عُمَر حَمَد».. الثَّائر والمقاوِم بالثَّقافة ملامح من حياته وشعره وبيئته (الحلقة الرابعة)
Like | Soumaya | ديسمبر 19, 2019 | أدب وفن 17 Views
د. وجيه فانوس
«الفتى العصاميٌّ» والطَّالِبُ النَّابِهُ» و«الشَّاعر في رحابِ الثَّورة»؛ هذا ما كانَ عَلَيْهِ حالُ «عُمَر حَمَد»، في سِنيِّ فتوَّته ومطلع شبابِهِ، خلال العقد الثَّاني من القرن العشرين. والمُلاحظُ أنَّ قصائد «عُمَر حَمَد»، المجموعة في ديوانه، تتناولُ، في معظمها، موضوعات ذات بُعدٍ سياسيٍّ أكثر منه شَخْصيّ أو ذاتيٍّ؛ ولذا، يمكن القول إنَ «عمر حمد» بدأ، في منذ بداياتِ وعيِهِ الفِكريِّ العام، يَعيشُ قضايا الشَّأنِ السِّياسيَّ العامِّ وينفعلُ بها.
لعلَّ هذا الأمرَ لَمْ يَكُنْ غريباً على الإطلاقِ، في مجالاتِ البيئةِ الثَّقافيَّةِ العامَّةِ لطلاَّبِ «الكُليَّةِ العُثمانيَّةِ الإسلاميَّةِ» في مطلع القرنِ العشرين. فها إنَّ «عبد الغني العْرَيْسي» قد أصدرَ سنة 1909 جريدة «المُفيد»، التي جعلَ مِنها منبراً لنقل أهم آراء العلماء الأوروبيين في السِّياسة والقانون والصَّحافة ونظريَّاتهم إلى الفِكر العربيِّ؛ كما إنَّ «عُمَر فاخوري» وضعَ سنة 1913، كتاباً عنوانه «كيفَ ينهضُ العربُ»، مُقَدِّماً بِهِ دعوةً صريحةً ومباشرةً إلى النُّهوضِ العربيِّ. والمُلاحَظُ أنَّ هذه المرحلة التي مارس فيها «عُمَر حَمَد» الفكر السِّياسي، كانت تضجُّ بأصداءٍ لتيَّارات سياسيَّة عديدة؛ من أبرزها تيَّارٌ إسلاميٌّ إصلاحيُّ، من أهمِّ قادته «مُحمَّد عَبْدُه»، و«رفيق العَظم»؛ وكان ناس هذا التيَّار يعتقدون بوجوبِ عودة الخلافَةِ الإسلاميَّةِ إلى العرب؛ لكن تيَّاراً آخراً كان يسعى إلى إثبات وجوده في تلك المرحلة، وكان هذا تياراً إصلاحيَّاً علمانيَّاً، ومن رجالاته «أديب إسحَق»، و«لطفي السيِّد»، و«فؤاد صرُّوف»، و«جرجي زيدان». أما التيَّار الثَّالث، فكان قومِيَّاً إصلاحيَّاً يدعو إلى وحدة الأمَّة العربيَّة، ويسعى إلى تعزيز ناسها لوجودهم القوميِّ؛ وكان «عمر حمد»، ومن معه من أهل «الكلِيَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة»، من جملة من ساندوا هذا التيَّار القومي العربي الإصلاحي.
كان التيَّار القومي الإصلاحي ينمو في مرحلة اشتدَّت فيها هجمة النَّزعة القوميَّة الطُّورانيَّة في سعيٍ دؤوبٍ من قِبَلِ ناسها للإمساك بمقاليد الحُكم في «اسطمبول»؛ وكان ناسُ النَّزعةِ إلى القوميَّة العربيَّة يقفون لهذا السَّعي بالمرصاد، وخاصَّة في بلاد الشَّام. وكان «عُمَر حَمَد» ورفاقه في «الكليَّة العُثمانيَّة الإسلاميَّة»، ينادون بالفكرة القوميَّة العربيَّة، وسيلة لمكافحة الهجمة الطُّورانيَّة؛ من دون أن يغفلوا أنَّ البُعد الإسلاميَّ كان لا يزال أساساً راسخاً في تفكير غالبيَّة القوم. أما الخلافة فكانت، عهد ذاك، موضوعاً فاعلاً عند كثيرين، وكانت المحافظة على هذا التيَّار ركيزة كبرى في تحديد الهويَّة السِّياسيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة وطبعاً الدِّينيَّة للنَّاس وللسِّياسة على حدٍّ سواء.
يمكن تصوير الواقع العمليِّ للنَّشاط السِّياسي القوميِّ العربيِّ لمجموعة طلاَّب «الكليَّة العُثمانيَّة الإسلاميَّة»، يوم كان «عمر حمد» في الخامسة عشرة من سِنِي عمره، انطلاقاً من إصدار «عبد الغني العريسي»، ابن «الكليَّة»، والذي كان في التَّاسعة عشرة من سني عمره، قد أصدر في سنة 1909، مع زميل له من طلاَّب «الكليَّة العثمانية الإسلامية»، اسمه فؤاد حنتس، جريدة «المفيد»(1). ولمَّا كانت «المفيد»، حقَّقت انتشاراً واسعاً لها، بل إنها اعتبرت، عهد ذاك، مدرسة تنشر الفكر القومي العربيِّ وتحضًّ العرب على الإيمان السياسي به في وجه «الطُّورانيَّة» التُّركيَّة؛ فقد يكون من المقبول، ولو جدلاً، الذَّهاب في الرَّأي إلى أنَّ هذا الوجود لـ «المفيد»، بكلِّ أبعاده، هو في الواقع العمليِّ أكبر بكثير من القُدرات الماليَّة والسِّياسيَّة لاثنين من ناس «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة»، لم يتجاوز أيٌّ منهما التَّاسعة عشرة من عمره. ولعلَّ الأقرب إلى الواقع والعقل معاً، أنَّ «المفيد» كانت، كما يرى بعضهم، اللِّسان النَّاطق باسم جمعيَّة «العربيَّة الفتاة»؛ التي كان لها رجالاتها الكبار، الذين ينظِّرون لها ويخطِّطون لأعمالها(2). أمَّا فيما يتعلق بالنَّشاط المباشر في بيروت، مدينة «عُمَر حَمَد»، فلعلَّ «جمعيَّة بيروت الإصلاحيَّة» كانت من أبرز من شجع على مثل هذه الكتابات والتَّوجهات عند الشَّباب عهد ذاك؛ ولعلَّ دراسة معمَّقة لتاريخ «المفيد» ونهجها السِّياسيِّ جديرة باهتمام الباحثين والرَّاغبين في فهمٍ أفضل وأكثر واقعيَّة للنَّشاط السِّياسي في تلك المرحلة.
كان «عُمَر حَمَد» ينظم الشِّعر في أروقة «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة؛ ثم يلقيه في باحتها الكبرى؛ وينشر، مِن ثَمَّ، أقساماً منه في جريدة «المفيد»؛ كما نشر، في الجريدة عينها، بعض مقالات نثريَّة له ذات طابع سياسيٍّ؛ وقد حفظ أرشيف جريدة «المفيد»، من هذه المقالات، مقالاً بعنوان «كيف تعزز الجنسيَّة العربيَّة»، نشر قسمه الأول بتاريخ السَّادس من تشرين الثَّاني 1913 في العدد (1412)؛ أما القسم الثَّاني، فصار نَشْرُهُ في العدد (1427)، بتاريخ الثَّالث عشر من تشرين الثَّاني سنة 1913.
فـ «عُمَر حَمَد» كان ينظم الشِّعر السِّياسي، ويدبِّج المقالات السِّياسية، ولمَّا يتجاوز العشرين من عمره، وبإمكان المرء أن يتخيّل هذا الفتى الذي خرجَ من بيئة فقيرة إلى مدرسته الدَّاخليَّة، حيث انطلق بسرعة فائقةٍ وحماسٍ كبير شعلةَ نشاطٍ تُركِّز على الفِكر والفعلِ السِّياسييَّن. ويبدو أنَّ طور المراهقة عند «عُمَر حَمَد»، قد استوعبته الممارسة السِّياسيَّة أكثر بكثيرٍ مِمَّا استوعبته الاهتمامات التَّقليديَّة المعروفة عند المراهقين، من توجُّه نحو الحياة الاجتماعيَّة إلى ما يمكن أن يكون فيها من أمور اللَّهو والجنس. واقع الحال، إنَّ البيئة الثَّقافيَّة العامَّة التي عاش فيها «عمر» في «الكليَّة»، كانت، بحكم النِّظام الدَّاخليِّ للمدرسة وللقيّمين عليها، وبحكم الجو العام المعروف عنها، لم تُتِح لـ «عُمَر حَمَد» أن يعيش ما كان يمكن للمراهق العادي الذي يحيا في كنف والدين أن يعيشه من ممارسة لقاءات اجتماعية متفتِّحة، وما قد يتبعها من تعرُّف على أمور كثيرة؛ وكأنَّ «عُمَر حَمَد» صار راهبٌ نذر حياته برمَّتِها للتبتل للشعر والتعمُّقِ في الفكر والاجتهاد في الدِّراسة والسَّعي الدؤوب في مناكب القضيَّة السِّياسيَّة العربيَّة التي نشأ عليها.
هوامش:
(1) – صدرت المفيد سنة 1909. أصدرها كلٌّ مِن عبد الغني العريسي وفؤاد حنتس، وواصلت الصدور حتى سنة 1915. ولقد توفى فؤاد حنتس سنة 1913، فحل محله عارف الشهابي. لمزيد من التفاصيل يُنظَر: العريسي عبد الغني، مختارات المفيد، ص. 11ـــ12
(2) – العريسي عبد الغني، مختارات المفيد، ص. 33.
رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي
*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية