“كيف ينهض العرب” عمر فاخوري (الحلقة الثانية)
الدكتور وجيه فانوس
كان «محمد الفاخوري»، ابن عمَّة «عبد الرَّحمن بن عبد الباسط الفاخوري»، والد «عمر الفاخوري»، عضواً في مجلس إدارة ولاية بيروت، زمان واليها العثماني «أبو بكر حازم بك»؛ كما كان، في الوقت عينه، عضواَ مؤسساً وفاعلاً في «جمعيَّة بيروت الإصلاحيَّة»، التي كان «عمر فاخوري»، ورهط من زملائه ومعارفه في «الكلية العثمانية»، ينادون معها بمبادئ «اللامركزيَّة»، ويسعون إلى نشر دعوتها هذه بخطبهم ومقالاتهم واحتفالاتهم. وما أن بلغ مسامع «محمد الفاخوري» قرار الوالي ملاحقة «عمر فاخوري» ومصادرة نسخ كتابه «كيف ينهض العرب»، حتَّى جيَّش أقصى ما أمكنه من نفوذ وما استطاع إليه من علاقات، لإنقاذ «عمر فاخوري»، مناصر مبادئ «جمعيَة بيروت الإصلاحيّة»، وهو من مؤسسيها، وابن ابن خاله في الوقت عينه. استخدم «محمد الفاخوري» علاقاته في مركز الولاية وصداقاته مع ذوي الشَّان فيها، ومنهم «حازم بك» شخصياً؛ فتمكَّن من تهدئة غضب الوالي، بل أقنعه بأنَّ الموضوع برمَّتهِ لا يعدو أن يكون تصرفاً من قبل فتىً غُرُّ، لم يبلغ شيئاً من العزم بعد، كما أنه فتىً من عائلة لها شأنها وكرامتها في الولاية؛ ولذا، فلا بأسَ من العفو عنه. وتعهد «محمَّد الفاخوري»، للوالي «حازم بك»، بأنه سيتولَّى بشخصه إتلاف نسخ الكتاب، كما سيحضر هذا الفتى الغرّ، معه إلى مكتب الولاية، في صباح اليوم التالي، ليراه الوالي بنفسه ويتأكّد من صغر سنه، بل وليحكم بأنَّ كل ما حصل لن يعدو كونه حماس ولد غرّ. وكيفما دار الأمر، فيبدو أن من في مركز الولاية، وعلى رأسهم الوالي، أرادوا مراعاة موقع «محمد فاخوري»، في هذا المجال، خاصة وأنه أحد أعيان البلد ووجهائها؛ فأوقفت الملاحقة بحق «عمر».
أسرع «محمد فاخوري» إلى منزل ابن عمه «عبد الرحمن»، والد «عمر فاخوري»، في «محلَّة بني يموت»، الواقعة شرقيِّ مدافن «الباشورة»، بين محلتي «البسطة التَّحتا» و«الخندق الغميق»؛ والتقى هناك بالأب والإبن معاً. كان جمع من الأهل المقرّبين ينتظرون في المنزل، وقد سكنهم صمت قَلِقٌ، وعلت وجوههم علامات رعبٍ مما يمكن أن يحلَّ بـ «عمر»، جرَّاء غضب الوالي، وما قد يلحق بهذا الغضب من معاملة عسكر الولاية لـهذا الفتى، الذي لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة من عمره. ويبدو أن «محمد الفاخوري» تمكّن من تهدئة روع كل من كان في البيت، بما فيهم والدة عمر وسائر الأقرباء؛ وطلب منهم العمل بسرعة على إتلاف نسخ الكتاب فوراً؛ فاقترح، والد «عمر»، أن ترمى النسخ في بئر الماء الموجود ضمن دكَانه في «محلَّة الشيخ رسلان». انطلق، كلٌّ من ابن خالة «عمر»، «خضر تعباني»، وشقيق «عمر»، «وجيه فاخوري»، في عتمة الليل وستره، فأحضرا «طنبر»، بمحكيَّة أهل بيروت، وهو عربة نقل تجرّها الدَّواب، وبدأ الأهل يتعاونون، فيما بينهم، على نقل نسخ الكتاب من المنزل إلى العربة، تمهيداً لرمي النسخ في البئر. حاول «عمر» ما أمكنه إنقاذ «بكر مؤلفاته»؛ فالتقط، نسخاً قليلة العدد من الكتاب، وأخفاها بحيث لا يمكن لأي تفتيش، من قبل جند الولاية، أن يعثر عليها. وكان هذا، في الواقع، آخر العهد بين «عمر فاخوري» وكتابه؛ إذ بعد أشهر قليلة، ومع دخول «جمال باشا» إلى بيروت، وخوفاً من أن يعثر جند «جمال باشا»، إذا ما داهموا منزل أهل «عمر»، وكانت موجة مداهمات العسكر التركي قد انتشرت في بيروت، فإنَّ هذه النسخ القليلة باتت، وسط صمتٍ مكروب وأليم، وبقرار من أهل عمر، طعاماً لنيران موقد الحمَّام.
يذكر «عمر فاخوري» في المقدِّمة، التي وضعها سنة 1913، لكتابه «كيف ينهض العرب»، أنَّ هذا العمل ليس سوى «رسالة»، وقوام هذه الرسالة «آراءٌ اقتبستها من كُتُب غربيّة، لا أَدّعي عِصْمتها؛ وأَفكارٌ خاصّة جرّتني إليها المقارنةُ والمقابلة بين تلك وما شاهدتُه». ويرى «أحمد علبي»، في مقال له بعنوان «عـمـر فاخوري بين القوميّة واليساريّة»، المنشور في مجلة «بدايات لكل فصول التغيير»، «العددان ١٨-١٩»، إن ما وضعه «عمر فاخوري» في «كيف ينهض العرب» هو «مقتَبَساتٌ وترجمات خصوصاً من كُتُب الباحث الفرنسيّ «غوستاف لوبون» (1841-1931)، Gustave Le Bon، أَمثال: «بسيكولوجيا الثورات» و«الثورة الفرنسيّة وبسيكولوجيا الثورات» و«حضارة العرب» و«آراء ومعتقدات».
يُشَكِّلُ هذا الحدثُ، بحدِّ ذاته، مفتاحاً شديد الأهميَّة، للدُّخول إلى عالم عمر فاخوري الفكري والأدبي. الظاهرة الأولى في الحدث، أن شاباً لم يتجاوز الثَّامنة عشرة من سني عمره، لم يهتم بنشر ديوان شعرٍ، فيه عواطف وأحاسيس وخيالات عن الهوى والحب والألم وحتى العروبة، كما فعل صديقه وزميله عمر حمد مثلاً، بل عمد إلى أن تكون بواكير ما نشره، كتابة أبحاث حضاريَّة ملتزمة بالتَّوجه القوميِّ العربي! وهذا ما يشير، وبوضوح كليٍّ، إلى أنَّ هموم الصِّبا، عند عمر فاخوري، كانت حضاريَّة اجتماعيَّة ملتزمة بالتَّوجُّه القوميِّ العربيِّ، ولم تكن هموماً شخصية فرديَّة طاغية أو مجرَّد مشاعر وطنيَّة جامحة. الظاهرة الثانية، أنَّ عمر فاخوري جمع ما نشره في كتاب ولم يبقه على حاله الأولى، مجرَّد مقالات موزَّعة بين أعداد صحيفة! فعمر فاخوري، كما يبدو، كان مُصرَّاَّ على توصيل آرائه والمبادئ التي آمن بها في صيغة مترابطة ومتكاملة أكثر قدرة على الظُّهور والتَّأثير والصُّمود في وجه عاديات الزَّمن ونسيان النَّاس. ومن هنا يمكن الاستخلاص بأنَّ عمر فاخوري، كان يسعى، منذ بداية كتاباته، في درب المفكِّرين المحلِّلين العمليين للواقع الوطنيِّ، معتمداً رؤية حضاريَّة ترتكز إلى رؤية قوميَّة عربيَّة؛ ولم يكن في سلك الرُّومانسيين الحالمين من الأدباء والشُّعراء الذين انغمسوا في صور بيانيَّة ومشاعر وخيالات جماليَّة أو انفعاليَّة. عمر فاخوري، إذن، ملتزم حضاريٌّ بنهضة المجموعة الوطنيَّة، على مستوى الجماعةِ والشَّعب والأمَّة. ولعل بإمكان من يبحث في الفكر الأدبي لعمر فاخوري، أن يتمكَّن فهم تجربة النَّقد الأدبيِّ، التي ذاع صيت الفاخوري بها في التاريخ الثقافي الوطني، من هذا المفتاح الأساس لشخصيَّته الفكريَّة.
رئيس المركز الثقافي الإسلامي
*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية