من أبرز المحطَّات التاريخية للمترجمين العرب من الروسِّية إلى العربية
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)
يمكن الإشارة، ههنا، إلى أربع محطَّات أساس، تنتظم نشاط المترجمين العرب من اللغة الرُّوسيَّة إلى اللغة العربيَّة؛ وهذه المحطَّات الأربع هي:
أ) “محطَّة الرِّيادة”، وتبدأ مع مطلع النّصف الثاني من القرن التَّاسع عشر
ب) محطَّة “الجهود الفرديَّة”، وأكثر ما تتجلَّى عبر العقود الثَّلاث الأول من القرن العشرين
ت) محطَّة “الجهود الجماعيَّة”، وهي ما كان غالباً بتنظيم من مؤسسات ثقافية أو سياسية، وظهر معظمها بعد الحرب العالمية الثانية،وبلغ ذروته في ستينات القرن العشرين وسبعيناته
ث) محطَّة “الانكفاء”، وهي ما صار إثر انهيار “الاتحاد السُّوفياتي”، وما تبعه من تغيُّرات سياسية وثقافية، بدءاً من نهاية سنة 1991.
أ- محطَّة الرِّيادة:
لَمْ يَلْحَظ مؤرِّخو التَّرْجَمَة من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة كمَّاً كبيراً من الأعمال في هذه ما يمكن اعتباره مرحلة البدايات، بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر؛ كما لم أنهم يشيروا إلى نوعيَّات مميَّزة من التَّرجمات. ولعل لهذا الأمر كثيرٌ من الأسباب التي تَكْمُنُ وراءه، والتي يُمكن أن يكون منهاضعف الاهتمام العربي، بوجه عام، بالثَّقافة والأدب في روسيا؛ فضلاً عن قِلَّةِ عدد العاملين في مجال التَّرْجَمَة من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة، أو انحصار معظم جهودهم في الكتابات الإداريَّة وما يشابهها من أمور كانت تهتم بها القنصليات الرُّوسِيَّة التي كانت توظِّف المترجمين العرب من الرُّوسِيَّة في دوائرها. يضاف إلى هذاطغيان الاهتمام العربي ببعض الجوانب السياسية والعقائديَّة في روسيا والإتِّحاد السوفياتي، على الجوانب الأدبية والثقافية. كما لايمكن للمرء أن يغفل عن واقع حجب الإتِّحاد السوفياتي، في بعض أوقات هذه المرحلة، خلف ما يعرف بالسِّتار الحديدي.
ب- محطَّة الجهود الفَرْدِيَّة
يبدو أن المترجمين العرب من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة أهتموا، في هذه المحطَّة، بالنِّتاج الذي صدر في القرن التَّاسع عشر، وشكَّل ما يُعْرَفُ بالمحطَّة الكلاسيكيَّة المعاصرة من الأدب الرُّوسي، أكثر من اهتمامهم بالنِّتاج الرُّوسي المعاصر لهم. لقد نَشَط المُتَرْجِمون العرب في هذه المحطَّة في التَّعريف بكثير من كتابات الأدباء الرُّوس الذين ظهروا في القرن التَّاسع عشر، وشكَّلوا ما يمكن أن يكون كلاسيكيَّة الأدب الروسي. ولعلَّ في هذا التَّوجُّه من قِبَلِ المُترجمين كثير من الطبعيَّة في التَّصَرُّف والاهتمام، فالنِّتاج الأدبي الرُّوسي الذي صدر في القرن التَّاسع عشر، وخاصَّة بعد ثلاثينات ذلك القرن، حقَّق انتشاراً عالميا كبيراً ولاقى إعجاباً وإقبالاً من قِبَلِ معظم النقَّاد العالميين، والغربيين منهم بشكل خاص؛ في حين إنَّ الكتابات الأدبيَّة التَّابعة للمحطَّة الزمنيَّة المعاصرة لهؤلاء المترجمين لم تكن قد أثبتت انتشاراً عالميَّاً قويَّاً لها في تلك الآونة.
امتازت نشاطات التَّرْجَمَة من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة في هذه المحطَّة بأنها ساهمت إلى حد كبير وواسع في تأسيس معرفة المثقفين والأدباء العرب بما يمكن أن يسمى كلاسيكيَّات الأدب الرُّوسي وكُتَّابه. واقع الحال، شهدت هذه المحطَّة نشر ترجمات روايات ومسرحيات وأشعار من أعمال كبار الأدباء الروس مثل: نيقولاي غوغولNikolai Gogol وفيودور دوستويفسكيFyodor Dostoyevsky وإيفان تورغينيفIvan Turgenev وليو تولستويLeo Tolstoy وألكسندر بوشكينAlexander Pushkin وميخائيل ليرمنتوفMikhail Lermontov ومكسيم غوركيMaxim Gorky وجنكيز أيتماتوف Chinghiz Aitmatov. ومن جهة أخرى، فقد ساعدت هذه الترجمات، بشكل عام، على نشر موضوعات الطبقات الاجتماعيَّة وما يصاحبها من صراعات وقيم ومفاهيم أشتُهِرت بها تلك الأعمال.
ج- محطَّة الجهود الجماعيَّة:
استمرَّت جهود المترجمين العرب في هذه المحطَّة مُنْصَبَّة على كثير من الأعمال الأدبيَّة والفكريَّة الرُّوسِيَّة الكلاسيكيَّة، كما كان الحال في المحطَّة السَّابقة، لكن مع التقاط لبعض النِّتاج الرُّوسي المعاصر في ذلك الزَّمن. ويُمكن القول إن أبرز ما عَمِلَ عليه هؤلاء المترجمون العرب في هذا المجال كان في ميدان الدِّراسات الأدبيَّة والنقديَّة[1] والكتابات السياسيَّة والاجتماعيَّة[2]، فضلاً عن بعض المؤلَّفات المتعلِّقة بأمور من العلوم العسكريَّة[3].
لكن، لا بُدَّ من الإشارة إلى أن هذه المحطَّة من تاريخ عمل المترجمين العرب من اللغة الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة شَهِدَتْ، خلال سبعينات القرن العشرين وثمانيناته، مُساهمات لافتة في تعريف الثَّقافة العَرَبِيَّة على منحىً آخر من مناحي الأدبين الرُّوسي والسُّوفياتي، منحى “أدب الأطفال”. وهذا باب جديد يُطِلُّ منه العالم العربي على الثَّقافة الأدبيَّة الرُّوسِيَّة.
ولعلَّ هذا التَّوَجُّه من قِبَلِ ناشري التَّرجمات والمُترجمين أنفسهم أتى جرَّاء أمرين. يظهرُ الأمرُ الأوَّل في ما يُمكن اعتباره حاجة أحسُّها المُثَقَّف العربي الذي تنامى وعيه، بسبب عدد كبير من العوامل السِّياسيَّة والاجتماعيَّة، بأهميَّة أدب الأطفال وضرورة الإطلاع على تجارب الآخرين في هذا الميدان؛ وكان النِّتاج الرُّوسي أحد هذه التَّجارب. أمَّا الأمر الثَّاني، فيأتي نتيجة لإشباعٍ ما أحسَّه القيِّمون على التَّرْجَمَة من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة لدى المُتلقي العربي في مجال الكتابات الكلاسيكية للرِّواية والقصَّة والمسرح والشِّعر، وللدِّراسات النَّقديَّة التي نَتَجَت عن دراسة هذا الأنواع والتَّنظيرِ لها. ولعلَّ هذا الانفتاح الملحوظ على أدب الأطفال الرُّوسي كان نتيجةً لاجتماعِ هذين الأمرين فيما بينهما[4].
د- محطَّة الإنكفاء
إذا ما كانت هذه المحطَّة عَرِفَت ما يمكن اعتباره تراجعاً في نشاط المترجمين العرب من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة، فإنَّها شَهِدَت، من ناحِيَةٍ أُخْرى، ما يمكن اعتباره تَمَسُّكاً نسبيَّاً بالفاعليَّة الثقافيَّة لهذه التَّرجمات، ونزوعاً واضحاً نحو وضع هذه الفاعليَّة في النِّطاق الموضوعي أو الأكاديمي لها. ولئن أمكن نَعْتُ المحطَّة السَّابقة بِفَوران الرَّغبة في التَّرْجَمَة والإقبال العقلي والإنفعالي عليها، فمن الممكن وَسْمُ هذه المحطَّة بتفوُّق الإقبال العقلي على الانفعالي فيها. وبالفعل، فلئن سَجَّلَت المحطَّة نَوْعاً من التَّدَنِّي في نسبة عدد المترجمين العرب ونسبة المُتَرجمات، فإنَّها بدأت تشهدُ لبروزِ عُمْقٍ ما في التَّعامل مع موضوع التَّرجمات من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة، ووضع هذا التَّعامُل ضمن معايير الموضوعيَّة الثقافيَّة وأبعادها الحضاريَّة.
بات موضوع التَّرجمات والمُتَرْجِمين من الاهتمامات المباشرة للمعاهد الأكاديميَّة، وبشكل خاص في أقسام الدراسات المقارنة. ومن هنا، فقد أخذت الأكاديميا على عاتقها مسؤوليَّة واضحة في التعامل مع المُتَرْجِمين والمُتَرْجَمات، على حدٍّ سواء، وفي تقييم الفاعليَّة الثقافيَّة والحضاريَّة لهذا النشاط بين الفكر الرُّوسي والفكر العربي[5]. ومن الواضح أنَّ مثل هذا المنحى في التَّعامُلِ مع التَّرْجَمَة يُشير إلى مستوى راقٍ من النُّضج ويدل على بداية حقبة جديدة من التَّفاعل الثقافي بين الفكرين الرُّوسي والعربي. لكن، ومن جهة أخرى، فلا بدَّ من الإشارة إلى استمرار غَلَبَة الاهتمام بالنِّتاج الكلاسيكي من الأدب الرُّوسي، وعدم ظهور اهتمام مماثل له، أو في مستواه، بالنِّتاج الأدبي والفكري المعاصِر إلاَّ في من خلال ترجمة بعض الأعمال ذات الطَّابع العقائدي أو السياسي أو العسكري. ويُمْكِنُ إرجاع هذا الأمر إلى أن التَّفاعل والتَّجاوب الثقافيين بين الأُمم والشٌُّعوب فِعْلُ تَخَمُّرٍ وهَضْمٍ وتَأصيلٍ يَعْتَمِدُ على الغَوْصِ في الأعماق التَّاريخيَّة للوجود الثقافي، قبل أن يبدأ بالتفاعل المثمر عبر المعاصرة الأدبيَّة والفكريَّة.
يمكن التَّوقُّف، ههنا، عند الخلاصات التَّاليَّة التي أثبتها عمل المترجمين العرب من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة منذ منتصف القرن التَّاسع عشر وحتَّى اليوم:
- شكَّل المترجمون مرآة لوقائع الإيقاعين “الثقافي” و”العملي” في تلاقي الفكرين الروسي والعربي منذ متصف القرن التَّاسِع عشر، مروراً بالقرن العشرين، وحتَّى اليوم.
- أظهر المترجمون نُضجاً واضحا في التَّعامل مع كثير من مُقَوِّمات التَّفاعل الثَّقافي بين الشُّعوب والأُمم، فاهتمُّوا للكلاسيكيَّات واحتفلوا بها أكثر من اهتمامامهم ببعض النَّزعات المعاصرة.
- أثبت المترجمون قدرتهم على احتواء موجاتِ الانفعالِ التَّأثري والتَّعامل معها؛ وتَمَكُّنهم، مِنْ ثَمَّ، من تأصيلٍ تَقْعيديٍّ للتَّفاعلِ الثَّقافي الأصيل بين الفِكرين الرُّوسي والعَرَبي، ووضع هذا التَّفاعل في إطاره الحضاري الواقعي.
- أكَّد المترجمون، باستمرارهم، رغم تغيُّر كثير من المعطيات وتنوُّعِها، الاعتراف العربي بالآخر الرُّوسي وأهميَّة التَّواصل الفكري معه، وإن عملهم هذا ليس سوى جسر تواصل فاعل ومؤثِّر بين الفكرين الرُّوسي والعربي.
****************************
[1]– منها:
- “أسس علم الجمال الماركسي اللينيني”، مجموعة من العلماء السوفييت، ترجمه مجموعة من المترجمين العرب منهم: فؤاد المرعي ويوسف حلاَّق.
- “واقعية ستانيسلافسكي في النظرية و التطبيق”،ترجمه شريف شاكر.
- “نصوص مختارة”، بيلينسكي، ترجمه يوسف حلاَّق.
- “علاقة الفن الجماليَّة بالأخلاق”، تشرنيشفسكي، ترجمه يوسف حلاَّق.
[2]– منها:
- “القاموس السياسي”، ترجمه عبد الرزاق الصَّافي.
- “دور الأفكار التقدميَّة في تطوُّر المجتمع”، كونستانتينوف، ترجمه عبد المعين الملوحي.
- “غزو بلا سلاح وأساليب الصهيونية”، فلاديمير بيفون، ترجمه عبد الرحمن الخميسي.
- “الكومنترن والشرق”، أريدكوف، ترجمه نصير سعيد الكاظمي.
- “من كمب دايفيد إلى مأساة لبنان”، لأغارتيشيف، ترجمه ساسين نون
[3]– منها:
- “المواد السَّامَّة الحربيَّة”، ترجمه نافع أيُّوب لبُّس.
- “تكتيك القوات ووقاية مختلف الصنوف من أسلحة التَّدمير الشَّامِل”، ترجمه نافع أيُّوب لُبُّس.
- “الأركان السوفياتيَّة العامَّة في أعوام الحرب”، للجنرال شتيمنكو، ترجمه فؤاد المرعي.
[4]– من مترجمات أدب الأطفال في هذه المرحلة:
- الشاطئ المسحور – فورونكوفا
- الأسد والكلب، الثعلب والأرنب، الدببة الثلاثة – تولستوي
- الفتى الكسول – أكيم
- القبعة الحيَّة، حكايات الجاهل – نوسوف
- الصبيان، الجرو الأغر – تشيخوف
[5]– يمكن اعتبار تجربة الدكتورة مكارم أحمد الغمراوي نموذجا طيِّباً في هذا المجال:
- دكتوراه في الأدب المقارن من جامعةموسكو.
- أستاذة الأدب الروسي والمقارن، كليةالألسن، جامعة عين شمس، القاهرة.
- نشرت عدة أعمال منها:
- التأثير العربي والإسلامي في الأدب الروسي.
- الرواية الرُّوسِيَّة فيالقرن التاسع عشر.
- ترجمت عدداً من القصص والمقالات والمسرحيات الرُّوسِيَّة الشهيرة منها:
- “الحرب والسلم”- بولجاكوف.
- “المحاكمة” و”زواج صوري”- غويغتن.
- “أحياءإلى الأبد”- روزوف.
- وضعت تراجم لبعض الأدباء والمستشرقين الروس.
- أشرفت على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه فيالأدب الروسي والأدب المقارن.
*نقلا عن موقع Aleph Lam