هذه الجنة ليست لي
نهيد درجاني
هذه الجثة ليست لي
على صدري بَلاطَةٌ ، كأمشي وقبري يمشي معي .
لم آتِ لاموتَ بالنيابة عن أحد ،
ولا لأجل أحد ،
لم تستهوني فكرة الفداء يوماً ،
أجمل ما في العالم أشرارُه الملاعينُ الحرابقةُ المهضومون ،
الذين يشيلون الهمَّ عن القلب بتفليسة واحدة ، بقنبلة واحدة ، بضرطة واحدة ،
لا وقتَ عندي الان لأموت ،
أعيش على اللسِّ على الدَّسِّ ،
أنمُّ على حالي ،
أدّعي على شفتي العليا بتهمة اللحس ، وعلى لساني بجريمة اللّعاب ،
أقعد على إسمي ،
أفزُرُهُ ،
أمسحُ زومَهُ حين أهمُّ بالوقوف ،
ما احترقت بصلةٌ في مقلاة عمري لأسباب عابرة ،
زيوتُ الاسئلة كانت دائما حارقةً خارقة متفجرةً كطلقة ترتدي قبّعة ملوّنةً تثقب رأسي من ميلٍ الى ميلٍ .
كانت الحيّةُ واقفةً على ذنَبِها ،
وكان صحني فائضاً بقشّ الحيرة ، وكأسي مترعةً بسمّ العناكب ،
من حول هذه المائدة أتقدّم باستقالتي
فيا سادتي
لا تخطئوا باسمي ،
للأسماء بصماتٌ تحتاج لفركٍ ودعكٍ كثيرٍ كيلا تخرجَ عن طورها ،
وأنا لا أطيقُ الاسماءَ الطنّانة الرنّانةَ البصّاصةَ ، خَرَزَ الكتابةِ المكشكشَ ،
أميل للتوقيع بالأحرف الأولى على نصٍ بلا رصيد ،
بالاسم المستعار على المديح في ولادة عنزة ،
الاسماء أجمل ما في القبور ،
أنقشوا إسمي كيلا أنسى بانني مِتُّ .
انا قتيلٌ متقاعدٌ أجادل قارعة الحياة في مراسم جنازتي ،
أحتاج لمذهب معترف به كيلا أُرمى كفضلة عشاء ،
أحتاج لأرملة وأقاربَ وأصدقاءٍ وحبيبةٍ يتقطع قلبها سرّا لتكتملَ فرحتي ،
أحتاج لحزنٍ جِدِّيّ على حالي ،
أرغب بالرحيل منتصراً على تلك الممحونةٍ التي كانت تميد تحت عقلي وغرائزي بميوعة وتحلم بغدٍ أفضل ،
أرغب بالموت مرفوع الرأس منتصراً على تلك الكرتونة المهلهلة التي كُتب عليها :
حياة .
كان اسمُها سماوياً أرضياً كونياً طناناً رناناً ،
ما جاء نبيٌ وما فبرك لها أسساً ،
وما جاء عالم وما دحش أنفَه في مسامّ جلدها وجلدتها ،
وما حلّ وباءٌ وما بلّ يدَه فيها ،
الحياة التي أحبّها، ذرةٌ مشويّةٌ عالقة في الامعاء الدقيقة ،
شعرُ العانة في صيف رطب ،
الحياة التي جاءت بي من باب المُستَريح ،
الحياةُ التي أربحتني جميلةَ النملِ ومِنّةَ الحصان ،
لا أحبّها ،
الحياة الفجعانةُ المتمترسةُ اللاطيةُ تحت ارادةِ خالقها
حياةُ ال إشْقَ يا عبدُ لأشقى معك ، فيما يقتاتُ النّمشُ أغلالَ المساكين في جلدي ،
حياةُ الولدِ الشّاطرِ الذي يأكلُ الحيّة بقشرها ، ويمسحُ بكُمِّه فروجَ النساء ،
الحياةُ المعتّرةُ المشحّرةُ المكدودةُ بالعرَقِ ، واللقمةُ المغمّسةُ بالدمِ .
لا أحبّها .
قالت تنفّسْ ،
فتنفّسْتُ ،
واخلعْ حفّاضَ عجيزتك وامشِ ، فمشيتُ ،
صلّيتُ حتى صارت قامتي بطول نُخيلةٍ هززْتُ ظلَّها وهزّني حتى انقضتْ نهاراتٌ كثيرة ،
عشقْتُ حتى تعرّقَتْ ليلاتٌ من نزقي ،
كتبْتُ حتى انبجّ الورقُ من اقلامي ، وتخدّرتْ مناقيدُ القيقان من تخثّر دمي ،
الحياةُ التي لا أريد منها شيئا ،
ماذا تريدُ مني ؟
لو متُّ
لا أرغب بجنازة حامية ،
ضعوا جثتي في كيس نفايات اسود ، واعقدوه جيدا ،
بي غازات كافية لخلاص نفسي ،
لو مِتُّ
ضعوا مخدّة سميكة تحت عنقي ،
ماذا حين ينشفُ في عروقي الدّمُ ،
ماذا حين تجفُّ في نُفّاخِ خصواتي المياه ،
ماذا حين تتيبّسُ أطرافي وأبلعُ لساني .
اليمامةُ لا تلزمها هذه الدَكَّةُ من الخردق والبارود ،
فقشةُ قبلةٍ بالهواء ترديها ،
انا لستُ من دعاة السلام ،
لو أتتني السانحةُ ، إلهَ الحرب كنتُ ،
وبنفخة بوقٍ حشرتُ العالم في سهل فيه من الاوبئة واللهب ما يكفي كيلا يخرجَ منه ناطقٌ ،
آمنتُ بالله كثيراً مع أنّ وَسامةَ عينَيه لم تكفِ يوما لإلتقاطِ صورةٍ لي .
ألوانُ الطّيفِ لا تليق بي ،
فأنا وُلِدتُ في زمن الاسود والأبيض ،
ثبَّتوا مفاصلي كصنمٍ كيلا تهتزّ صورتي ،
كبرْتُ كما التماثيلُ في الساحات تراقبُ العابرين ،
مصَعَ اليمامُ عند فروتي ، ثم كشحوا الأصنامَ عن جسدي كاللحاء .
فلتشرقِ الشمسُ مرة لأجلي ،
ولتغبْ لي ،
أمدُّ لها سُفرةً بطول يوم ،
ولتنقرْ زنادَ عمري ،
لن أحيا داجناً
لن اموت برّياً ،
يوم القيامة لو سالني الله عن تلك النظرة المحفورة في نخاعي الشوكي سأقول له ،
هذه الجثةُ
ليست لي .
شاعر و أديب لبناني