أدب وفن

المشي على أشواك العنف والممنوع في “البيريتا يكسب دائما” لـ”كمال الرياحي” بقلم وداد رضا الحبيب

الروائي التونسي كمال الرياحي والأدبية وداد رضا الحبيب


الشاعرة و الروائية وداد رضا الحبيب


كتابة جديدة لتاريخ تونس ما بعد الثورة، أحداث متشابكة واقتحام لعالم. تلك هي رواية ” البيريتا يكسب دائما” لكمال الرّياحي، الصادرة عن منشورات المتوسّط، ميلانو بإيطاليا، في ديسمبر. وهي رابع أعماله الروائيّة بعد “المشرط”، “الغوريلا” و”عشيقات النذل”. هي رواية تخرق المألوف من سنن الكتابة الروائيّة المقرّرة في الأذهان. إذ تجرأ على إعادة طرح الأسئلة السياسيّة والاجتماعيّة وتتوسّل بأسلوب موغل في التمرّد والخروج الأنماط المعهودة. فالبطل مسدّس ايطالي من نوع “البيريتا”، وهو نفس النوع الذي اغتيل به السياسي “شكري بلعيد” ضمن سلسلة اغتيالات طالت عددا من الشخصيّات السياسيّة في تونس بعد الثورة. وهو حدث غيّر مجرى الثورة وأثّر في مسار تاريخ تونس المعاصر. فقد اشتعلت بعده ما يشبه حربا باردة شرسة على المستوى الايديولوجي والاجتماعي والسياسي. تغذّت هذه الحرب من خذلان الجهات المعنيّة والقضاء والمجتمع المدني التونسي. ولذلك يعيد كمال الرّياحي –في اعتقادي -كتابة هذه الأحداث من منظوره الخاصّ كفنّان، لتكون شهادة على العصر أوّلا وليحاكم ويحرج جميع المتواطئين في هذه القضايا الحارقة.
مظاهر التمّرد في الشكل والمضمون:
تدور الرّواية حول جريمة قتل كحدث رئيسيّ. ثمّ تمضي بالقارئ في متاهة فيجد نفسه يبحث عن الجاني، ويكتشف أنه أمام سلسلة من الجرائم والأحداث المتتالية. وأما عدد من الشخصيات لا يجمع بينهم سوى انتماءهم لعالم المهمّشين والمقصيّين في مجتمع يدّعي الفضيلة. هذه الشخصيات لم يتعوّد القارئ العربي على ولوج عالمها الغامض المليء بالجريمة والعنف والدّعارة. وهي تعاني في أغلبها من اضطرابات نفسيّة وسلوكية. ويبقى الخيط النّابض بين كلّ هذه الأحداث البيريتا الذي هو حسب العنوان المخاتل ” يكسب دائما”.
يتنقّل “البيريتا ” بين شخصيات الرّواية كاشفا لنا في كلّ مرّة عن عوالم جديدة، عالم اللّصوص والشّرطة والعشيقات والاعلاميّين والكتّاب… مسدس يتحوّل إلى شخصيّة تراجيديّة محيّرة. تتشابك الأسماء، تتواتر الأحداث بنسق جنونيّ ليصبح هذا ” الشّيء” كائنا حيّا يؤثّر ويتأثّر. ينسج بنفسه عوالم جديدة ويطرح الأسئلة برمزيّة مزعجة بين الواقع والتّخييل، بين ما ندركه وما نخشاه، بين ما نريد معرفته وما نرفض حتى تخيّله. على نفس الجسد السّرديّ نجد”كلاب، حمام، ثعبان، مسدس، عصى سوداء…جنس بطعم الموت، خيانات، بائعات الهوى والكثير من القتل والعنف. فالمحقّق علي كلاب يبحث في جريمة قتل وهو نفسه يتلذّذ بطريقة مرضيّة موغلة في بثّ الرّعب من حوله في قتل الكلاب والتنكيل بجثثهم و تركها تتعفّن أمام الجميع، بل يستمتع أيضا بالتقاط الصور معها. ملازمون يحققون في قضية وهم أيضا متهمون بجريمة سرقة البيريتا وتدور حولهم الشبهات، بيّة شخصيّة غامضة شاهدة على جريمة قتل، ومتورّطة أيضا في جريمة الافتراء على الملاكم الأسترالي، ثم جريمة اغتيال شكري بلعيد وشخصية أخرى تُدعى يوسف غربال تريد قتل ماري بنفس السلاح دائما البيريتا الملعون ليظهر في النهاية الرّواية شبح الانتحار وكأننا ننظر كلنا في مرآة الكاتب العالمي ديفيد والاس الذي انتحر فعلا ليصدم العالم بقراره ذاك.
يقحمنا الكاتب في عالم من الفوضى المربكة أقرب ما تكون من واقعنا المعيش لتونس ما بعد الثورة لكن بخطاب روائي يغلب عليه الحوار. فمنذ الصفحة الأولى يكتسح الحوار جسد الرّواية ويحلّ محلّ السّرد. فقد ترك الشخصيات تعبّر عن ذواتها بنفسها وتكشف عن تناقضاتها ومدى هشاشتها المتوارية وراء أقنعة الجريمة والعنف. إنّ تمرّد الشخصيات على المجتمع يتناسب تمرّد الكاتب على الأسلوب الرّوائي التقليديّ. فالأحداث تتابع وتتشابك، ثمّ إنّ الكاتب يزجّ بنا في بحرٍ من التفاصيل، تأخذك الحوارات ولا تجد لصوته صدًا. ذلك أنّ شخصيات كمال الرّياحي تحتلّ الحيّز الزمنيّ والمكانيّ للرّواية. وتعبّر عن مشاغلها وهواجسها وتثور وأحيانا وتنهار بلغتها الخاصة بعيدا عن النّفاق أو الزيف الاجتماعي أوعن أيّ حكم أخلاقي أو قيمي لملفوظاتها. إنها جميعا وليدة واقعها الذي تنتمي إليه وتعبّر عنه بكلّ تلقائيّة. كأنّك في الرواية تشاهد عملا سينمائيا.
إنّ كمال الرياحي يسعى إلى بناء مشروع فنيّ يقدّم فيه مفهوما جديدا للرّواية منزاحا عن النمط السّائد لضروب التأليف الروائي العربي. فالرّواية عنده منفتحة على فنّ السنيما، تمتح من تقنياتها وصورها ودقّة التفاصيل وضبابيّة الرّؤية واكتساح الحوار للجسد الرّوائي وحيرة المتلقّي أمام اصطدامه في كلّ منعرج للانعطافات الدّراميّة بما لم يكن يتوقّعه. تتميّز هذه الرّواية بجماليّة متفرّدة وأسلوب ماتع تتداخل فيه الأجناس وتغيب فيه الرّتابة شكلا ومضمونا.

التخييل الفنّي وإكراهات الواقع في بناء الرواية:
تسافر بك الرّواية بسلاسة مُغرية بين يوميّات الكاتب يوسف غربال وتحقيقات الشّرطة وشذرات من كوابيس اليقظة وحوارات ترمي بك في عوالم الجنس والعنف والواقعيّة القذرة … ممّا يجعلك ربّما تتوهّم أنّك أمام سيرة ذاتيّة تختبئ وراء قناع ” تخيّل”. وحين تتوغّل في النص السّرديّ تقف أمام حقائق تاريخيّة مأخوذة من واقعنا القريب، كأحداث الثورة وسقوط السيستام وكلّ ما يهوي معها من رموز ومعاني وما تطرحه من قضايا. تطرح الرّواية القضايا السياسيّة الحارقة للّحظة الرّاهنة بكلّ جرأة. رواية حمّالة أسئلة وتتميّز بتعدّد التأويلات.
يطرح كمال الرّياحي من خلال جدليّة ” الواقع والمتخيّل ” أسئلة مربكة. ما هي حدود التّخييل في العمل الرّوائي؟ وكيف للواقع أن يتجاوز التّخييل غرابةً وحيرةً؟ ألسنا اليوم نعيش في عالم من الفنتازيا التراجيديّة؟ أو لنقل عالما من الفنتازيا المجنونة كأنّها الهذيان حيث الصّور الكاريكاتوريّة تقشعرّ لها الأبدان ؟ فنحن اليوم في واقع مضحك حدّ البكاء بل حدّ المحرض على الانتحار ومبكٍ حدّ اللامبالاة بل حدّ جعله كرنفالا وموسيقى ورقصا لكنّه رقص على جثث الكلاب وآهات بائعات الهوى والمضيّ إلى أقصى أنواع العنف، فحتى الجنس يبدو في هذه الرّواية كرغبةٌ مجنونة في التعذيب وسحق الآخر فيحضر الجسد بلغته الصّارخة من خلال الكتابة الايروسيّة في مشاهد موغلة في الفحش. وهذا الآخر ليس سوى الانسان المعاصر الجريح المنكسر السّجين خلف تراكمات الذكريات والهواجس والعقد النّفسية و صوت الطّفولة المشوّهة .و الكلّ على حدّ السّواء، أنثى أو ذكر، يشارك في نسج هذا العالم حيث المتخيّل واقعٌ والواقعُ متخيّلٌ.
“البيريتا يكسب دائما ” عمل أدبيٌّ تونسيّ مشدود إلى تربته وفي الآن نفسه يعانق أفق الإنسانية الرّحب لأنّه يعيد بناء فهمنا لمفهوم ” الحكاية ” كقاسم مشترك لكلّ البشر باختلاف الأمكنة والأزمنة…في هذه الرّواية كلّ الحكايات وكلّ السرديّات، الواقع والخيال، جميعا في ” سلّة قمامة” واحدة مع البيريتا رمز الموت والحياة الجديدة الأبديّة. أليس الموت بداية حياة لا موت فيها؟ الكلّ إذا في سلّة واحدة ولكنّها سلّة قمامة سوداء مظلمة يُرمى بها هنا وهناك عليّ كلابْ كأتفه ما يكون وكأفظع ما يكون لأنّها تثير جنونه ، وعلي كْلابْ هو الجنون بعينه. يختزل كلّ الانسانيّة بهشاشتها وقوّتها، بضعفها وعنفها…

“علي كلابْ” شخصيّة روائيّة ورمز متعدّد الدلالات.
هذه الشّخصيّة، علي كلاب، نموذج “للسيستام” القديم، للواقع التونسيّ ما قبل الثورة وربّما أيضا ما بعدها: رعب وقتل وتحقيقات وقهر وصراخ وبكاء وجثث. لكنّ علي كلابْ بقدر ما يثير فيك من اشمئزاز ونفور فإنّه في لحظة ما يسكنك ويغريك لتجد متعةً غريبة في تقصّي حركاته وسكناته والتلذّذ بهذا الكم الهائل من العنف والقتل والكلام البذيء. شتمٌ وقذفٌ وتبوّل وإيحاءات جنسيّة بتوقيعٍ ساديّ. الكثير من الشرّ لكنّه شرٌّ لذيذ. عالم من السّاديّة المرعبة تعرّينا وتعرّي العالم من حولنا لتعيد طرح الأسئلة الأولى ” هل الانسان شرير بطبعه؟ هل نستحقّ الحريّة؟ هل الحياة فعلا وعد بالسعادة؟ أليست السّعادة هنا مجرّد وهم ومجرّد حلم هارب؟
يقدّم كمال الرّياحي لنا شخصيّة مركّبة. ويحفر الرّوائيّ في خباياها وما بين ثناياها ليحيلنا إلى حقيقة مفادها أن هذا الكائن، هذا الانسان، متعدّد وفكّ شيفرة حقيقة كينونته ليس بالأمر الهيّن أو السّهل.علي كلابْ هذا الرّجل موغل في الشرّ هو نفسه يُقفل على نفسه الباب في مكتبه ليجهش بالبكاء وليستسلم لحظة صدقٍ لإنسانيّته المعطوبة. هذه الشّخصية التي أرعبت الجميع هي أيضا هشّة منكسرة في أعماقها، مسكونة بالهلوسة، بكوابيس اليقظة، بمنطق المؤامرة، بالأفكار السوداء التي تطارده وتطاردنا جميعا لتتلاشى الحدود بين الواقع والكابوس، بين الخير والشرّ، بين الوعي واللاوعي…فمن نحن في النّهاية؟ أليس علي كلابْ يرقد في كلّ واحد فينا، يتوارى وراء الأقنعة وما يسمّى بالأخلاق؟؟ في لحظة رائعة من الرّواية وبعد أن نغرق في مستنقع الكائنات النّابحة في رأس علي كلابْ نسمعه يقول متعبا ” كنتُ أشعر بحاجة إلى صدر أدفن فيه رأسي ” لتبقى المرأة مصدر الحنان والملجأ الوحيد والرغبة المشتهاة حتى لأكثر الرّجال قساوةً.
يتلذّذ علي كْلابْ بالقتل بتعذيب جسده ولو رمزيّا من خلال آلة قيس مستوى السكّري لديه، فيسيل الدّم ويشتدّ الألم مع هذا الجسد الذي بدأ يتلاشى. وهو يعاني من خصيتيه المعضوضتين من كلب. وهنا ليس لنا أن نتوقّف مع كلّ ما تحتويه اللّحظة من رمزيّة قويّة وما تحيل إليه من معاني وتأويلات نفسيّة وجسديّة وجنسيّة واجتماعيّة ولكنّ أهمّها هو التـأويل السياسي. علي كلابْ يعضّه كلب والسيستام لا يعضّه إلا سيستام آخر. رمزيّة بأجنحة الواقع المرير الذي يحيلنا إلى كامل تاريخ الانسانيّة بحروبها وخياناتها. مشهد يتأرجح بين الواقع والتخييل. يرسّخ كمال الرّياحي الواقع العربي والعالميّ بقلم المبدع ونبض الأدب وهنا يكمن عنده دور الفن وهو القبض على اللحظة الراهنة الهاربة لتأبيدها جماليا وحتى يكون العمل الابداعيّ صوت من لا صوت له في عالم الاضطهاد والتهميش لكن بعيدا عن الطرح الأخلاقي أوالقيمي وإنّما بالإصغاء إلى البعد الانساني للشخصيات وللأثر الفني فقط.
البيريتا يكسب دائما، رواية جعلت من شخصيّاتها أشباحا تلاحق متاهة المعنى والحقيقة وحلم الحريّة والسّعادة. فهل تحققت الثورة؟ هل حقّقنا مجد الشّهداء؟ هل ندرك حقيقة ما حصل يوم 14 جانفي؟ هل حصلت ثورة فعلا ؟ أم هو الخيال والتخييل والسّراب؟ أليس البيريتا هو المسدّس الذي قتل شكري بلعيد ويصوّب لكلّ عاشق للانتعاق في مجتمع الردّة والمافيا واللّصوص والايديولوجيا المقيتة؟ أسئلة من لهيب وكمال الرياحي لا يجيب عنها ولو همسًا فهو يزجّ بالقارئ داخل قارورة الحيرة ويُغلق خلفه عُنق الزّجاجة. يدفع بالقارئ دفعا للتساؤل دون أن يشعر ولو للحظة واحدة أنّ كمال الرّياحي يستدرجهُ إلى دائرة الحيرة.
الانتحار: بوابة عبور أم ميلاد جديد؟
تحيلنا الرّواية ومنذ صفحاتها الأولى إلى موضوع الانتحار ” لم ينتحر أحد هذا العام. هل هذه الحياة الرثّة مازالت جديرة بأن تعاش؟ لماذا تُصرّ كل هذه الحشود على البقاء ومحاولة العيش مثل أبطال بائسين في رواية مخفقة ؟” والانتحار هنا موقف شجاع من الحياة، من الوجود الهشّ. ادانة للفوضى والرّتابة و القوالب الجاهزة. وكأنّ الانتحار ردّ فعل إزاء هذا القبح المعمّم. وهنا نلاحظ انزلاقا خطيرا في المعنى ليصبح الموت حريّة وإرادة وتحرّر، والحياة هي الموت بل هي موت متجدّد في كلّ لحظة. فالبيريتا يكسب دائما هو قتل للموت لتنعتق الحياة ونعيشها من جديد. و كلمة “الحشود ” هنا بمعنى القطيع حيث لا إرادة ولا وعي باللّحظة الراهنة ولا بغواية الحياة والممات.
البيريتا، علي كلاب، بيّة، يوسف، مريم، ملاك، ستيلا، الحشّاش، عائدة، جبّار، ولاس، الأسترالي…..شخصيّات لا تنتهي وحكايات متشابكة في مغامرة سرديّة بين الحوار والسّرد وصخب الأصوات والمونولوج والكلام المسجّل على الهاتف الجوّال..واليوميّات المكتوبة والصحف المتناثرة…كلّ هذا يجعل من الكتابة حالة من الجنون الابداعي بعيدا عن الكليشيهات والنّمطيّة . تمرّد حقيقيّ ونقد لاذع للبنية الرّوائية المألوفة وخاصة لمفهوم البطل ودور النّاقد.
رواية تعلن العصيان والتمرّد بقلم كاتب يؤمن بضرورة الاختلاف وتجديد المفاهيم وإعادة التفكيك المعنى القديم لبنائه من جديد. تختصر رواية “البيريتا يكسب دائما ” الانسان في جميع تناقضاته العميقة وتعرّي هشاشة الواقع من حولنا كما تجعل القارئ يدرك أنّ العالم عوالم والحقيقة سراب وأنّ الفنّ وحده القادر على تجديد المعنى ليكون القاسم المشترك الإنسانيّة جمعاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى