أدب وفن

سميّة تكجي في قصصها القصيرة جدا : أجنحة وعصافير مهاجرة إلى الحريّة !

سميّة تكجي في قصصها القصيرة جدا : أجنحة وعصافير مهاجرة إلى الحريّة !

أنطوان يزبك*

سميّة تكجي تكتب قصصا، تعبّر فيها طوعا عن مشاعر قويّة مستفزّة و انطباعات صادقة عن عالمنا .
فهي إذن تكتب شذرات تبدع فيها على طريقتها و ذلك من خلال وصف النفس الإنسانية و تأثيرات الزمان والمكان والبصمات التي تتركها مفاعيل مرور الوقت ، لدرجة أنّها تجيد لعبة الكلمة المنزرعة في المعادلة “الزمكانية “واقتناص اللقطة الفوتوغرافية كما في أيام(داغير) مخترع الكاميرا و(مانراي) مبتكر الصورة الفنية بالتصوير الفوتوغرافي يوم كانت الصور بالأبيض والأسود، تضاهي صور زمننا الحاضر الملوّنة. لا بل تبزّها في تعابيرها الفنيّة وتتفوق علبها متخطية الأحاسيس البسيطة الى تلك المركبة، إلى حد بعيد .
سمية ومن طفولتها الأولى، يعيش في صمتها و هدوئها أي في دواخلها العميقة كائن ذات قدرة على الإدراك والمراقبة من خلال حاسة سادسة تسجّل كل شيء تقريبا ، مواكبة إيقاع موسيقى خاصة تكون لها نوتاتها وبرمجاتها الدقيقة وحتى المتناهية في الصغر ، ملاحقة أدق التفاصيل !

وعليه، تبدو سميّة إمرأة حالمة من حيث أن الحلم هو اختراق لحجب اللامعقول، وهي شاعرة متمكنة من الكلمة من حيث أن الشعر يقصد به الشعر الموحي ،فهي تكتب متعطشة الى المعرفة وليست أي معرفة ، إنها تلك التي تريد أن ترتبط بالأرض والشوارع والأرصفة كما في وصف الكاتب إيتالو كالفينو للمؤثرات المدينية في أدب المدن الذي ينقل ذبذبات الأمكنة و مشاعر ساكنيها سابرا أغوار النفس البشرية وأحوال المدينة ونبضاتها من خلال البشر .
سميّة تكتب في هذا المجال كمن يوثّق الروح التي تسهم في إحياء المدينة ونقلها من سبات الحجر إلى صخب البشر ولكن يبقى هنالك حاجز من صمت وسرّ كبير في الناس المتجولين في الشوارع ولكلّ قصّته ومعاناته !
من خلال عين شفافة كما الزجاج المسحور او الموشور الذي يفكّك حزمة الضوء الى ألوان قوس قزح ترى سميّة هذا الوجود المحيط وتحوّله الى دواخلها مادّة للحلم والتمرّد .
يقول جبران خليل جبران : “إني سائح وملّاح في وقت واحد وفي كل يوم أكتشف قارة جديدة في نفسي” .
على ما يبدو أن سميّة تعيش في سفر دائم في نفسها الداخلية وخارج نفسها ، تراقب وتسجّل ، تكتب وتحلم وتجعلنا ندخل عالمها من خلال كتاباتها كي نشاركها في الحلم .

يقول ايميل سيوران :

” أربعون ألف سنة من لغة الانسان ولا يمكنك ان تجد حرفا واحدا يصف الشعور الذي بداخلك تماما” .
هل هذا هو الشعور عينه الذي تود أن تقوله لنا سميّة ؟ في الحقيقة لابد لنا أمام هذه القصص القصيرة جدا التي كتبتها من خلال مشاهدات يومية ، سوى أن نعترف بأن اللغة هي مازق كبير كما يقول سيوران وغيره من المفكرين والأدباء ولابدّ لنا بعد مقاربتنا لهذه النصوص من أن نطرح الأسئلة التالية :
هل ارتأت سميّة أن تكتب هذه القصص القصيرة جدا والتي أراها على شكل شذرات وامضة قادمة من عاصفة ومن معاناة داخلية ، كي تفتح الابواب الموصدة ؟
هل تدفع سميّة بالقارئ ليقوم برحلته الفكرية الداخلية وهو يلج عالما من الخيال على الرغم من غرقه في لجج من الواقع؟
هل هذا النوع من الخيال لا يعدو كونه سوى خيارا صوريا لما هو مكنون بين النصوص ؟
خاصة أن هنالك نص يحمل عنوان “صور ” ومن ثم يفتتح عالمه الخاص على رؤى جديدة ولغة جديدة…
وهل تستطيع الصورة أن تحبس الزمن ؟ كان الهنود الحمر في الغرب الاميركي يرفضون أن يلتقط الرجل الأبيض صورهم كي لا تسجن أرواحهم في إطار الصورة الى الأبد وسميّة هي ربما واحدة من الذين يرفضون سجن الأرواح !! .
ويبقى السؤال حول مدى مرامي القصص و موضوعها خصوصا أن معظم الأدباء ضاقوا ذرعا بصعوبة التعبير ولو كتبوا آلاف الصفحات فرانز كافكا مثلا أوصى صديقه الصحافي( ماكس برود ) طالبا منه أن يحرق كل ما كتبه لأنه وجد كتاباته غير كافية للتعبير عن أفكاره ، كذلك لمّح جبران خليل جبران الى الموضوع ، معتبرا أن كل ما كتبه لا يفي بالغرض ولا يعبّر عن كل ما تلهج به أفكاره !
سميّة من خلال هذه الشذرات المعبرة نقلت لنا أفكارا كبيرة وطموحة كل ذلك بواسطة كتابات مختصرة .
على كل حال ما تريد ان تثبته سميّة في هذه النصوص أو القصص القصيرة جدا هو أمر شبيه باستنطاق الحياة والنظرة إليها ومحاولة فهم الوجود ، هذا الوجود الذي تبدّل كثيرا بحسب رؤية كل انسان فثمة منظور شخصي لكل كائن على هذه الارض زائد التغييرات التي حصلت بفعل التحوّلات الكبيرة في صلب المجتمع والإنسان .


لعلّ سميّة تلعب بحجب الذاكرة لتجيز لنفسها دمج المنظور باللا منظور على الصعيد السخصي أو االلاوعي الفردي باللاوعي الجماعي وهكذا تدخل إلى الناس الذين تصادفهم في أرجاء المدينة وتحييهم في النص المكتوب فلا يعودوا مجرد صور محفورة في الذاكرة .


تريد سميّة من هذه النصوص أيضا أن تعلن عمّا يجول في خاطرها ويعتصر في ذاتها الداخليّة ولكنّها تفكر بخفر فلا تعترف بكل شيء ! كما تجعل الوجود يعيش حياته الخاصّة ليعبّر عن ذاته وكأنها تستنطقه أو تطلب منه أن يكون لها مطواعا وثائرا في الوقت ، من خلال أن تكون له قدرة على التعبير الذاتي من دون تدخلها هي أو أي أحد آخر وأيضا تستطيع ساعة تشاء أن تسيطر عليه كما تريد في نصوصها .
وهي أيضا تشعر أمام المشهد كأنها فارغة من ذاتها تريد أن تلتقط من النظرة الأولى ذبذبات الأحاسيس التي تحصدها من المشاهدة كمن يعيد خلق العالم في حلّة جديدة …


في قصة المتسول والبيتزا نشعر بحضور ممتع للسخرية السوداء : سخرية من الفقر بحيث نستعرض البؤس البشري على شكل معاناة المتسول الذي يبحث في القمامة عن بقايا طعام يسد به رمقه وهو ينظر الى البيتزا في الإعلان، وهذا يذكرني بالرسوم المتحركة طوم و جيري حيث تعمد الكلاب والقطط المتشردة إلى إقامة وليمة فوق براميل القمامة في الشوارع الخلفية الفقيرة ، وهي تقلد البشر وهم يتناولون وجبة فاخرة في أحد مطاعم نيويورك في ثلاثينيات القرن الماضي ..


أما في قصة الشابة التي أهداها حبيبها ساعة فتتحول ساعة المعصم الى أداة تعذيب وانتظار عودة الحبيب وهذا يظهر التناقض في حياة الإنسان فالهدية التي افرحتها ذات يوم أصبحت وسيلة للعذاب والإنتظار كمن يقبع في قاعة الإعدام منتظرا متى يحين دوره ليقطع راسه بواسطة المقصلة ، وفي كل ذلك يفقد الوقت معناه ويصبح مائعا كما الساعات الذائبة في لوحة سالفادور دالي .
تتحدث سميّة أيضا عن السجن المؤبد وهناك العصافير التي تتكرر في معظم القصص وهي رمز حي للحرية التي لا يحدّها شيء ، وهي بذلك تنقلنا الى نصوص تشبه الى حدّ بعيد أجواء كتابات الماغوط في نص سجن مؤبد ، وفي هذا السياق يقول أدونيس :
“أقسى السجون و أمرّها تلك التي لا جدران لها “.
ويبدو أن حياة الفقراء والمتشردين في المدن هي حياة سجناء من دون جدران و زنازين حيث العالم كله سجن .
السجون والمقابر والعظام كلّها واقعية ونابعة من عمق التجربة الإنسانية، حيث هناك موتى أحياء يجوبون الشوارع، وموتى بالكامل tot mause tot كما يقولون بالألمانية لا نعرف أين يذهبون في صورة قاتمة جدا للحياة اليوم .
علوّاه لو يستطيع الميت تبديل قبره كما الإنسان يبدّل مسكنه فهل ترحل الأرواح من لحودها كما يرحل الأحياء من منزل إلى آخر.
تجيد سميّة تقنيّة لعبة الطباق بين
حرّ و سجين وتطلق صرخات الحريّة من خلال العصافير التي نصادفها في كل النصوص ، في خاتمة الكلام لا يسعني سوى أن أتخايل سميّة تنتظر هي الأخرى أن تتحوّل إلى عصفور شتوي يتحدى البرد والمطر لتحلّق بعيدا ….

*أديب و ناقد

نماذج من قصص قصيرة جدا للقاصّة سمية تكجي

ق ق ج
قصة قصيرة جدا

صور

سألها أين أنتِ ؟
أرسلت له كل النصوص التي كتبتها
مرَّ صمت دام سنتين …
كان خلالها يتصفح الصُّوَر ….!!!

سجن مؤبد …ولكن

عاش في عالم لا يشبهه
لا أفق للهرب.. للحلم …للتحليق
أقفل الباب وراءه…
بدأ يكتب…يرسم …و يغني
و يردد : انا حر
أنا سجين مؤبد … نزولا عند رغبتي …!!!

ق ق ج

نظرت في ساعتها التي أهداها اياها و تذكرت كلماته” سأظل أحبك حتى تحين الساعة”
بدأ يبتعد بهدوء
و على دفعات من الأعذار
هي ما زالت تلف معصمها
و الوقت يسير على نبض ذكراه
ذات صدفة رأته من بعيد
في المقهى صوت فيروز يصدح…
“بيقولو الحب بيقتل الوقت
بيقولو الوقت بيقتل الحب”

“يوم الأحد “

ايقظته الشمس المتسللة من شباك فوق سريره ، تثاءب، ثم قام يسأل زوجته التي لا تكف عن الكلام : اليوم شو ؟ ردت انه يوم الأحد ….أف!!! كيف نسي يومه المفضل ، دبت فيه الحماسة للحظات ثم خمد…!!!

منذ أن تقاعد كل الأيام “أحد” …!!!

ق ق ج

المرأة خلف الجنازة تبكي زوجها
أخاف عليك من البرد …من العتم …من الوحشة …من المقبرة …
فقراء يعيشون في المقابر
“رويدك سيدتي
نقسم لك… الأمر ليس بهذا السوء “

ق ق ج

بعثة شؤون الهجرة تنزل في الفندق الفخم ،يطل على البحر و على مخيم النازحين

صباحا أفراد البعثة يجولون على خيم النازحين للوقوف على أوضاعهم ..
الناس على رصيف البحر يحملون أكياسا مملوءة ب فتات الخبز ،يرمونه للأسماك…!!!

المتسول و البيتزا

اللوحة الاعلانية عند مفترق الطريق : إشترِ بيتزا كبيرة ،واحصل على أخرى مجانا.
مستوعب النفايات عند إقدام اللوحة ، المتسول عينه على البيتزا و يده في المستوعب .
يتناول شيئا، يمضغ ببطء و عينه على البيتزا

جوع المعدة يمارس عادته السرية …!!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى