الثقافة أول وآخر خطوط الدفاع

الثقافة أول وآخر خطوط الدفاع
كتب الشاعر مارون أبو شقرا :
زارني الصّديق الشاعر الدكتور ابراهيم قاسم عوده الصّوريّ المتأثّر برؤى الإمام موسى الصّدر، والجميل المتنوّر، والمهذّب المثقّف، المتجاوز جدران العصبيّات المقيتة، فكانت أحاديث في مواضيع مختلفة، وللصّديق ابراهيم تقدير كبير لما قدّمه اللبنانيّون المسيحيّون لوطنهم وللمنطقة العربيّة من عطيّات كبيرة في مجالات الثّقافة والحرّيّات وهو يرى أن الإنجازات الثقافيّة العظيمة التي أبدعها لبنان كانت في معظمها من صناعة المسيحيّين…
ومن جملة ما تطرّقنا إليه مسألة الواقع الثّقافيّ في لبنان اليوم، وكانت لي هذه الرّؤية:
واقعًا، يتصدّر الشّيعةُ في لبنان اليوم المشهدَ الثّقافيَّ كمًّا ونوعًا، مستحوذين عن جدارة على المساحة الأكبر من هذا المشهد، وهذا برأيي نتيجة استراتيجيا وضعها ح. ز. بُ الله، غايتها بناء مجتمع مثقّف صلب قويّ جادّ عارف م ق ا و م يصعب اختراقه. فالحزب يدرك تمامًا أهميّة دور الثّقافة في عمليات الاستنهاض والاستقطاب والمناعة.
وفي مقابل التّقدّم الثّقافيّ الجادّ والبنّاء لدى الشيعة، نلاحظ تراجعًا وتراخيًا وانحلالًا مسيحيًّا مخيفًا وانحدارًا مدمّرًا، بعد أن كان المسيحيّون روّاد نهضة وصنّاع شرر وقادة إبداع، وبرأيي، أن لهذا التراجع الخطير أسباب، وفيما يلي أهمها:
في مكتب أبيض خبيث، قرّر يومها مجتمعون برئاسة وزير خارجيّة الولايات المتّحدة الأميركيّة، هنري كيسنجر، استئصال المسيحيّين من لبنان، وترحيلهم غربًا إلى بلاد الله الواسعة، لتوطين الفلسطينيّين مكانهم، من أجل إراحة “إسرائيل” من همّ الشّتات الفلسطينيّ وكفاحه المسلّح، ومن ضغط الإنجاب المتزايد في الأرض المحتلّة. كان ذلك في أوائل سبعينات القرن الماضي، حيث أوفد كيسنجر مبعوثًا من قبله يدعى دين براون ناقلًا رسالة للرّئيس الراحل سليمان فرنجيّة بهذا الخصوص، وكان أن فضح الرّئيس فرنجيّة ما دار في خلال الاجتماعات مع براون.
المخطّط كان استئصال المسيحيّين، والميزانيّات خُصّصت، وعشرات مليارات الدولارات اليهوديّة وغير اليهوديّة رُصدت، والبواخر تنتظر الإشارة للإبحار من أجل ترحيل الناس. وكان ردّ القادة المسيحيّين، والمجتمعين في قصر الرّئاسة اللبنانيّة مع دين براون، سنقاتل باللحم الحيّ «حتّى آخر نقطة دم» كما ذكر الرّئيس الرّاحل فرنجيّة حرفيًّا.
المشروع هو الاستئصال، والأموال موجودة بوفرة.. ولمّا كان إفراغ لبنان من مسيحيّيه هو الهدف، ولمّا رفض القادة المسيحيّون هذا المشروع، ذهب أصحابه باتّجاه إنهاك البيئة المسيحيّة ليسهل تنفيذ المشروع، فكانت الحروب والتّهجير والدّستور العجيب، والطّائف المشؤوم والمطبّق استنسابيًا كغيره من القوانين، والتّجنيس المخالف لوثيقة الاتّفاق، والحصار الاقتصادي، والإنفاق المخالف لأبسط قواعد التّناسب مع الجباية، والتجويع، وقوانين الانتخاب الجائرة، والممارسة الكيدية والعزل من النّظام السياسي والإدارة… ولمّا كان أصحاب المشروع يدركون أهميّة الإنسان في عمليّة الصّمود، كان التّدمير الثّقافيّ أحد الأسلحة المُستخدَمة لغاية الإنهاك وصولًا إلى الاستئصال.
أن تقضي على مجتمع ما، عليك أن تقضي على بناه التّحتيّة والفوقيّة في آن، لا سيّما بنيته الفوقيّة المتمثّلة في الفكر والثّقافة.. والثّقافة هي تلك القوّة القادرة على إعادة ترميم ما قد يخسره مجتمعٌ في العسكر والسّياسة والاقتصاد…
مع مطلع الحرب، أنشأت الميليشياتُ المتحاربة وسائلَها الإعلاميّة، لمعرفتها الأكيدة بأهمية الإعلام ودوره، في عمليّات الاستقطاب والنشر (والتّضليل عند الحاجة)… في أواسط الثمانينات ظهرت في البيئة المسيحيّة وسائلُ إعلام مكتوبة ومسموعة ومرئية حصدت أعلى نسب متابَعة لسنوات. وغنيّ عن القول أن كلّ وسيلة تستهدف محيطها أوّلًا وتتوجّه إليه، وأن ذروة قدرتها التأثيرية تكون في البيئة التي منها انطلقت…
لا ثقافة بدون نشر، ولا نشر فعّال بدون إعلام…
تخلّت الأحزاب المسيحيّة المسيطرة (صاحبة المؤسسات الإعلامية الأقوى والأكثر فاعليّة) لسبب غير مفهوم يثير الرّيبة، عن دورها الثّقافيّ، وتسلّم قيادةَ المشروع التّثقيفيّ التّوجيهيّ في البيئة المسيحيّة سمسارٌ همّه الرّبح الماديّ، وانخرط بقصد أو بغير قصد، عن معرفة أو عن جهل، في عمليّة تسطيح للعقل وتخريب ممنهج للذّوق العام، فقاد الناس تحت عنوان التّرفيه والسّهولة والتّنفيس والتّسلية، نحو السّخافة، بعد أن فرض ”ثقافته“ ونمطه على كامل البيئة وإعلامها، وتبِعَتْهُ جميع الوسائل العاملة في ذلك المحيط، تعيث فسادًا في أذواق الناس، وتدمّر آخر معاقل المناعة المتأتّية من قوّة الصّمود النفسيّ والحسّيّ والجماليّ في دواخلهم، فنقَلَتْهُم من عالم الجمال إلى عالم البشاعة، ومن المسرح العظيم الجادّ إلى علب التّهريج اللّامسؤول، ومن المقالة الهادفة إلى الرّغوة المائعة الفارغة، ومن القصيدة الرّاقية القائدة الرّافعة المُرَقّية إلى الابتذال والإسفاف والضّحالة، ومن الكتاب الغنّي والفكرة الولّادة المضيئة المشعّة إلى السّذاجة والهراء، ومن التعبير الفنّيّ النبيل اللطيف إلى همجيّة مُريعة، ومن الفكر الخلّاق وصراعه البنّاء إلى اللّغو الفارغ القائم على تحفيز الغرائز واستجداء الإعلان، ومن جوّانية الرّوح إلى برّانية المظاهر الخدّاعة والجفاف والخراب وعري الشّكل والمضمون، ومن الخير والجمال العاقلَين إلى البلاهة والتّفاهة..
في المقابل (والمقصود هو إظهار التّناقض في السلوك لا التّنافس على قاعدة التّوتير والإلغاء) عمل ح.ز.ب الله -ضمن ما يعتبره الحدود الشرعيّة من منظوره العقائدي الإيماني، مثل الموقف من بعض الفنون لا سيّما غناء النّساء والرّقص وبعض أصناف الموسيقى- على تأهيل البيئة الشيعيّة لتتقبّل العميق الجميل الغنيّ الرّاقي وتنبذ التّافه السّاذج الغثّ، مع إدراك الحزب المسبق أن الثّقافة الجادّة وما يستتبعها من نقد وتثاقف وحراك فكريّ وإبداعات وإنتاجات كتابيّة قد يتضمّن بعضها محتوى لا يتوافق ورؤية الحزب الإيديولوجيّة، ورغم ذلك، اجتهد من أجل بناء أسس قويّة تقوم عليها هذه النّهضة الثّقافيّة…
فوضع ما استطاع من إمكانيّات بتصرّف مشروع ثقافيّ رفع الناس وشغلهم بما هو بنّاء ومثمر، والمشهد ماثل أمام أعيننا بوضوح تام….
لذا، ولمّا كان الوجود المسيحيّ في لبنان ضرورة وطنية، وصمّام أمان، وعامل أساسيّ جعل من وطننا «نطاق ضمان للفكر الحرّ»، وإن كانت النصيحة تُسمع والوقت لم يَفُت، فإنّ المطلوب إعلان حالة طوارئ ثقافية في البلاد، وبانهيار اقتصادي وبدونه، على المجتمع اللبناني بأسره، إعادة النظر في مسألة الثّقافة والتّوجيه، انطلاقًا من وسائل الإعلام، ودوائر الأحزاب والنقابات والجمعيّات، ومؤسسات الدولة، وصولًا إلى البيت والمدرسة والجامعة وكلّ الفضاء العام، علّنا ننقذ ما يمكن إنقاذه…
في 02 تموز 2023