“إسمه الغرام” رواية العلاقات الشائكة للروائية علوية صبح
د.دريّة فرحات
دخلت المرأة عالم الكتابة والأدب معبّرة عن نفسها وذاتها كامرأة تبحث عن حقّها في الحياة، وحقّها في التّعبير عمّا تريد، وقد تختلف التّوجهات التي تنطلق منها المرأة في ولوجها عالم الأدب، وتختلف المعطيات التي تؤثّر في كتابتها، لكنّ يبقى أنّ هناك موضوعات معيّنة ركّزت عليها المرأة في كتابتها، فكانت قضايا الحبّ والغرام وعلاقتها بالرّجل، فكان الجنس عاملًا أساسيًّا في بعض هذه الكتابات. ولأنّ المرأة ترى في الحكاية خلاصًا لها من وواقعها، لهذا كان دخولها عالم السّرد، وقد أثار مصطلح الكتابة النّسويّة إشكالية على مستويي النّقد والإبداع، وأخذ يطرح أسئلة في حضورها وكينونتها على واقع المشهد الأدبيّ، وعلى ظهور المرأة كساردة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين.
وعلوية صبح كاتبة برزت على السّاحة الأدبيّة، وخطّت لنفسها طريقًا سارت وفقه، قد يختلف معها الكثير في هذا النّهج، ويرى أنّها تبالغ في ما تريد التّعبير عنه. وروايتها :اسمه الغرام هي روايتها الثالثة بعد مريم الحكايا ودنيا. ولعلّها في هذه الرّواية لم تكن بعيدة عن موضوعات آثرت المراة الكتابة فيها وهي الحبّ والجنس إضافة إلى موضوع الحرب.
تنطلق الرّواية لتذكر تاريخ تموز 2006، وفي ذلك إشارة إلى حرب تموز، لكنّ القارئ للرّواية يرى أنّ هذه الحرب ظلّت في الخفاء، فلم يكن ورود التّاريخ إلّا ليكون تحديدًا زمنيًّا لاختفاء البطلة نهلا، فكانت حرب تموز خلفية لهذا الواقع من دون ذكر ما يتعلّق بهذه الحرب، أو ذكر الفاعلين فيها.
وقد حفلت الرواية ببعض الإشارات السّياسيّة، والأحداث التّاريخيّة المهمة التي وقعت في لبنان، أي مسرح الأحداث الذي دارت فيه الرّواية، فكانت إشارة إلى تواريخ 1973، 1947، 1975، ومن الواضح أنّها تواريخ تشير إلى مراحل فاصلة ومهمة في تاريخ لبنان والوطن العربيّ، ومع ذلك فإنّ ذكرها في الرّواية كان عابرًا من ناحية تأثيرها السّياسيّ أو نتائجها على واقع المجتمع، إلّا إذا قلنا إنّها كانت مفصليّة في تغير وجه الحياة على هذه البقعة، فإنّ هذه التّواريخ كانت أيضًا مفصليّة في تأريخ علاقة البطلة بمن حولها، أي أنّها أرّخت لمراحل حياتها. كما أشارت الرّواية إلى انتماء نادين -صديقة البطلة الرئيسة نهلا- إلى الحزب الشّيوعي، وما تركه من تأثير في تغيير شخصية نادين، لكن من دون الدّخول في تفاصيل هذا الأمر، وتبيان تأثيره على حياة أبطال الرّواية، أو أن يكون لهذه حقائق التّاريخيّة دورًا في تنامي الحدث في الرّواية. ولا ننسى أيضًا الإشارة العابرة الى الوجود الفلسطينيّ في لبنان في هذه المرحلة من خلال ما حدث مع نهلا وهاني عندما تعرّضا إلى بندقية أحد الفلسطينيين، وهروبهما خوفًا من انفضاح أمرهما، فالإشارة إلى أنّ المسلّح فلسطينيّ الهُوية لم يكن له ضرورة في مجريات الأحداث.
لكن ما اغتنت به الرّواية هو ما له علاقة بالمرأة انطلاقًا من البيئة الاجتماعيّة التي جعلت منها تابعًا لذكورية الرّجل أو السّلطة، فعانت من ذلك، ومن هذا القهر الاجتماعيّ، أو أنّها تحوّلت إلى نموذج المرأة المحرومة فتمارس سلطتها السّاديّة على الآخرين، فكانت شخصية والدة نهلا التي لم تحصل على من أحبّت، فتزوّجت والد نهلا، وقد حرصت على احترامه وتقديره، لكن لم تقدّم له حبّها أو أنوثتها، وتحوّلت إلى امرأة قوية متسلّطة احيانًا، تنفّذ تقاليد المجتمع الذّكوريّ، غافلة عن حقيقة كونها امرأة فتفهم تصرّفات ابنتها التي رأت في والدها صورة حنونة مساعدة لما تريد.
ومن خلال هذه العلاقات التي أشارت إليها الكاتبة كان الدّخول إلى بعض تقاليد المجتمع المرفوضة، ما حفّز نهلا على التّمرّد والتّغيير. أو قد تشير الأحداث إلى بعض الخرافات الشّعبيّة والأساطير التي يؤمن بها المجتمع. ومنها ما له علاقة بمسألة اثبات رجولة الرّجل في ليلة الزّفاف، وإن كنت أرى أن ما أشارت إليه الكاتبة ربما يعود إلى مرحلة زمنيّة أسبق، ففي مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي بدأت المرأة في لبنان وفي جنوبه أيضًا أن تثبت نفسها، حتى أنّها نالت في 1952 حقّ التّصويت، وقد يلفتنا أنّ ما ذكرته الكاتبة عن زواج عمّة البطلة نهلا، وكيف خرج زوجها ليلة الزّفاف حاملا بيده علامة الذّكورة، يذكّرنا بما حرصت على معالجته الدكتورة نوال السّعداوي، وخصوصًا في قصّتها “كانت هي الأضعف”.
ولم يقتصر الأمر على حكاية عمّة نهلا، فنتعرّف على ربيعة أخت نادين صديقة نهلا، هذه الفتاة التي ثارت وغضبت على المجتمع وتقاليده الذي يفرض إخضاع المرأة ليلة زفافها وجعلها منكسرة الجانح، فكان انتحارها مواجهة لهذا الأمر. وإن كنت أرى أن الكاتبة قد بالغت في مسألة قبول الابن أن يحاول الأب فض بكارة عروس ابنه قبل أيام من الزّفاف، رغبة منه في كسر عنفوانها لتكون خاضعة لابنه الذي لم يستطع القيام بذلك، وإذا استطاعت ربيعة أن تقاوم خطيبها ووالده، فتنجو منهما، لتواجه خوف الأم من الإشاعات التي ستلاحق ابنتها إذا طلبت الطّلاق، فلم يكن أمام ربيعة إلّا الانتحار، لتتخلّص من هذا الزّواج ولتتخلّص من أمّها الضّعيفة أمام المجتمع وأمام زوجها الذي يخونها وهي لا تستطيع الخلاص منه ومن حبّه.
كما أنّ أحداث الرّواية تجعلنا نقف أمام بعض القضايا التي أثارتها الرّواية، وهي قضايا جوهرية تؤدّي دورًا في المجتمع، فعلاقة نهلا المسلمة من الجنوب بهاني المسيحي تثير ما له علاقة بقضية الطائفيّة والزّواج المدني، واللافت أنّها تذكّرنا برواية طواحين بيروت لتوفيق يوسف عواد، ومع بطلي قصّته تميمة نصّور المسلمة الفتاة الجنوبيّة، وهاني الرّاعي ابن الجبل المسيحي، وهل هي مصادفة أن يحمل البطلين اسم “هاني”.
لكن هذه الرّؤية التي انطلقت منها الرّواية لم تستمرّ فاعليتها في أحداث الرّواية، أي أنّ تطوّر الأحداث بعد انتقال نهلا إلى بيروت وإقامتها هناك، وأيضًا انتقال من معها من صديقاتها، يجعل القارئ ينتقل إلى عالم آخر تسوده علاقات غريبة، وحكايات عديدة تتشابه مع بعضها البعض وتدور في فلك متقارب، يرتبط بالجسد والجنس والخيانه، أو له علاقة بما أسمته الكاتبة في روايتها”اسمه الغرام”، وهنا يتبادر السّؤال هل ما عرضته الكاتبة من حكاية نهلا وحكايات صديقاتها له علاقة بالغرام، أم أنّ له علاقة بالشّهوة والغرائز؟!
سؤال يقودنا إلى حكاية نهلا المتمردة التي استطاعت أن تحقّق ذاتها بمساعدة أبيها، وأن تكمل تعليمها الجامعيّ على الرّغم من معارضة أمّها وأخيها جواد، بل ربما كانت استطاعت أن تتزوج من حبيبها المسيحي هاني، لكنّ مجريات المصير هنا جعل من هاني يهرب من لبنان في أثناء الحرب الأهلية إلى فرنسا طالبًا من نهلا أن تنتظره ليعود وقد استطاع تأمين نفسه ليتزوّجها، ولم تستطع نهلا المتمرّدة الثائرة أن تواجه أهلها وأن تصمد فتخضع لتتزوّج من العريس الذي اختارته لها أمّها. ومن هنا تبدأ حكاية نهلا الزّوجة التي تظلّ على حبّ هاني، ولا يقتصر الأمر على التّفكير العقليّ، بل إنّنا نرى نهلا تعود وتقع فريسة الخيانة الزّوجية عندما تلتقي من جديد مع هاني. ولا تقتصر خيانتها مع هاني إنّما تتعدّد العلاقات مع الكثير وتعترف هي بذلك لصديقتها سعاد التي لم تكن أحسن حالًا منها.
واللافت أنّ فعل الخيانة أو تعدّد العلاقات كان سمة غالبة في شخصيات الرّواية، فكلّ صديقات نهلا من سعاد إلى عزيزة ونادين وميرنا وغيرهن وقعن في العلاقات الجسديّة مع الرجل، بل إنّ صديقتها عزيزة وبعد وفاة زوجها لم تجد حرجًا في أن تجعل من جسدها سلعة تتعرّف به على الآخرين لتؤمّن مدخولًا لها ولأبنائها. وفي سياق هذه الحكايات نتعرّف إلى الكثير من النساء اللواتي عشن العلاقات الجنسيّة وفق أهوائهن وميولهن. ومن الحكايات حكاية نادين التي انقلبت حياتها بعد انتقالها إلى بيروت، وفي بيت السياسيّ الكبير عرفت حقيقة ميولها الجنسيّة، فساعدتها ثريا زوجة السياسيّ الشّهير على التّعبير عن ميولها السحاقيّة.
وتكثر الحكايات في هذه الرّواية التي تجعلنا نعيش في مجتمع غالبية أفراده لا يكتفون بعلاقة واحدة، ولا يأبهون إن كانت الخيانة الزّوجيّة هي السبيل للخضوع إلى أهوائهن، ولم يقتصر الأمر على المرأة، فالرّجل أيضًا قد لجأ إلى تعدّد العلاقات، والى خيانة الشّريك، فهذا هاني الذي أحبّ نهلا وقادته الظّروف إلى أن يتزوّج من سميحة التي رأى فيها زوجة جيدة، يعدّد علاقاته النسائيّة مع استمرار علاقته أيضًا مع نهلا. وهكذا نرى مع زوج سعاد وزوج عزيزة ومع جواد أخو نهلا.
إنّها رواية غنيّة بالقصص وبشخصيات نسائيّة مركبة، وبشخصيات ذكوريّة مختلفة الطّباع، تدفعنا إلى العديد من التّساؤلات:
هل من الطّبيعيّ أن نرى في مجتمع مصغّر هذه النّماذج مجتمعة معًا؟
هل يسهل على المرأة أن تتحدّث مع صديقاتهاعن خيانتها وتعدد علاقتها الجنسيّة؟
هل كلّ رجل هو خائن بطبعه، يسير وفق أهوائه ورغباته الجنسيّة؟
هل المصالحة مع الجسد والتّعامل معه بمحبة تعني الحديث عن أعضائه ووصفها وصقا تفصيليًا؟