شاعر عتيق حرّك كرسي اعترافه أسئلةَ الغريب، فغصنا مع الأستاذ مردوك الشامي في فضاءات حرفه الأنيق الذي نسج أورنينا وأدون، صيدون وأوزيس في المسرح، ومن ثمّ حلّقنا مع شاعرنا إلى فضاء الإعلام حيث كان له باعٌ طويلٌ فيه، لنعود إلى النقد وقراءاته الموضوعية فيه ..
وكي لا نطيل عليكم إليكم الحوار
إعداد: مشلين بطرس
*ما الذي يستطيع الإنسان الحقيقي فعله قدام الفجيعة، وقد قلتَ في قصيدتك “كرسي اعترافي” و أصغر طفلة تقضي أمام القصف أبلغ من قصائدنا، وأقوى من رجال غادروا المعنى إلى ترف المنافي؟
– تتنوع الفجائع يا صديقتي ، وتختلف بين الشخصي والعام ، أمام الفجيعة الشخصية بإمكان الفرد الصمت أو الصراخ أو حتى الاستسلام ، لكن أمام فجيعة وطن وشعب يصير لزامًا علينا ألا نصمت، وألا نشيح بوجوهنا عن الظلم والموت المجاني .. أنا في “كرسي اعترافي” أدين نفسي قبل الآخرين، حين أهرب إلى القصيدة فقط كموقف مواجهة، في حين أمام الموت والخراب يقف شعب أعزل وأطفال.
كل الصامتين أمام الفاجعة شهود زور وأنا أولهم.
*ما مدى تقاطع قولك: لتنال حظك في النعيم تصير شاة في قطيع الجهل .. شاةً مدهشة، مع قول المتنبي ذو العقل في النعيم يشقى وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم، وفي قولك في نص “ملاك” بأنك سوف تكسر جناحيك .. أحمقٌ من يمتلي حبًا … إلخ، أيضًا مع قول المتنبي: والظلم من شيم النفوس/ فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم؟
– التقاطع الوحيد أن الناس هي ذاتها في كل الأزمنة ، بل تزداد كلما تقدم الزمن قطعنةً واستسلاماً وبعدًا عن الموقف.
ولعلني صادفت الذين صادفهم المتنبي في زمانه، فوصّفت حالهم على طريقتي.
*ما الشعر بالنسبة لمردوك الشامي، هل هو الموزون أم النثر، أم الإثنان معًا؟
– الشعر ليس في الموزون ولا في المنثور، هو في مكان ثالث، هو في الجمر والرعشة والاستيقاظ فجأة على غيمة تمطر عطراً أو حجرًا أو أسراب حساسين.
أنا أتعامل مع منطق الشعرية في النص بعيدًا عن قماشته، فهناك أكوام من الموزون لا شعرية فيها، وتلال من المنثور تخلو من الابداع والنبض ..
الضوء حالة شعرية ، لكن ليس من لغة قادرة على كتابة الضوء، والعطر حالة شعرية، والولادة والموت، رفرفة العصفور، ولحظة انهمار الغيمة على خد مراهقة سمراء، في الحياة شعر كثير، كم تفتقد إليه قصائد الشعراء.
*نجد في معظم قصائدك تكثيفًا للسؤال في ثنايا القصيدة، وهو ما يُقصد به بشعرنة السؤال، فلماذا برأيك يراكم الشاعر أسئلته المدببة بين طيات قصيدته؟
– السؤال معادل للوجود، ولا يمكن لنا فهم الوجود دون أن نطرح الأسئلة دون توقف .. مجموعتي الأولى كانت بعنوان أسئلة ساذجة ، جربتُ من خلالها تدوين أسئلة بلا عدد ، كانت أسئلة عن التراب والرحم الأول، عن الفقير والغني، عن الضحية والجلاد، وأشياء ومفارقات أخر ، وبعد أكثر من ثلاثين سنة على صدورها عدت بمجموعتي الأخيرة أسئلة الغريب ..
لم يختلف شيء، صرتُ أكثر إلحاحًا بأسئلتي ، لأن كل ما التقيته وعاينته من أجوبة كان خُلّبيًا، مجرد فقاعة براقة المظهر، لا تحتوي على قطرة ماء تروي غليلي، أو قبس نور يدلني على الطريق إلى ذاتي في أقل تقدير.
*قيل أن إدراك حتمية الموت لدى الشاعر أو الفنان تجعله أكثر وعيًا بالزمن، فليخبرنا مردوك الشامي كيف يعيش هذه اللحظة المزدوجة بين الزوال والبقاء على قيد الحياة، وخصوصًا أننا نعيش في زمن الأوبئة والأمراض؟
– أقصى درجات الحياة حين نكون في الرحم، حين نسقط بعيًدا عنه، نبدأ موتنا.
ولطالما قلتُ ومنذ سنوات، نحن مجرد جثث تنتظر الدفن
جثثٌ ترتدي الثياب، وتعتقد أنها تعيش فعلاً، تتنقل، وتتكاثر، وترسم وتكتب، وتعمل، وتسرق وتزني، وتعشق، وتصلي ، وتمارس كل شيء كل شيء، لكنها تتحرك وعلى رؤوسها مظلات الآخرين ، وسقوفهم المستعارة ..
لي رؤية مختلفة عن الزمان ، هو الثابت ونحن المتحركون فيه، نحن لحظة الولادة نكون في كمال العمر، وكل يوم يمرّ تنقص أعمارنا، لنصل إلى الصفر.. إلى القبر لتبدأ ولادات مختلفة.
*برأيك لماذا نلمس عند الشاعر الحقيقي نزوعًا نحو التركيب الشعري الفانتازي الذي يقوم على ديالكتيك التنافر والصراع بين الثنائيات، وما هو الهدف من تفعيل المشهد الشعري، ومغنطة التجربة الشعرية برؤى جزئية متضافرة في ظل واقع موبوء بكافة أنواع الجهل والسخف والترهات والرداءة على كافة الأصعدة؟
– لا أسميه نزوعًا، لأنه في هذه الحالة يلامس التكلف، القصيدة هي صاحبها، أسلوبه وبصمته ونبضه الخاص، وأنا أحبذ في القصيدة ألا تكون ثرثرةً عاديةً، أو سرديةً نجدها في كل الأنماط الأدبية الأخرى.
لغتنا ثريةٌ بالإبهار، بالتضاد والبلاغة، والصورة الشعرية التي تكون في مرايا واقع الحال، لا تصنع قصيدة مختلفة ومؤثرة.
والشاعر الحق حين يكتب قصيدته، لا يضعها على موائد قراء محتملين، هناك إسفاف في القراءة، لكن في المقابل هناك قراء يتقنون الكشف ويمتلكون الرؤية والرؤيا.
*في السابق عندما كان الكاتب يصدر كتابا، كان يخلق ضجّة ويثير العديد من الأسئلة، واليوم نرى أن بعض الكتّاب يصدرون عشرات الكتب ولا أحد يسمع بهم أو بكتبهم. ما السبب من وجهة نظرك؟
– لنعترف أن الصورة انتصرت على الحبر في عصرنا، وإن استسهال الكتابة في غياب النقد، ووسائل النشر الورقي من صحف ومجلات، أثّر كثيرًا على وصول الكتاب الورقي للناس
وسائل التواصل الاجتماعي هي اليوم بمثابة دور النشر الأكثر وصولاً وتأثيرًا، ولا يصادف أبدًا أنها تؤثر سلبيًا في غياب التعامل العقلي والوجداني معها ، لهذا تكون النتائج مخيبةً فعلاً ، أقرُّ وبكل أسف أن الثقة باتت شبه مقطوعة بين الشاعر وجمهور الشع ، خاصة أن شهرة الإنترنت تقدم صبيحة كل يوم ألف شاعرةٍ وشاعر، ولو بنتاج هزيل ولا يقارب الشعر بشيء ..
ومع ذلك أقول ثمة من يقرأ ، لغاية اليوم كتب محمود درويش ونزار قباني، وكثير من الروائيين تباع وتقتنى بشكل مرضٍ
وأي شاعر حقيقي، ستصل كتبه للناس ، بعيدًا عن تهريج حفلات التوقيع التي صارت موضة فاقعة وجعلت القراء يهربون إلى الهوامش.
*ما هي المعايير التي تعتمدها في كتابة النقد الأدبي؟ حدثنا عن استراتيجيتك في هذا المضمار؟
– المعيار الأول والأخير أنني لا أدعي النقد ، ولم أطرح قلمي ناقدًا في أي يوم، أنا قارئ جريء ، وربما أكون وقحًا جدًا أحيانًا، ما اعتدتُ السكوت على الغلط، ولا المحاباة، مع أنني أقع فيها أحيانًا حين ألتمس في النص الذي أكتب عنه بوادر موهبة تعد بالضوء.
نحن نشكو في معظم عالمنا العربي من غياب النقد ، ثمة من يكتبون نقدًا أكاديميا ويستندون إلى مدارس غربية في قراءة النص المنقود، غالبيتهم أكاديميون، وهم أيضا قلة ، وشبه غائبين عن الحراك الفعلي لما ينشر من كتب أو ينشر من نصوص على المواقع والصفحات..
في الذي أكتبه أهتم أولاً بكم وصلني من النص لغة وفكرة وجماليات، وأهتم أكثر بكم أضاف النص من جديد للمقروء الإبداعي
لا يهمني الشكل، ولا أنحاز لموزون أو منثور ، أُنقّب عن الابداع في ما وراء الشكل، وأحيانًا فيما وراء السطور، وأعترف أنني حتى فيما أكتبه من انطباعات استطعت أن أخمش الجدار، وأحّرض الآخرين على القراءة غير الممسحة للجوخ، وأن كثيرين انتبهوا، والأخطاء صارت أقل، والصواب يرتفع منسوبه أكثر.
*في المسرح، برأيك ما تأثير السينوغرافيا على النص المكتوب؟ حبذا لو تحدثنا بشكل مختصر عن مسرحيتك أورنينا.
– المشهدية الفنية في ديكور العمل المسرحي وتأثيث المكان بدلالات الفكرة عامل مهم في المسرح، فلا يمكن للفكرة والكلمة والصوت، الوصول في الفراغ، أو في المكان المحايد، ثمّة حاجة لاكتمال كل عناصر العمل المسرحي من نص وممثل وإخراج وسينوغرافيا وحتى جمهور لكي نقول أننا نشاهد عملاً مسرحيًا يبني ويرفع عاليًا عمارة النص.
بالنسبة لمسرحيتي أورنينا ، هي الثانية بعد مسرحية أدون ، ولحق بها أعمال أخرى مثل أيزيس التي قدمت في مسرح الهناجر بدار الأوبرا في القاهرة ، وصيدون الملك العمل الذي كان في بطولته الكبير وديع الصافي وقبل بدء العروض وقعت حرب تموز، وتأجّل العرض، ثم اعتكف وديع صحيا.
الأعمال المسرحية التي كتبتها كلها أعمال شعرية، لا تحتوي كلمةً نثرية واحدة … لهذا يمكن تصنيفها في المسرح الغنائي، وهي توزّعت بين الفصيح والمحكية.
وأنا تقصدت الهروب للأسطورة في كل أعمالي وإسقاطها على الواقع
بالنسبة لأورنينا، أدتها مغنية الأوبرا غادة غانم ولحنها المرحوم وجدي شيا، وقُدمت في بيروت لأكثر من شهرين، وفي دمشق وعمان، ونالت الجائزة الأولى في مهرجان بابل المسرحي.
*ما هو دور المسرح في ظل الظروف الراهنة التي يعيشها العالم العربي؟ “بغض النظر عن الحجر الصحي الذي نعيشه في زمن الكورونا”
– هناك حركة مسرحية ناشطة في العالم العربي، في لبنان، في مصر وسورية وغيرها من دول عربية، لكنها أقل مما نطمح إليه
اليوم ينتصر التلفزيون على المسرح ويسرق أبطاله تحت وطأة الحاجة لعالم الدراما البراق والمربح في آن.
*كإعلامي تبوأ العديد من المراكز الإعلامية وكان له باع طويل في مجال الصحافة المكتوبة رئاسةً وإدارةً في تحرير العديد من المجلات اللبنانية والعربية، برأيك ما هو الدور الذي يلعبه إعلامنا العربي في التأثير على حياة إنساننا من الناحيتين الثقافية والسكيولوجية؟
– لعب الإعلام العربي دورًا مميزًا قبل سنوات، خاصةً الإعلام المكتوب، ثمّ ومع الاستهلاك الذي نعيشه في كل تفاصيل حياتنا، وطغيان عالم الأنترنت، تراجعت الصحافة الورقية بشكل عام.
كان الإعلان يرفد الإعلام المكتوب ، يرفده ماديًا لكي يستمر ، شركات الإعلان هربت للمرئي ، لأنه أكثر غواية وجماليات، فوجدتْ كبريات الصحف العربية نفسها على شفير الإفلا ، وهذا ما حدث، أُغلقت الكثير من الصحف والمجلات، وبقي لنا الإعلام المرئي ، وهو للأسف إعلام هش في معظمه ومرهون للمعلن، أو لاستراتيجات الدول المانحة للميزانيات
في الفضاء العربي آلاف المحطات الفضائية التي لا تقدم سوى الاسفاف والضياع والانغلاق ..
ثمّة محطات لا تزال على قيد الحياة ، تحمل رسائل للناس ثقافية واجتماعية وسياسية، لكنها قليلة ، وأهمس بصدق ومأجورة أيضًا لكي تقي نفسها من السقوط في الإلغاء.
غالبية إعلامنا يقود إلى التفسخ الأسري، إلى الابتعاد عن القيم، إلى السباحة في الوهم، والاتكال على البريق، خاصة في البرامج التي تستهدف الشباب العربي، فغدا أهم حلم في حياة شبابنا الشهرة ونجومية الفقاعات.
*في نهاية حوارنا لك أن تسجل كلمة أو قصيدة تبقى عنوانًا لكل قارئ قيد التحرر من القطيع ليحقق ذاته.