أدب وفن

العلاَّمة المؤرِّخ السيِّد حَسَن الأَمِين وَرْدَةُ التَّأريخ بِعَبَقِ عَامِلَة

الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثَّقافيِّ الإسلامي)

الأرضُ وَعدٌ، وتُرابُها ناسٌ كانوا؛ بِهم يكونُ بعضُ الوَعْدِ أوْ لا يَكون.
مِنَ الذين كانوا، مَن كسفَ مِنْهُمُ الوَعدَ؛ فَسارَ بِذاتِهِ إلى عَتْمَةِ أَعماقِ التُّرابِ، وانْحَلَّ فِي لَيْلِها سَوادَ غِيابٍ دامِسٍ ما انفكَّ ظلامُهُ في ازْدِيادٍ متنامٍ وحُلوكٍ عَبُوسٍ قاسٍ؛ ومنهم مَن عانَقَ الوَعدَ، فانْبَعَثَ مِنْ وَهْجِ غِيابِهِ عِناقُ عِلْمٍ يُلْهِبُ الوُجودَ حياةً ويُحَرِّكُ كَوامِنَهُ بألفِ رَفْدٍ مِن سَخاءٍ لا يَنْضَب، ثُمَّ يَسْعى بِهِ مِنْ دُجْنَةِ الغِيابِ إلى انبثاقٍ لنورِ الحُضورِ الأَلِقِ. والنُّورُ، لا يَكونُ مِعاطاءً، إلاّ إذا أحاطَت بِهِ الزُّجاجَةُ؛ والزُّجاجَةُ، هَهُنا، أَمانَةُ المُؤرِّخِ ولُبُّ وجودِهِ. لذا، فَالتَّأرِيخُ عَهْدٌ، مِنَ الأَرضِ وناسِها، على مَن يَبقَ مِن الوَرى وسَيْكونُ بقاءً حتَّى بعد الوفاة. إنَّه واجبُ الحَيِّ تجاهَ مَن غابَ؛ وهو، كذلكَ، حَقُّ الماضي على الحاضِرِ كَما المُسْتَقْبَل.
التَّاريخُ، أَمانَةُ الحُضورِ الإنْسانِيِّ في استِمْراريَّةِ وجودِهِ؟! نَعَمٌ، وهيَ نَعَمٌ بامْتِيازٍ! ولِذا، فَقِلَّةٌ مِمَّن سَعوا إلى تَدوينِ التَّاريخِ، نَجَحوا في السُّموِّ إِلى مَرْتَبَةِ المُؤرِّخِين، وصاروا زُجاجَةَ التَّأريخِ التي يَشُعُّ بِها نُورُ الماضِي، فِي تَحَقُّقِ وَعْدِ الأرضِ باسْتِمْرارِ حَقِيقَةِ كَيْنُونَتِها.
كَثْرَةٌ هُم مُدَوِّنوا الوَقائِعِ، وقِلَّةٌ هُمْ المُؤرِّخُونَ؛ إِذْ تَدوينُ الوقائعِ كتابةُ مَحْضَرٍ لِحَدَثٍ، أمَّا التَّأريخُ، فَوَضْعٌ لِلْحَدَثِ في حقيقةٍ لِمسارِهِ الحضاريِّ وفاعليَّتِهِ الفكريَّةِ، ضمنَ وجودِ الإنسانيَّةِ. و”حَسَنُ الأمين”، مِنْ معدنِ هؤلاءِ المؤرِّخينَ الذين شَهِدَ لهم حاضرُنا بروعَةِ حَمْلِ أمانةِ التَّأريخِ؛ فَشَهِدَ بِتآرِيِخِه لكثيرٍ مِن وقائعِ ما كانَ وحقائقِ الماضي، وصارت كِتاباتُه الزُّجاجةَ التي تألَّق عَبْرَها الماضي نُوراً يُضيءُ كثيراً مِن أرجاءِ الحاضرِ، ويُشيرُ بِشَعْشَعانِيَّتِهِ إلى كثيرٍ مِن أَمْداءِ الزَّمَنِ الذي سَيَكون.


لَمْ يكن أهتمام “حسن الأمين” بالتَّأريخ، فِعْلَ تدقيقٍ وتوثيقٍ وحسب؛ كما لَمْ يكن اهتمامه فِعْلَ درسٍ وتحليلٍ فقط. “حسن الأمين”، أو “السِّد حَسَن”، كما اعتاد كثيرون على منادته، كانَ يتعامل مع التَّأريخِ بشغفِ العاشِقِ وَوَلَهِ المُشتاقِ ورَغْبَةِ المُؤمِنِ بِسَبْرِ عُمْقِ الرِّسالة ووَعْيِ دِقَّةِ المهمَّة. ركَّز اهتمامَهُ التَّأريخي مُنطلقاً مِن إثنين: أوَّلهما إِرثٌ ثقافيٌّ ومعرفيٌّ نَهَلَهُ مِن والدِهِ العلاَّمةِ الحجَّةِ الإمام، وتمظهرَ عَبْرَ الاهتمامِ بـ”عاملةَ”، علماءً وأحداثاً وحياة؛ وثانيهما إيمانٌ

بأنَّ العروبةَ وجودٌ حضاريٌّ فاعلٌ في حياةِ “عاملة”؛ لا يُمكنُ إنكارهُ أو تجاوزه في أيَّ بَحْثٍ أو تحليلٍ أو رؤيةٍ تتعلَّق بها وبناسِها. فكان “السِّد حسن” في كتاباتِهِ الزُّجاجة التي تَوَهَّجَ بها كثيرٌ مِن نورِ علماءِ “عاملة” وناسِها وهم يرفلونَ بِحلَّة الحضارةِ العربيَّةِ وروعة اللُّغة العربيَّة وعَظَمَةِ آدابِها.
“حسن الأمين”، ابن عاملة؛ وعاملة التي طبعت وجوده بكثير من ألقها وزهوها وأمدية عطاءاتها، فتكامل الإثنان ليس في تاريخ عاملة وحسب، وليس في تاريخ لبنان وحسب، بل في تاريخ العروبة والإسلام على حد سواء، وصولاً إلى الرؤى الإنسانية الشموليَّة، حيث لا وجود إلاَّ لجوهر الحقيقة الكبرى، التي يلتقي فيها ناس الدنيا برمتهم عند وعد الأرض بنور ينبثق من تراب الخيرة من كوكبة علمائها وأهل الفضل فيها.
“السِّد حسن”، كما عرفتُه، وقد جَمَعَتنا لقاءاتٌ كثيرةٌ ورحلاتٌ عديدةٌ وربط بيننا اشتراكٌ في مؤتمراتٍ وحواراتٍ، كان رَجُلَ الحقِّ في أصعبِ المواقف، وكان رَجُلَ الموقفِ في أدقِّ الظُّروف، وكان إنسانَ الدَّماثَةِ والوفاءِ في كلِّ حلٍّ لنا وترحال. انتصرَ لي، يومَ حاول أحدهم مقاطعتي في حوارٍ لي، في أساسيَّةِ الوجودِ القوميِّ العربيِّ في بلادنا؛ مع كبير كبير من مسؤولي دولةٍ كُبرى. ووقف إلى جانبي في النِّقاش، وأيَّد فكرتي، وساهم في رفعِ الحوارِ إلى أعلى مستوىً فكريٍّ كانَ بالإمكانِ الوصول إليه. ولَمْ يُبالِ إلاَّ للحقِّ، ولِما آمَنَ بِهِ ورآهُ صواباً. وظلِّ “السِّد حسن”، لأدبه وتواضعه وحُسن أخلاقه، يُذَكِّرُني كيفَ هرعتُ مرَّةً، ونحنُ في أحد فنادق دولةٍ عربيَّةٍ، إلى تقديمِ كأسِ الماءِ لَهُ، لمَّا كان يَهُم بتناولِ واحداً مِن أقراصِ الأدويَّةِ التي يعتمدها في تنظيمِ شؤون صحَّتِه. كلَّما كنتُ ألتقي به، كنتُ أشعرُ بحبٍّ شديدٍّ يقرِّبني منه؛ وكلَّما ازدادَ تعرُّفي عليهِ، كنتُ أزدادُ إعجاباً بطيبته الصَّافِيةِ ورقَّتِهِ الحُلْوَة ومُزَاحِهِ الأنيقِ وواقعيَّته الصَّادقةِ وصراحتِهِ الرَّاقية وعَظَمَةِ وجوده.

يبقى في القلبِ حسرة، أن “السيِّد حسن الأمين”، الذي حملَ لواءَ “موسوعة أعيانِ الشِّيعة” مِن يَدِ والدِهِ الكريمِ الجليلِ، ومشى العمرَ رافعاً هذا اللِّواء، لَمْ يُسعفهُ الدَّهرُ لِيُحَوِّلَ هّمَّ مسؤولِيَّةِ متابعةِ شؤونِ هذا اللواء، مِن فردٍ إلى مؤسَّسة. نعم، “موسوعةُ أعيان الشِّيعة”، يجب أنْ تتحوَّل إلى عمَلِ مؤسَّسة علميَّة تأريخيَّة، تُتابِع رسالتها وتستمرُّ بها.
هذا طموحٌ، وهذا حقٌّ للسيِّد “حسن الأمين” على “عاملة” وعلى أهل التَّاريخ، وعلى الوطنِ. نعم، بالعمل المؤسساتيِّ وحده، يكون الحفاظ على نورِ عطائ “السيِّد حسن الأمين”؛ وعلى ما تركه للتَّاريخِ من وجودٍ حضاريٍّ وتميُّزٍ معرفيٍّ؛ تنسَّمه، منذ أنْ كانَ، مِنْ عَبَقِ “عاملة”ن الذي لا يزدهي به لُبنان وحسب، بل الحضارةُ العربيَّةُ برمَّتها والفكرُ الإسلاميُّ والإنسانيَّة قاطبةً.


أيُّها العلاَّمة؛ “السيِّد”، في قومِك وعِلمِك وتاريخِك، أرَّخْتَ لـ”عاملة”؛ فـ”عاملة”، وكلُّ أهل العِلمِ والفِكر والحقيقةِ، مدعوون لتأرِيِخك، حياةً وفكرا ومعاناة؛ فعطاؤك ما انفكَّ يترك، للتَّاريخ ولِما سيأتي مِن الزَّمنِ، ألفَ ألقٍ وفرحةٍ ووهجٍ نور.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى