علي حيدر: حين ترقص الأرواح في مرايا اللون.. فلسفة فنان يتجاوز المدارس


علي حيدر: حين ترقص الأرواح في مرايا اللون.. فلسفة فنان يتجاوز المدارس
فاتن مرتضى*
لطالما كان الفن مرآة للروح الإنسانية، لكنّ قليلين هم الفنانون الذين يمتلكون القدرة على تحويل ضربات الفرشاة إلى نبض حياة، والمادة الصامتة إلى قصيدة متحركة. الد. علي طلال حيدر هو أحد هؤلاء القلائل، الذين تجاوزوا حدود الأكاديمية الصارمة، ليصوغوا لغة بصرية تنتمي إلى الحس الإنساني العميق قبل أي مدرسة أو تصنيف. في تجربته، لا يهمّ الشكل بقدر ما يهم الأثر الشعوري الذي يتركه اللون. إنّه فنان يرى باللمس، حيث تتحول ضربات الفرشاة الكثيفة إلى تضاريس نفسية وروحية، وحيث كلّ لوحة تحمل أثرًا من الوجود الإنساني في لحظته الأكثر هشاشة وعمقًا.
فلسفة الرسم: من العين إلى الروح
ينتمي حيدر إلى جيل من التشكيليين الذين مزجوا ببراعة بين التعبيرية والرمزية والتجريد. فهو تعبيري في الانفعال، رمزي في الدلالة، تجريدي في البنية، وإنساني في الجوهر. هذه المرونة الفنية لا تعكس تشتتًا، بل تعمقًا في فهم أنّ اللون ليس مجرد وسيلة للوصف، بل فكرة وانفعال معًا. إنّه فنان يرسم من الداخل إلى الخارج، لا من العين إلى الواقع. لذلك، فإنّ الوجوه في أعماله ليست مجرد بورتريهات، بل “خرائط شعورية” تتقاطع فيها خيوط الضوء والذاكرة والزمن، تجسيدًا لروح الفنان التي ترفض المحاكاة البسيطة لصالح الغوص في الأعماق. تتسم لوحاته غالبًا بالمادة المتراكمة والسطوح الخشنة، في استعادةٍ لروح التعبيريين الألمان، لكنه يضفي عليها روحًا شرقية دافئة تفيض بالوجدان والحنين. هذه الخامة الثقيلة، التي تجمع بين الرسم والنحت، تجعل البورتريهات أقرب إلى النحت الجداري، وكأنّ الفنان يبني الوجوه من ذات المادة التي تُصنع منها الحياة. الضوء في أعماله ليس خارجيًا، بل مادة داخلية تنبع من عمق الشخصية المرسومة، والظل ليس مجرد أثر بصري بل لغة روحية تكشف عن جوهر الإنسان.
تأثير دراسة الجيولوجيا
لا يمكن فهم لوحات حيدر دون العودة إلى خلفيته العلمية كدكتور في الجيولوجيا. دراسة الأرض، الصخور، الطبقات، والمعادن لم تمنحه معرفة تقنية فحسب، بل أثّرت عميقًا على رؤيته الجمالية وفلسفته الفنية. المواد الطبيعية، تضاريس الصخور، ونسيج الطين والحصى، جميعها ساهمت في تشكيل إحساسه بالخامة والمادة على اللوحة. لذا نجد أنّ الفرشاة عنده لا تكتفي برسم الشكل، بل تبني طبقات شعورية تشبه الطبقات الأرضية: كثيفة، متراكمة، ومعقّدة، لكنّها تحمل في داخلها الحياة والعمق. هذه الدراسة علمته الصبر والملاحظة الدقيقة، وزرعت فيه إحساسًا بالزمن الطويل، حيث الأرض تحفظ أثر كل حدث. وهكذا، نلاحظ في لوحاته اهتمامًا بالمواد المتراكمة والسطوح الخشنة التي تعكس هذا الوعي بخصائص المادة، لكنّها تتجاوز الطبيعة لتصبح لغة روحية. على المستوى الشخصي، علّمته الجيولوجيا الانضباط والقدرة على البحث عن الجوهر تحت السطح، وهو ما تجده في كل وجه يرسمه: طبقات من اللون والظل تكشف عن الإنسان في أعماق روحه، تمامًا كما تكشف الصخور عن تاريخ الأرض.
شخصيات في مرآة اللّون: عبد الحليم كركلا ومرسيل خليفة كنموذجين
عبد الحليم كركلا: الوجه كمرآة للمدينة والهوية
لوحة الفنان عبد الحليم كركلا تحمل أسلوبًا تعبيريًا واضحًا، حيث اعتمد حيدر على الملمس الكثيف للألوان الزيتية والتشكيل الطيني للأشكال، ما يعطي إحساسًا بالعمق والحركة الداخلية. نلاحظ تدرجات اللون بين البني والوردي مع مسحة من الأخضر، ما يخلق تباينًا يضفي على اللوحة إحساسًا بالحنين أو التوتر الداخلي. كأنّ الخطوط والانكسارات في اللون تشبه شقوق الأرض أو طينًا مشققًا تحت الشمس، ما قد يعكس فكرة الإنسان في مواجهة عناصر الطبيعة. التقنية المستخدمة تُظهر اعتمادًا على البروز والعمق بدل المسطحات اللونية . التوازن بين الورديات والبنفسجيات والخضر الداكنة ليس مجرد تضاد بصري، بل جدلية للحياة والزمن في وجه واحد. العينان الفارغتان ليستا علامة غياب، بل نافذتان نحو البصيرة، كأنّ كركلا ينظر من الداخل إلى العالم حيث تبدأ الرؤية الحقيقية. يرتبط وجه كركلا ارتباطًا وثيقًا بمدينته التاريخية بعلبك، التي تحتضن معابدها الشهيرة وتُعرف بـ”مدينة الشمس”. كانت المدينة مصدر إلهام رئيسي له، وفي دلالة عميقة على هذا الارتباط، قال الشاعر طلال حيدر في تكريمه: “جسده تجذبه الأرض إليها فلا يرتاد الهواء ولا يتناثر في الفضاء، فراح يكتب بالجسد لغة لا يجيدها إلا جسد يسير على الماء.” في عروضه المسرحية، مزج كركلا بين التراث اللبناني والرقص المعاصر، مما جعل وجهه، بتعبيراته الجسدية، مرآة لروح المدينة وأصالتها. لذلك، فإنّ وجهه في لوحة حيدر لا يُعتبر مجرد ملامح شخصية، بل رمزًا حيًّا لمدينة بعلبك، حيث يلتقي التاريخ بالفن والجسد بالكلمة.
مرسيل خليفة: الوجه كرمز ثقافي وفلسفي
في لوحة الفنان والموسيقي مرسيل خليفة، لا يكتفي الد. علي بتصوير الوجه كمغنٍ، بل يصنع منه رمزًا ثقافيًا وإنسانيًا متأملًا. الوجه، المشكّل بخامة سميكة، يحتل مركز اللوحة بخطوط متوترة وملامح غائرة. الدرجات الترابية والبيج تمثل الهدوء والحكمة، بينما يرمز الأحمر في الخلفية إلى العاطفة الثورية التي تميّز مرسيل، وإلى النبض المقاوم الذي يسكن موسيقاه. وجهٌ منكس الرأس كأنّه ينصت إلى موسيقاه الداخلية، في تأملٍ وصمتٍ عميقين، فتتحول ملامح الحزن إلى تجسيد للكرامة والتفكير الوجودي. ما يضيف بُعدًا فلسفيًا للوحة هو الطريقة التي يجعل بها الفنان الوجه يبدو وكأنّه “خُلق من الطين”، كما في النصوص التراثية. الطين هنا ليس مجرد مادة بصرية، بل رمز للإنسانية: هشاشة الجسد، قدرة الإبداع، والاتصال العميق بالأرض. ضربات الفرشاة الكثيفة توحي بأنّ الإنسان، تمامًا مثل الطين، قابل للتشكّل، للمعاناة، وللارتقاء الروحي. يصبح مرسيل خليفة هنا رمزًا للإنسانية الكونية، حيث يلتقي اللون بالروح، والمادة بالفكرة.
الفن كشكل من أشكال المعرفة الروحية
ما يجمع بين الرسام وشخصياته، سواء كركلا أو خليفة، أعمق من علاقة فنان بموضوعه. فكلاهما يبحث عن الإنسان في لحظة انخطافه الجمالي: حيدر يراه في اللون، وكركلا في الحركة، وخليفة في اللحن. في لوحاته، يتعانق عالمان: اللون يرقص، والجسد يتشكل. إنّها قصيدة لقاء بين العين والقدم، بين الصمت والإيقاع، بين لوح ثابت ومسرح متحرك. يعدّ حيدر من الأسماء التي أسست لمسار فني موازٍ للمدرسة الأكاديمية في لبنان، مسار يقوم على صدق الانفعال، بساطة التكوين، وجرأة اللون. لوحاته تمتلك قدرة نادرة على الجمع بين البساطة والتأمّل، بين التجريب والدفء الإنساني. في زمن تسوده الصيغ الجاهزة، يظلّ فنان الصدق الداخلي، الذي يرسم كأنّه يتعبّد في محراب اللون، ويحوّل اللوحة إلى مساحة تأمّل في معنى الوجود.
خاتمة: اللوحة مرآة للجوهر
في أعمال الدكتور علي، لا تُقاس قيمة اللوحة بانتمائها إلى مدرسة فنية، بل بمدى قدرتها على التواصل مع أعماق الإنسان. لوحاته ليست مجرد صور، بل هي قصائد بصرية وترانيم صامتة تجمع بين اللون والحركة، الجسد والروح، الزمن والذاكرة. من خلال وجوه كركلا وخليفة، يتحول الفن إلى تجربة روحية حقيقية، حيث كل ضربة فرشاة هي لغة صامتة تكشف عن الجوهر الإنساني. هكذا، يُثبت أنّ الفن الحقيقي هو استكشاف للجوهر وتعبير عن الإنسانية في أسمى صورها. في مواجهة “الصيغ الجاهزة”، يصبح اللون لديه مفتاحًا لفهم الوجود، وتتحوّل كل لوحة إلى مرآة للحياة، تاركةً بصمة خالدة وأثرًا لا يزول في وجدان المشاهد وعقله وخياله. وهكذا .. يظلّ يرسم لا ليُجسّد الشكل، بل ليوقظ فينا ذاكرة اللون، حين ترقص الأرواح في مراياه.






