أدب وفن

أحداثٌ مِن السِّيرةِ النَّبويَّةِ في مَرايا مُعاصِرَة (الحلقة السَّادِسَة) التَّرفيه عن المجموعة العاملة [غـزوةُ الخَنْدَق]

أحداثٌ مِن السِّيرةِ النَّبويَّةِ في مَرايا مُعاصِرَة
(الحلقة السَّادِسَة)
التَّرفيه عن المجموعة العاملة
[غـزوةُ الخَنْدَق]


الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

لَمْ يَكُن المسلمون، المُقيمون في “المَدِينَة المُنَوَّرَة” مع الرَّسولِ مُحَمَّدٍ (ﷺ)، يعلمون أنَّ “اليَهود” قد حرَّضوا عليهم مجموعاتٍ من “العَرَب” تسعى إلى قتال؛، حتَّى بدأوا يتفكَّرون في كيفيَّة مواجهةِ هذه الحملة الجديدة، يَشُنُّها عليهم تحالُف “اليَهود” والمشركين على حدٍّ سواء. وبلغ الرَّسولَ (ﷺ) أنَّ “اليَهود” نجحوا في تأليب مُشركي “قُريشٍ” الذين خرجوا لقتال النَّبيِّ مُحَمَّدٍ (ﷺ)، بقيادة “أبي سُفيان”. وكانت قبيلةُ “غَطفان” تضامنت مع “اليَهود” ضدَّ الرَّسولِ (ﷺ) والمسلمين؛ وخرجت بقيادة “عُيَيْنَةَ بِن حُصنٍ” في “بني فَزارة”، و”الحارِثُ بِن عَوْفٍ” في “بني مُرَّة”، و”مسعر بن رخَيْلَة” في قومه مِن “بني أَشْجَع”. وبلغ المسلمين أنَّ هذا التَّجَمُّعِ الكبير أعدَّ العدَّة للإحاطة بـ”المَدِينَة المُنَوَّرَة” ومَن فيها مِن المؤمنين، ليحدقُوا بهم وبدينهم وبنبيهم، انتصاراً للشُّرك؛ ولـ”اليهود”، الذين سعوا إلى تأييد هذا العمل ودعمه ماديَّاً ومعنويَّاً.


اجتمع المسلمون إلى الرَّسول (ﷺ)، يتشاورون في الأمر. ويقال إنَّ “سلمان الفارسيِّ” (رض) إقترح أن يحفر القوم خندقا يحيط بالمدينة؛ فيعيق الخندقُ، بوجوده، دخول المهاجمين إليها؛ ويعطي المقيمين فيها تحصين قوَّة هم في أمسِّ الحاجة إليه عند مواجهة عدوهم. ولما وافق الرَّسول (ﷺ) على ما اقترحه سلمان (رض)، هبَّ المسلمون يتطوَّعون للعمل في حفرِ الخندق.
كان لا مندوحةَ مِن عملٍ سريعٍ، ومِن إنتاجيَّةٍ مضاعَفَةٍ، لمواجهة الخطر الدَّاهم. لقد واجهَ المسلمون، في هذه المَعْمَعِة، مشاكِلَ وتحدِيَّاتٍ عدَّةً، كان عليهم إيجادَ حلولٍ حثيثةٍ لها. كان من أبرز هذه الأمور:
1) قلَّةُ عدد المسلمين العاملين في “الحفر”؛ وقد كان عملاً فردِيَّاً تطوُّعيَّاً، إذ لم يكن ثمَّة “نصٌّ شرعيٌّ” يشير إلى ضرورة التزام جميع المسلمين به.
2) تباطوء بعض المسلمين في التَّطوُّع للحَفر؛ بل إنَّ بعضهم كان يتثاقل في إنجاز ما يكلَّف به من أعمال.
3) لم يكن لدى جميع المسلمين، آنذاك، إدراك أو وعي لخطورة الحال وعِظَمِ المسؤوليَّة المترتِّبة على الإسراع في إنهاء الحَفْرِ.
4) وعورة الأرض الواجب حفرها؛ لما فيها من جلاميد الصَّخر، التي لم يكن للأدوات البدائيَّة التي كان المسلمون يملكونها، أن تزيلها بسهولة.
5) ضرورة الإسراع في إنجاز المهمة قبل وصول العدو.
كان الجوُّ ضاغطاً، بالنِّسبة للمسلمين؛ وكان لا بدَّ لهم من إنجازٍ سريعٍ وصحيحٍ للعمل؛ لكن لا يمكن للمرءِ، أيَّاً كان، أن يُحافظ على وتيرةٍ متصاعدةٍ من الإنتاج، وهو يعاني مثل هذا الضَّغط النَّفسيِّ؛ الذي كان يعيشه المسلمون، وهم يحفرون الخندق ويترقَّبون وصول طلائع العدوِّ بين لحظة وأخرى. كان لا بدَّ، لمواجهةِ هذا الوضع، مِن القيام بأمورٍ عدَّة. وهنا يبرز الحِسُّ القياديُّ واضحاً عند الرَّسولِ (ﷺ). فعدا عن أنَّه عالج النَّاحية التَّنظيميَّة للعملِ، بوضعِ أصولِ نهوضِ القومِ بمهام الحَفر؛ فإنَّه عَمَدَ، كذلك، إلى معالجة الحال النَّفسيَّة للجماعةِ المؤمنة المُقبلةِ على هذا العملِ الصَّعب والشَّاق والضَّاغط.

لَمْ يكتفْ رسولُ الله مُحَمَّدٌ (ﷺ) بتنظيمِ الحَفْرِ والإشرافِ المباشِرِ على العملِ فيهِ؛ بل إنَّه (ﷺ) قام شخصيَّاً بالحَفْرِ، وكان في عملهِ هذا مُحفّزا لكثيرين ومنشِّطاً لهم في الانغماسِ في الحَفر تسريعاً لإنجازه. لَمْ يتوقَّف (ﷺ) عند هذا الحدِّ، على الإطلاق؛ ولعلَّه (ﷺ) أدركَ أنَّ التَّحفيز والقدوة الحسنة قد لا يكونانِ كافيين ههنا، فلا بدَّ مِن وضع العامِل، أو مجموعة

ما يقال أنه من بقايا الخندق

العاملين، في أوضاعٍ نفسيَّةٍ أكثر راحةً واطمئناناً ممَّا هم فيه. وهنا برزت المشكلة الكبرى، إذ كيف لقومٍ سيشنُّ عدوُّهم عليهم قتالاً حشد له المقاتلين من كلِّ حدبٍ وصَوْبٍ، وهم لا يملكون في مواجهته، بعد الإيمان بربَّهم، إلاَّ خَنْدَقاً لمَّا يتمكَّنوا من إنهاء حَفْرِه؟!
كان من الضَّروريِّ، إذاً، البحثُ عن حالٍ مختلفةٍ يوضع فيها القوم؛ حالٌ تُنسيهم أخطار الحرب المقبلة، وتخفف عنهم عناء العمل في الحفر، وتُبقيهم على ما هم فيه من توثُّب ومروءة ونشاط؛ بل تزيد في كل هذه الدَّوافع الإيجابيَّة التي عندهم. ولكن كيف، ومن أين؟
كان بين المسلمين العاملين على حَفْرِ الخندق رجلٌ اسمه “جُعَيْل”؛ ولفظُ “جُعَيْلٍ” هو مصغَّر “الجَعْلِ”، وهو عند العَرَب حيوان أو حشرة في شَبهٍ من الخنفساء. ولم يكن مستغربا عند “العَرَب” تسمية أبناءٍ لهم بتصغيرٍ لحيوانات صحرائهم، مثل “كُليب”، مصغَّر كلب؛ و”ذؤيب”، مصغَّر ذئب؛ و”زُهير”، مصغَّر الجمل الأزهر، وغير ذلك. وثمَّة من يرى أنَّ “جُعيلاً” ما هو سوى تصغير لـ”الجَعْلِ” وهو الجَرُّ على الشَّيء، وخاصَّة في الحرب؛ إذا كان بعض النَّاس يطلب من أحدهم أن يقوم بواجبِ الحرب نيابة عنه، مقابل جَعْلٍ (مقابلٍ) يخصُّهُ به.
المهم أنَّ رسول الله (ﷺ)، وهو الذي طالما دعى القوم إلى اختيار أسماء حسنة لأولادهم، والذي قام في بعض المرات بتغيير أسماء بعض النَّاس عند دخولهم الإسلام، عن معانيها أو دلالاتها الجاهليَّة الفظَّة، إلى معان أكثر ليونة؛ غيَّر في اسم “جُعيلٍ” هذا. فلئن كان اسم “جُعيلٍ” يدلُّ على قلَّةٍ ما أو تصغيرٍ ما، فإنَّ الرَّسول (ﷺ) أسماه “عمرا” تيمُّناً له بطولِ العُمر، وتيمُّناً بما في معنى “عمرو”، لهذا الرَّجل الدَّاخل في الإسلام والمتحمِّس له، من رجاءٍ بكثرة الخير والزِّيادة فيه. ويبدو أنَّ هذا العملَ هزَّ مشاعر “جُعَيْلاً”، الذي صار اسمه “عمرو”، وأفرحه ومن معه من ناس كانوا يحفرون الخندق. وما كان من هؤلاء إلاّ أن بدأوا يهنئون صاحبهم باسمه الجديد، الذي أطلقه عليه رسول الله (ﷺ)، ويقولون له مرتجزين فرحين:
سَمَّاهُ مِنْ بَعْدِ جُعَيْلاً عَمْرا وَكانَ للبائِسِ يَوْمَاً ظَهْرا
وسمِعهم رسولُ الله (ﷺ) في ارتجازهم هذا؛ وما كان منه (ﷺ) إلاّ أنْ شجَّعهم، بأنْ أخذ يردِّد معهم آخر كلمةٍ في صدرِ ما يرتجزون به، وآخر كلمةٍ في عجزه؛ فإذا ما مرُّوا بـ”عَمْرا” قال الرَّسول (ﷺ) “عَمْرا”، وإذا ما مرَّوا بـ”ظَهرا” قال (ﷺ) “ظَهرا”.
وانتشر الخبرُ، بهذا الرَّجز، بين العاملين؛ بل زاد من انتشاره ونشوة النَّاس به أنَّ رسولَ الله (ﷺ) كان ينشدُ معهم آخر صدرَ البيتِ وآخر عَجزه، لأنَّه (ﷺ) لَمْ يكن لهُ أنْ يقولَ الشِّعرِ؛ مصداقاً لما ورد في الآية 59 من سورة “ياسين” ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ ﴾. وكانت هزَّة كبرى في نفوس العاملين في الحَفر، الأمر الذي ضاعف نشاطهم، وزاد من عزيمتهم، وأنساهم خوف ملاقاة ما يعدُّه لهم تحالف “اليَهود” والمشركين. وكان أن أسرع القوم في إنجاز الخندق؛ ثم كان لهم، ما كتبه الله لهم، من انتصار على عدوِّهم بوهن عزيمته وتشتُّت شمله.
وَعَى الرَّسول (ﷺ) دور التَّرفيه عن العاملين، إبَّان العمل، في إذكاء حماسهم؛ ووعى أنَّ ثمَّة ضرورة لمشاركة القائد لناسه في فعل التَّرفيه هذا؛ كما وعى أن يكون موضوع التَّرفيه خالياً من الفحش والجور. وهذه الممارسة، في التَّرفيه عن العاملين، ليست سوى تأكيد لكثير مما تذهب إليه تحليلات معاصرة في “عِلم النَّفس الاجتماعيِّ”، وخاصَّة في ميدان قيادة المجموعات وتحسين مستوى إنتاجيَّتها.
صدق الله العظيم، إذ قال، في الآية 21 من سورة “الأحزاب”، في محكم تنزيله ﴿{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى