أدب وفن

أحداث من السِّيرة النَّبويَّة في مرايا معاصرة (الحلقة الأولى) اعتماد مبدأ التَّمثيل النِّيابي [مـُبـايَعَـةُ الأنْـصـارِ للـنَّـبـي(ص)]

أحداث من السِّيرة النَّبويَّة في مرايا معاصرة
(الحلقة الأولى)
اعتماد مبدأ التَّمثيل النِّيابي
[مـُبـايَعَـةُ الأنْـصـارِ للـنَّـبـي(ص)]

الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

يُمكن القول إنَّ دّعوة النَّبيِّ محمَّد(ص) إلى الإسلام، مرَّت بمرحلتين تنظيميتين. تتمثل الأولى منهما، في الزَّمن الذي كان “الرَّسول”(ص) لا يزال مقيما في “مكَّة”، وكان المؤمنون بدعوته جماعة من أهله وأصدقائه ومعارفه وجيرانه؛ ولمَّا كان النَّبيُّ(ص) يعرف معظم هؤلاء، إن لم يكن كلَّهم، معرفة شخصيَّة، فإنَّ علاقته التَّنظيميَّة بهم، كانت أقرب ما تكون إلى العلاقة المباشرة. كان “الرَّسول” (ص) يتَّصل بهؤلاء، بصورة شخصيَّة؛ ولم يكن يحتاج في تعامله معهم إلى وسيط ما. أمَّا المرحلة الثَّانية، من المراحل التَّنظيميَّة للدَّعوة الإسلاميَّة، فتتمثَّل في العلاقة التي أقامها النَّبي(ص) مع جماعات من خارج “مكة”؛ وتحديداً من بلدة “يثرب”، البعيدة في المسافة عن “مكَّة”، والمختلفة، في طبيعة مجتمعها الزِّراعي، عن طبيعة مجتمع “مكَّة” التِّجاري. فالنَّبيِّ(ص) كان يسعى إلى تواصل، في هذه الحال، مع جماعات لم تكن لتربطه بهم علاقات القربى، أو الجوار، أو المعرفة المسبقة؛ بقدر ما كان يربطه بهم موضوع الدَّعوة إلى الإسلام وحده من دونِ

الكعبة المشرَّفة في ” مكَّة” المكرَّمة

أيِّ أمرٍ آخر. ولذا، فإنَّ ثمَّة تغييرا، ههنا، في الرَّوابط التَّنظيميَّة، بين “القائد”، وهو النَّبيُّ(ص)، وبين “الجماعة”، وهم “الأنصار” في هذا المجال، قد حصل في هذه المرحلة.
حدث اللِّقاء الأوَّل بين “الرَّسول”(ص) وجماعات من أهل “يثرب”، يوم وفد هؤلاء إلى “مكَّة” في موسمٍ للحج. وصل إلى “مكَّة”، يومذاك، ستَّاً من رجال الخزرج؛ وكان لهم أن التقوا برسول الله (ص)، الذي عرض علهم الإسلام ودعاهم إليه.
ويبدو، وفاقاً لما تذكره مصنَّفات السِّيرة النَّبويَّة وما يوضخه محققوها وتشير إليه مصادر تاريخ تلك المرحلة، أنَّ هذه الحفنة القليلة من الرِّجال انشرحت عقولها وصدورها إلى دعوة محمَّد(ص)؛ وغادرت، بعد انقضاء موسم الحج، إلى “يثرب” لتبلِّغ بعض أهلها بما عرفت من دعوة محمَّد(ص). ثمَّ كان أن حضرت، في الموسم التَّالي للحجِّ، مجموعة من أهل “يثرب” كانت أكثر في عديدها من أفراد المجموعة الأولى؛ ويقال بأنَّ عدد هذه المجموعة الثَّانية، بلغ الإثني عشر رجلاً. التقى ناس هذه المجموعة “الرَّسول”(ص) في منطقة تدعى “العقبة”؛ وكان بينهم وبينه، ما يعرف بـ”بيعة العقبة الأولى”. لقد بايع

الحَرَمُ النَّبويُّ الشريفُ في “يثرب” (المدينةُ المنَّورة )

كلُّ واحد من أفراد هذا الرَّهط، من أهل “يثرب”، “الرَّسول”(ص)، مبايعة شخصيَّة فرديَّة، على أمور تُنَظِّمُ علاقته بربِّه وبمن معه من ناس.
رجع هؤلاء “اليثربيُّون” المؤمنون، الذين بايعوا “الرَّسول”(ص) في “العقبة”، إلى قومهم من “الأوس” و”الخزرج”؛ ويبدو أنَّ العائدين هؤلاء، نشطوا في دعوة من وثقوا بهم، من ناسهم، إلى الإسلام. ولمَّا كان الموسم التَّالي، من مواسم الحجِّ؛ خرجت، هذه المرَّة، جماعاتٌ كثيرة العددِ مِن أهل “يثرب” إلى “مكَّة”. لم يكن كلُّ هؤلاء من طالبي الحجَّ “القرشيِّ”؛ إذ كان من بينهم من اهتبل خروجَ القومِ مِن “يثرب” إلى “مكَّة”، مناسبةً يلاقون فيها، ولو سِرَّاُ، هذا “النَّبي”، الذي سمعوا برسالته وتلاقت قلوبهم على الإيمان بما يدعو النَّاس إليه. ثم كان أن انْسَلَّ المؤمنون من “اليثربيين”، في إحدى اللَّيالي، من بين قومهم مِمَن كانوا يؤدون شعائر “الحجِّ القرشيِّ”، إلى ملاقاة “النَّبيّ” (ص) عند “العقبة”؛ حيث ستكون “بيعة العقبة الثَّانية”.
لَمْ يكن اللِّقاء، هذه المرَّة، مع مجموعة صغيرة؛ بل كان مع جماعة تجاوز عديدها سبعين شخصاُ؛ بل ثمَّة، من المؤرِّخين، من يُحصي العدد ثلاثةً وسبعين رجلاً و امرأتين. ولم يكن الموضوع، هذه المرَّة، مجرَّد تبليغ للقوم عن أمور الدَّعوة، كما كان الحالُ مِن قَبْلُ؛ بل كان لقاءً مُوَسَّعاً للدَّعوة، تتناولَ، فيما تناوله، دراسة خطَّة انتقالِ “النَّبيِّ” الأكرم(ص)، من العيش في “مكَّة” ومتابعة الدَّعوة فيها، إلى العيش في “يثرب”، والانطلاق منها في نشر الإسلام بين النَّاس. كان، إذاُ، ثمَّة تحضير لخطوة جذريَّة في مسار النَّشاط الإسلاميِّ؛ لكنَّه كان مع أشخاصٍ لم يكن بينهم وبين “النَّبيِّ”(ص) معرفة شخصيَّة أو تاريخيَّة مباشرة، كما كانت الحال، من قبل، مع من اتَّبعه من أهل “مكَّة”.
كان على “الرَّسول”(ص) أن يختار بين أسلوبين في العمل:
1- الأسلوب التَّقليدي، الذي اعتاده مع الرَّهط الذي آمن برسالته من أهل “مكَّة”؛ وهو أسلوب العلاقة المباشرة والنَّدب الشَّخصي إلى أمور.
2- أسلوب جديد، ينظِّم العمل، ويرقى بالعلاقة الإيمانيَّة من المستوى التَّنظيميِّ الشَّخصيِّ، الذي يبقى محدودا وذاتيَّاُ، إلى المستوى التَّنظيمي العام، الذي يبقى قادرا على الانفتاح وقابلا للتَّطوُّرات الموضوعيَّة.
وكان أن اختار “الرَّسول”(ص)، بتوفيق مِن الله ورعايته، الأسلوب الثَّاني؛ فلم يتعامل مع القوم على أساس أشخاصهم وحسب، بل طلب منهم تحديد من يمثِّلهم، باعتبارهم جماعة مؤمنة، أمام شخصه، باعتباره القائد، والمرشد، والموجّه.
خلافا لما حصل في “بيعة العقبة الأولى”، فإنَّ “الرَّسول”(ص) طلب من القوم أن يُخْرِجوا إليهِ اثني عشر نقيباً منهم، يتوجَّه إليهم بصورة مباشرة؛ ويتوجه القوم إليه عبرهم. والنَّقيب، في اللُّغة، هو “عريف” القوم و”أمينهم” و”كفيلهم” و”المقدَّم” عليهم و”العارف” بأخبارهم ودخائل أمورهم. وهكذا لم يعد الرَّابط التَّنظيميُّ بين المسلمين وقيادتهم رابطاً محكوماً بالمعرفة الشَّخصيَّة، بل أصبح، بمنهجيَّة العمل التي اتُّبِعَتْ في “بيعة العقبة الثَّانية”، محكوماً بالتَّنظيم الجماعيِّ القائم على التَّمثيل النِّيابيِّ. أصبحت العلاقة مباشرة بين “القائد” وبين “النُّقباء”؛ وتحوَّلت العلاقةُ بين “القائد” وبين “الجمهور”، إلى علاقة مؤسسَّاتيَّة عبر وجود “النُّقباء”.
أسَّسَ “الرَّسول”(ص)، بهذه المسلكيَّة، نواة أوَّل نشاط تمثيليٍّ سياسيٍّ واجتماعيٍّ في الإسلام؛ وقدَّم به شروطاً ومواصفات للتَّمثيل النِّيابيِّ؛ كما حدَّد محمد (ص) واجبات الممثِّل النِّيابيِّ في المؤسَّسة الإسلاميَّة. صحيح أنَّ هذه الممارسة قد تختلف عن ممارسة التَّمثيل النِّيابيِّ المبنيِّ على ما يعتبر نظريَّاً، من قبل بعض النَّاس، مفاهيماً ديمقراطيَّة، لكنَّها ممارسة أثبتت نجاحها الصَّارخ، وقادت مجتمعها إلى آفاق رحبة من آفاق العمل السِّياسيِّ ساهمت في قيادته الرَّئيسة لأحداث عصره ومعايش ناسه.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى