شجرة البيلسان / قصة قصيرة بقلم الكاتبة ريما بورجاس

شجرة البيلسان.
اذكر انني استيقظت يوما ما باكرا لأزور التل ّ المرتفع.
ذلك الذي كنت أراقبه مع أول ابتسامة للشمس في يوم جديد، وهي تظهر دائما بثوبها الناري بخفة، تنثر رذاذ انوارها على السهول المترامية على اطراف ضعيتي..
أروع ما تراه من هناك هو بزوغ الفجر، وكأنني كائن خرافي عملاق يقف بين أرض وسماء ،
هكذا كنت اجد نفسي في صغري عندما كنت اراقب ظلي يكبر رويدا رويدا كلما اكملت الشمس بهاء طلتها.
اليوم كان قراري أن أذهب عبر طريق “القدومية” ، هكذا كنا نسميها لانها ممر قدم غير معبدة وغير مخصصة لمرور السيارات.. لطالما اعتبرتها قطعة من جنة عدن تمتع نظرك فيها بما ابدعت الطبيعة من الوان وخضرة ..
تصادفك على الدرب شقائق النعمان ،تختال بلونها الأحمر القاني، وتفترش البراري بروعتها وتغطي الأراضي المشبعة بماء المطر.
و الطريق تعبق في أجوائه رائحة زهر البيلسان
الذي قرأنا عنه في القصائد والاساطير،
والذي كان الصربيون يظنون انه يجلب الحظ السعيد في افراحهم.
شجرة اسمها يستحضر صورة اروع زهرة بين كائنات الزهور حين تتجمع على هيئة باقات تكلل رؤوس الاغصان.
نعم، كانت تلك الشجرة في حديقة العجوز سيدة ذلك المنزل. وكان اسمها “تركمان” ..ربما اسمياها والداها هكذا، مستعينين بإسم يليق بزمنها. الزمن العثماني الذي كان يحكم توقيت بلادنا في ذلك الوقت.
لقد كانت امرأة عجوز ترتدي دائما الاسود، لبسته بعد وفاة زوجها، كما قيل لي، والذي لم أره ابدا كما لم اعرف احدا من اقاربها.
عندما كنا صغارا، كنا نخاف الاقتراب من منزلها لأنه قيل بإنها غير ودودٍ وتكره الاولاد، لكن ازهار البيلسان كانت تغرينا فنروح نتسلل عبر السياج بهدوء لنقطف من تلك الشجرة، لنصنع من قطافها الجميل، أكاليلا نزين بها شعرنا. وكانت العجوز تخرج علينا في كل مرة، وتصرخ بنا، فنهرب بفرح. ومع كل غارة ومطاردة، كنا مثل زرازير برية، لا نترك عند طيراننا غير هواء الفرح. و نغني:
شو حلوة أرضنا
بالزهر ملوني
بالوزال ع لتلال
بصوت الحساسين
بتطرب بالالحان
وقلوب معلقة بالارض
طيبة عشقاني
تزين شعر لصبايا
بزهر البيلسان
بزهر البيلسان…….
في يوم، كانت الازهار معلقة كالثربا على غصون مرتفعة، ولأننا مثل شياطين عابثة، قررنا السطو بأي شكل من الأشكال، لتكسير الاغصان، والهرب بما حملنا من زهر. وهذا ما حدث. عندها جن جنون العجوز، وقد تلبستها حالة هستيريا، فراحت تصرخ بنا بما استطاعت وترشقنا بالحصى. ومثل سرب طيور فزعة وقد أصيبت برعدة مفاجئة، ابتعدنا مذعورين.
لم يمض وقت طويل، عندما ارسلتني أمي لمنزلها بعد تلك الحادثة لأحمل لها بعض الفاكهة والقليل من” القاورما” (وهو نوع من اللحم الذي يطبخ ويحفظ لايام الشتاء الباردة).
حين وصلت، كان باب غرفة العجوز نصف مقفل وكان دخان ينبعث منها للخارج، عندها احسست برهبة في قلبي .
وعندما ناديتها بصوت عال مشوب بالرهبة، ردت هي بصوت خافت من الداخل:
ـــ تفضلوا، الباب مفتوح!!
دخلت؛ وجدتها مستلقية على فراشها الممدود في صدر الغرفة وقد كانت مريضة ترتعش من البرد .
خف شعوري بالخوف ،تنفست بعمق واقتربت منها وسألتها:
ـــ ماذا احضّر لكِ؟
عندها أشارت الى الطاولة ،
ومن هناك احضرت لها مخفض الحرارة والماء. ومن أبريق الشاي سكبت لها كوبا دافئا.
لحظة هممت مغادرة البيت، جاءني صوتها خافتا، رغم محاولتها أن يكون قويا واضحا:
ـــ اولاد هذه الحارة يبتغون قتلي. حاولت جاهدة أن أمنعهم من كسر اغصان البيلسان ولكنهم فعلوها وها هي مع كل غصن ينكسر، تنكسر شهور من عمري .
كانت تصدق بالاساطير حول تلك الشجرة كالهولنديين، لطالما كانوا يعتبرون كسر اغصان البيلسانة يجلب الجن ويسبب بقتل صاحبها .
كانت امرأة غامضة وحزينة تعرف الكثير رغم جهلها الكتابة والقراءة، لكنها كانت عجوز مختلفة.
وها هي اليوم، وقد غابت. الشجرة لا تزال تنشر عبيرها غير آبهة بكل الروايات والاقاويل التي تروى عنها.
رحلت تلك العجوز مثل الكثيرين من ابناء جيلها الذين عاصروا العهد العثماني والانتداب الفرنسي وعاشوا الجوع والتعب والفقر. مثلها كانوا يصدقون الشعوذات والاساطير. ومثلها كانوا يلجأون اليها لحماية انفسهم مما يجهلون.
(من مجموعتي..قصص من ضيعتي…)
رائعه سيدتى
كم كانت زكريات الطفوله عالقه فى زاكرتنا
إ نها ايامنا حياتنا التى تمضى ولاتعود
كم كانت اقصوصتك جميله
جمال قلبك