أدب وفن

كمْ أحنُّ إلى الطّفلِ الّذي يَسكنُني../أدب/الشاعر حسن علي شرارة

كمْ أحنُّ إلى الطّفلِ الّذي يَسكنُني..
فكمْ وكمْ مخرَ عبابَ البيادرِ، وامتطى (نورجًا) يجرُّهُ حمارانِ يسوقُهما رجلٌ يخالُ نفسَه قبطانًا يشقّ عبابَ البحرِ، وراكبُ النّورجِ خلفَهُ يدسُّ يدَهْ بالقشِّ؛ ليرسمَ خطَ الرّحلةِ كما لوْ أنَّهُ بمركبٍ ويدُهُ تلامسُ الماءَ كي لا يشعرَ بالدّوارِ!
وكمْ تعفّرَ بالتّبنِ، واعتلى الغمارَ والغلالَ، وامتشقَ (شاعوبًا) ليقذفَ بكومةِ برسيمٍ في جوفِ الدرّاسةِ!
وكمْ تأبّطَ سلّةً، وغدا في أوّلِ الغسقِ إلى كرمٍ بعيدٍ، وتسلّقَ شجرةَ تينٍ عسلانيٍّ، أو بقراتيٍّ أكوازُها تقطرُ عسلاً، أو تسلّقَ الصّخورَ ليلتقطَ عنقودًا حبّاتُهُ كاللآلئِ يختبئُ خلفَ أوراقٍ كأنَّها أكفٌّ منبسطةٌ لتقيَهُ منَ الشّمسِ، ثمَّ عادَ بالغلّةِ جاعلاً منْ أوراقِ التّينِ غطاءً للسلّةِ!
وكمْ جابَتْ قدماهُ (على طفشِ الشّوكِ) الرّوابي والوهادَ والحقولَ المخضرّةَ بحثًا عنِ (الفطاريشِ)، واستنشقَ رائحةَ التّرابِ المخضّبِ بأوّلِ زخّاتِ المطرِ!
وكمْ غمرتْهُ حقولُ القمحِ، وكانتِ السّنابلُ تعلو ناصيةَ رأسِهِ ليحظَى بـِ إصبعةِ (الزّينو) أو (الحشّي مشي) أو (شوكِ الجملِ) أو (السّكوكعِ)!
وكمِ استيقظَ (دغشةً) ليلمَّ قطراتِ النّدى عنْ أكمامِ الزّهورِ، وهو يغدو للقطيفة، ويُمضي طيلة النّهار يشكُّ أوراقَ التّبغِ بميابرِ الصّبرِ والأناةِ!
وكمْ عانى وهو يُبَعْوِرُ حبّاتِ الزّيتونِ، وحبَّ الغارِ، والزّعرورَ، وكبوشَ التّوتِ البرّيِّ الّذي لم يقدرْ أصحابُهُ على التقاطِهِ!
وكمْ قطعَ طريقَهُ قطيعُ ماشيةٍ جرّارٍ عندَ المغيبِ، وما زاحَ القطيعُ عنِ الدّربِ إلاّ بعدَما انهالتْ عليه العصا..!
وكمِ انتظرَ الدّجاجةَ لتضعَ بيضتَها؛ ليكونَ أوّلَ منْ لمسَها، وشعرَ بحرارتِها، وأدركَ أُحجيةَ منْ سبقَ ألبيضةُ ام الدّجاجةُ!
وكمْ أمسكَ بثوبِ أمِّهِ وهو يصطحبُها إلى دُكّانٍ، أو طاحونةٍ، أو معصرةٍ، أو جاروشةٍ، أو زيارةٍ عائليّةٍ!
وكمْ تعمشقَ شجرةَ سروٍ، أو كينا عشّشتْ في رواسيها الطّيورُ، واستيقظَ صباحًا على زقزقتِها، وتحوّلتِ الزّقزقةُ إلى زعيق حينَ يحتدمُ الصّراعُ فيما بينها منْ أجلِ الطّعامِ، أو المنافسةِ على الإناثِ!
وكمْ أثقلَ نومَهُ هديرُ ببورِ الكازِ الّذي كان وسيلةَ التّدفئةِ الوحيدةِ في أيّامِ البردِ!
وكمْ لملمْ (القشابيرَ) من (الحواكيرِ)؛ ليضعَها تحتَ الموقدةِ الّتي تعلوها حلّةُ الغسيلِ، وأمُّهُ ترمي بأكوامِ الملابسِ بداخلِها..!
وكمْ حملَ (المَنشلَ) والجرّة ليملأَها منْ عينِ القسّيسِ، وهو يرندحُ بالدّلعونةِ فيعطشُ ويشربُ الجرّةَ على الطّريق؛ ليعودَ ويملأُها ثانيةً!
وكمْ قرمشَ خبزَ الصّاجِ المحمّرِالمديوف بزيتِ الزّيتونِ وحبّةِ البركةِ، والمحشوّ بالقورمة، وكم التهمَ طعامَ مواقدِ الحطبِ، والقمحَ المسلوقَ في الخلقينةِ، والسّريسيرةَ بالسّكرِ، وكمْ شربَ المخيضَ، وكم تلذّذ بأكل (البأسمة)!
وكمْ تحمّلَ لأنَّ بيتَ أهلِهِ مقصدٌ للعابرينَ منْ كلِّ حدبٍ وصوبٍ، ووسائلُ نقلِهم الحصانُ، أو الحمارُ، ويكلّفونَهُ بربطه بعمودٍ، أو شجرةٍ لينضمّوا إلى المجلسِ!
وكمْ عانى وهو يقدّمُ لهمُ الاستكاناتِ، وهم يتلذّذونَ باحتساءِ الشّايِ المخمّرِ من سماورِ أبيهِ (مثنًى وثلاث ورباع)، وهو عبدٌ للضّيفِ ما دام ثاويًا وحاسيًا..!
وكمْ خفقَ قلبُهُ لطفلةٍ مغناجةٍ ترمقُهُ بحنوٍّ ومحبّةٍ، فغدتِ النّجومُ والقمرُ نُدماءَهُ، وسلوتُهُ صوتَ أغنيةٍ تصدح!
وكمْ راحَ يسبحُ في بحورٍ منَ الخيالِ لا يصحو منها إلاّ حينَ ينامُ القمرُ!
سقيًا لأيّامِ الطّفولةِ!
ليتَها تعيدُ طفلًا ضاعَ منّي!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى