العالَم الثَّقافي للكاتِب “جان تُوما” وكتابه “إطلالات على الأدب المعاصر في لبنان”
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)
بزغَ فجر جان توما، من بلدة “الميناء”، في فيحاء لبنان، طرابلس؛ وفيها تلقَّى علومه التَّاسيسيَّة، في “مدرسة مار الياس”؛ ومن ثمَّ في “ثانويَّة الميناء”، وفي “ثانويَّة القبَّة”، في طرابلس الفيحاء. حاز، توما، بعد ذلك، شهادات “الإجازة” و”الماجستير” و”الدكتوراه”، في اختصاص “اللُّغة العربيَّة وآدابها”، من “الجامعة اللُّبنانيَّة”؛ وهو اليوم من أساتذة هذه الجامعة؛ كما سبق له أن كان أستاذاً في “جامعتي “سيِّدة اللُّويزة” و”البلمند”.
يَغْلُبُ على ظَنِّي أنَّ الدكتور “جان تُوما” لم يُولَد في هذه الحياة إلاَّ ليكون فاعلاً ثقافيَّاً وتثقيفيَّاً بين ناس الحياة؛ ينطلقُ مِنهم وإليهم، يعبُّ مِن تراثِهِم ويتعمَّقُ في أصالةِ وجودِهم؛ ثمَّ ينفلتُ إلى ما يؤمِنُ بجدواه مِن رؤى الأكَّاديميا ومناهج النَّظرِ عَبْرَها؛ فيدرسُ الأوضاعَ ويُحَلِّلُ الوقائعَ ويستخلصُ النَّتائجَ؛ ويعودُ، مِن بعدِ كلِّ هذا، إلى قلمِهِ لِيَكْتُبَ بِهِ حقيقةَ ما رآه، ولكن بِمِدادٍ لونُهُ وفاءٌ وبعبقريَّةٍ منطلقُها الانتماءُ إلى واقعِ المكان، وبعاطفةٍ لُحمتها الإخلاصُ وسداها الحقُّ والجمال.
يدخلُ “جان تُوما” رِحابَ الثَّقافةِ مِن باب النَّشاط المجتمعيِّ، الذي لا يجد في النَّاس وفي حيويَّة وجودهم إلاَّ الشَّرط الذي لا بدَّ مِنه لتحقيق حيويَّة الثَّقافة والإفادة العمليَّة، وليس مجرَّدالإفادة النَّظريَّة مِنها. فـ”جان تُوما”، وربَّما انطلاقاً مِن وعيهِ لِحَيَوِّيَّتهِ النَّقابيَّة، قد لا يَجِدُ حقيقةَ العيشِ في تنظيرٍ ثقافيٍّ قد يَظَلُّ راسخاً “حبراً على ورقٍ”، كما يمكن أن يُقال؛ بل إنَّ “جان تُوما” لا يرى حقيقةَ العيشِ إلاَّ في تطويرِ هذا العيشِ ليظلَّ مُتلائماً مع واقع حيويَّةِ الحياة الإنسانيَّةِ، بكلِّ أبعادها ومجالاتها، وبجميعِ متطلِّبات هذا الواقع.
لعلَّ مِنْ أفضل “المفاتيح” للدُّخول إلى العالَمِ الثَّقافيِّ للدكتور “جان تُوما”، يكمنُ في أن يعرفَ المرءُ أنَّ صاحب هذا العالم هو أستاذٌ جامعيٌّ وناشطٌ ثقافيٌّ وقياديٌّ نقابيٌّ، فضلاً عن كَوْنِهِ مُنْتَمٍ بحميميَّةٍ موضوعيَّةٍ ووجدانيَّةٍ، في آن بنائيٍّ عضويٍّ واحدٍ،إلى محيطه الجغرافيِّ! فإذا ما تمكَّن المرءُ مِن الإمساكِ بهذا “المفتاح”، انفرجت أمام بصيرتِهِ بواعثُ ما يَزُفُّه الدكتور “توما”، مِن كتاباتٍ؛مِنها دراساتٍ أكَّاديميَّة بحتة،ومِنها ما يتجلَّى بترجماتٍ لشخصيَّاتٍ فكريَّةٍ وثقافيَّةٍ واجتماعيَّةٍ، وكذلكَ منها ما يُقَدِّمُ قراءاتٍ في الحياة والمجتمع، وما يُشرِقُ بألفاظِهِ بَوْحَ وجدانٍ وتألُّقَ مشاعر وعطرْ محبَّة.
كتابُ “جان توما”، “إطلالات على الأدب المعاصر في لبنان”، من منشورات “مؤسَّسة شاعر الفيحاء سابا زريق-لبنان”، أبعد مِن أن يكون مجرَّد جولاتٍ ثقافيَّةٍ لمؤلِّفه؛ وهو أكثر عُمقاً مِن أن يكون متابعةً لنِتاجِ هذا أو ذاك مِن الكُتَّاب؛ كما أنَّه أشدّ اتِّساعاً مِن أن يكون مَحَطَّاً لبعضِ المشاعرِ والأحاسيسِ وفيوضات الوجدانِ الإنسانيِّ عند واضعه. الكِتابُ، كما يبدو لمن يُحْسِنَ خَوْضَ غِمارِهِ المُزْهِرَةِ بحيويَّة وجودِ مؤلِّفِهِ، ويعرفُ كيف يفَتحَ مَغاليقَهُ،عبرَ النَّظرِ في جُوَّانيَّة واضعِهِ، يعرضُ لحيويَّةِ الثَّقافةِ ومجالات فاعليَّتِها الخصبَةِ والإيجابيَّةِ في الوجودِ المعاصِرِ للبنان في هذا الزَّمن الذي نعيش.
يَنْهَضُ كتابُ الدكتور “جان تُوما” على عدَّةِ أسُسٍ لعلَّ مِن أشدها بروزاً، في نظري، ثقافة ِّغنيَّة ومتميِّزة في مجال البحث الاجتماعيِّ؛ وهي ثقافةٌ تدلُّ على قدراتٍ طيبةٍ على سبر أغوار الواقع وحُسْنِ تحليلها ومِن ثمَّ الإصابة في كثيرٍ مِن الاستنتاجات والرُّؤى المبنيَّة على هذا التَّحليل. ومِن هذه الأسُسِ، أيضاً، التزامٌ واعٍ لِمَنْطِقِهِ وحريصٍ على وجدانيَّةِ مُنْطَلَقِهِ بالأرضِ والنَّاسِ؛ إِذْ لا يَنْطَلِقُ الدكتور توما، إلى ما يصولُ فيهِ ويجولُ مِن آفاقٍ ورِحابٍ وأحداثٍ وناسٍ، إلاَّ مِنْ خِلالِ وَعْيِهِ بالأرضِ التي نشأ عليها وعاش بين ناسِها: “الميناء” و”طرابلس” و”لبنان الشَّماليِّ”؛ ومِن ثَمَّ مناطقَ أخرى مِن لبنان.
يدرسُ“جان تُوما””الأمثال الشَّعبيَّة”، مِن منظار الباحث الاجتماعيِّ ورؤى الملتزم المجتمعيِّ في آن؛ ويَدخل، مِن جهة أخرى، ساحةَ فاعليَّةِ “الثَّقافةِ في وجود الأطفال والمراهقين”؛ فإذا به عميقُ الرُّؤى في مجالاتِ التَّربية وواسعُ الآفاقِ في ساحات التَّثقيفِ والمُثاقَفَة. وينفلتُ توما، بعد هذا وذاك، إلى دراسةٍ في ميدان عِلْمِ الاجتماع المُدُني؛ فيبحثُ، عَبْرَ هذا الدُّخول وانطلاقاً مِن عيشه في بلدة “الميناء”، في طبيعة “وجود المُدُن البحريَّة”، ولكن مِن خلال التَّركيز على البُعد الثَّقافيِّ والتَّثقيفي لهذا الوجود.
يظلُّ الدكتور “توما” يتنقلُ مِن موضوعٍ حسَّاسٍ وشيِّقٍ إلى سواه؛ فها هو، وعلى سبيل المِثال وليس الحصر، يدرسُ”الحِرفَ اليدويَّة” وسواها ويخوض أيضاً في “تاريخ الموارنة في طرابلس والميناء”؛ وفي درسِهِ هذا لا ينفكُّ وفِيَّاً لِمَا اتَّخذَهُ نبراساً لكتاباتِهِ مِن رؤىً مجتمعيَّةٍ وآراءٍ اجتماعيَّةٍ وتحقيقٍ تاريخيٍّ ولغويٍّ يعضدُ بهما ما يشرحه مِن أحداثٍ أو يُحلِّلُه مِن وقائع ومفاهيم أو يتوصَّل إليهِ مِن نتائج.
وينتقل الدكتور “جان توما”مِن دراسته للحالات المجتمعيَّة، برؤاه الثَّقافيَّة، إلى الخوض في غمار الشَّخصيَّات الفردة، مِن أركان الثَّقافة في بيئته وزمانه، مِن المطران “جورج خضر” إلى الشَّاعر والفنَّان التَّشكيلي “رضوان الشَّهَّال” و”مارون عيسى الخوري” و”إبراهيم الهندي” وسواهم؛ فإذا بما يقدِّمه الدكتور “تُوما” دراسات متنوِّعة وأبحاث متعدِّدَة، تنطلق جميعها مِن رؤىً تنهض على حركيَّة الدِّيموغرافيا في الوجود المجتمعيِّ للشَّمال اللُّبنانيِّ عامَّةً ولـ”طرابلس” و”الميناء”، مِن هذا الشَّمال، خاصَّة.
يَعرضُ“جان تُوما”، في كتابه، بعضاً مِن مكتوباته الوجدانيَّة، أشياء مِن بَوْحِهِ الذَّاتيِّ؛ يُبْرِزُ بعض أوجاعه وآلامه التي تُزهرُ، بتعابيرِهِ، ورود جمال؛ ويحكي حسراتٍ له عن أناس غيَّبتهم الوفاة، فإذْ بما يحكيه يعيد الغائبين إلى نبض الحياة وطيبِ العطاء. مِن هنا، يمكنُ القول إنَّ “توما” في وجدانيَّاته هذه، لم يغادر أبداً ما انتهجَهُ في بقيَّةِ مطارِحِ هذا السِّفْر، مِن رؤيَّةٍ مجتمعيَّةٍ وفاعليَّةٍ ثقافيَّةٍ وأدواتِ تعبيرٍ جماليٍّ.
الدكتور “جان تُوما”، في هذا “إطلالات على الأدب المعاصر في لبنان”، فاتحٌ لآفاقٍ على حيويَّةٍ الفاعليَّةِ الثقافيَّةِ والمجتمعيَّةِ المعاصِرَةِ للزَّمنِ الرَّاهنِ في لبنان؛ وفي ما يفتحُ توما مِن هذه الآفاقِ، فإنَّه يَعرضُ ويوثِّقُ ويُحلِّلُ، كما يُعَبِّرُ عن وجدانيَّاتهِ، بإيجازٍ لا يُعمي الموضوعَ وبيانٍ لا يُخفي الحقَّ ولسانٍ لا يخونُ الوَداد الثَّقافيِّ للمجتمعِ أو يغتالُ حقيقةَ الواقِع.
*نقلا عن موقع ALEPH LAM