(بوح مؤجل) والرؤية السردية المقترنة بمنطق جمالي في نصوص القاص حيدرعاشور
(بوح مؤجل) والرؤية السردية المقترنة بمنطق جمالي في نصوص القاص حيدرعاشور
علوان السلمان
النص السردي صورة من صور الوعي الاجتماعي الذي هو انعكاس للوجود الاجتماعي. وسيلته اللغة وغايته الإسهام في بناء الإنسان وتهذيب الذوق. اذ يتحول فيه المستهلك(المتلقي) الى فعالية مشحونة بالحركة والتساؤل. ببناء متماسك يكشف عن إتقان منتجه لفن اللعبة القصصية المبنية على الدقة والتناسب في اختيار الالفاظ مع فعل درامي خاطف واعتماد عنصر المفاجأة الأسلوبية الادهاشية. بتوظيف لغة موحية بالفاظها. مكثفة بجملها. محققة لمشهدها الذي يعرض جانبا مهما من جوانب الواقع اضافة الى اختزال الامتداد الزمني اللامحدود..
وباستحضار المجموعة القصصية (بوح مؤجل) التي نسجتها انامل منتجها القاص(حيدر عاشور). وأسهمت دار ومكتبة سبك في نشرها وانتشارها مطلع 2021. وقد سبقتها دار الينابيع للنشر والتوزيع في العاصمة السورية دمشق 2010 في طبعتها الأولى، ولحقتها دار لارسا في العاصمة العراقية بغداد بطبعة ثانية 2019.. لكونها نصوص ترصد الممكن وتزاوج بين الاتجاهات الفنية.. اضافة الى اعتمادها رؤية سردية محددة بمنطق جمالي يتواصل بمشهدية ترتقي من الحسي الى التخييلي عبر لغة مكثفة العبارة.. موحية اللفظ.. بعيد عن الضبابية والغموض من جهة.. وخالقة لصورها المستفزة لذهن المستهلك(المتلقي) ونبش خزانته الفكرية من اجل استنطاق عوالم النص والكشف عما خلف صوره من جهة اخرى.. ابتداء من العنوان العلامة السيميائية والايقونة الدالة بفونيمها المشكلان جملة اسمية كشفت عن ذات مأزومة..
(اطفأت النور وتركت جسدها المتعب يرتمي على السرير.. امتدت يدها دون شعورمنها الى المذياع فتدفقت الاصوات واختلطت الاذاعات: قررت القوات الامريكية سحب آخر لواء لها عبر الأراضي العراقية تطبيقا لاتفاقية الانسحاب. ادارت موجة المذياع: الفيضانات تشرد سبعة ملايين من سكان باكستان.. الحرائق تجتاح روسيا والخسائر تقدر بثلاثمائة مليار.. وخشية من وصول النيران الى المحطات النووية.. تهريب آثار عراقية عبر دول الجوار.. استوقفها الخبر الاخير وبدأت الافكار والتداعيات تكبر كدوائر الماء في محيط عقلها وتذكرت وهي تخرج من الجامعة تلك اللافتات الصغيرة المعلقة على الجدران او قرب مظلة وقوف السيارات وقد كتب عليها كلمة واحدة(فقدان): فقد شخص يدعى(ناظم مراد) يبلغ من العمر حفنة من الضياع ويرتدي الوجع اليومي…فمن يعثر عليه يرجى تسليمه الى اقرب دورية للقوات متعددة الجنسية..) ص15..
فالسارد في نصه يحاول استنطاق اللحظات الشعورية عبر نسق لغوي قادر على توليد المعاني من اجل توسيع الفضاء الدلالي للجملة السردية.. اذ انه لا يستغرق الحلم ولا تنعزل ذاته عن العالم الخارجي من خلال توظيفه الفاظا مليئة بالحركة. مكتنزة بالصدق. خالية من امية الكلمات والابتذال..تحمل بين طياتها ثقافة واعية تتكىء على واقعية خلاقة باسلوب فني ابداعي. يبحث عن جوهر الكلام من خلال الظواهر أي انه يربط ربطا جدليا بين الذات والموضوع باسلوب سهل ممتنع يجبرك بعد ان يشدك بقوة فتنحاز اليه. كونه يكتب بوجدان يستوعب الحياة ومن يتنفس عليها بصدق وبنفس متناغم. شفيف يدغدغ مشاعر متلقيه ويجعله جزء من النص القائم على الاضاءة المكتنزة فكريا ووجدانيا والمتكئة على ضوابط فنية وبنيوية معبرة عن لحظة شعورية مكثفة..خالقة لحقلها الدلالي لتحقيق زخما من التكثيف الاسلوبي والفني المؤثر في ذهن المستهلك(المتلقي)..
(ها قد عبرت فوق عشرات المدن والانهار وكل انواع التضاريس ووشمت بخطوتي كل الحدود. ودفنت روحي في صالات الانتظار في مختلف مطارات العالم. فمنذ خمسة وعشرين عاما وأنا اصلب في الاجواء والترحال الدائم حتى اصبح جسدي حقيبة عتيقة احملها رغما عني بحثا عن المجهول..) ص94..
فالنص تعبير مقتضب عن لحظة انفعالية بايجاز وتكثيف جملي متميز بعمق المعنى واعتماد النزعة البلاغية وتقنية الانزياح. اذ يحاول القاص ان يقدم صورة مشهدية تجمع بين المعنيين الذهني والحسي مع غرائبية ادهاشية لتحقيق العمق التصويري بكل ابعاده التي تكشف عن الذات لتحفيز اثرها في ذاكرة الآخر بحوار ذاتي (منولوجي) واثبات كينونتها عبر صورها المتميزة بصفات دلالية منبثقة من نسيج. مكتنز بطاقة ايحائية متمردة على واقع يعيش لحظات الانكفاء على الذات….
(عامان من الخسارة ثم ينتهي كل شيء واصبحت زيارته تتكرر الى الزميلة هدى وقد ادمن تعاطفها معه وبات لا يستطيع حراكا حتى سمع كلماتها وهي تهون عليه الامر حتى دست اليه في يوم ما ورقة تحمل رقم هاتفها بعد ان اخبرته بأن زيارته المتكررة بدأت تثير الريبة..وتواصل معها ونسي حلمه القديم وقد استغرق في ادمانه الجديد..) ص75
فالنص يختزل الوجود القائم على الثنائية ويتتبع تفاصيل الهاجس الوجداني بمفردات الواقع الممزوج بالخيال لخلق صورة حركية.. مركزة مختزلة.. نابضة بالفعل الدينامي والتوهج الوجداني والتفاعل الحركي مع استثمار الاساليب البلاغية (الاستعارة والمجاز..) لخلق عوالم تفهم من السياق والدلالات السايكولوجية والسوسيولوجية من اجل انتاج المعنى..اضافة الى ان السارد يترجم احاسيسه وانفعالاته بنسج ايحائي يحقق وظيفته من خلال الفكرة والعمل داخل اللغة عن طريق خلق علاقات بين المفردات بوحدة عضوية متميزة بعالمها المتناسق جماليا مع دقة تعبيرية مكثفة..اضافة الى توظيفه تقانات فنية محركة للنص كالتنقيط (النص الصامت) الدال على الحذف(المسكوت عنه).. والرمز السمة الاسلوبية التي تسهم في الارتقاء بالنص واتساع مساحته الدلالية..
وبذلك قدم المنتج(القاص) نصوصا امتازت بسردية عمودية تركز على نمو الشخصية والحدث عبر الحالة النفسية مع تكثيف المعنى لتعميق الدلالة.. اضافة الى انساقها اللغوية المثيرة للاسئلة بتوظيف لغة تصويرية تستمرىء التفاصيل النابضة بالحياة..
..