائفين
تبحث عن ملاذٍ أمين
لذاكرتكَ الملأى
بالحنين… بالأنين…
وربما بعبقِ الياسمين لوجوهٍ غادرتها
رغماً عنك
أفلتت منكَ
وكأنّك كنتَ تُمسِكها بأطرافِ أصابعك
كما يحدث عندما يملؤنا الضجر
من قارورة العطر المُعتادة
نحن لا نحب التآلف كثيراً
إلا مع أنفسنا…
نخاف العبور إلى الشرفةِ المقابلة
فقد تكون وبرأينا الضرير
نافذةٌ على فسحةِ فرحٍ عابرة
لذا… نرحل….
وأقدامنا ملتصقة بأوتاد البادية
ونصحو… ونغفو….
ولا الطريق ينتهي….
ولا تعود لنا من جديدٍ أزمانٍ غابرة…..

*كاتب و باحث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى