أدب وفن

رؤية مختلفة إلى إِرْهاصاتِ النَّهضَةِ فِي الشِّعرِ العربيِّ في القَرْنِ التَّاسِع عَشَر (الحلقة الثَّانِيَة) الشِّعر العربي والقرن التَّاسِع عشر

الدكتور وجيه فانوس
دكتوراه في النقد الأدبي من جامعة أكسفورد

الشِّعر وبيئته


لئن كان الشِّعر، بصورة عامَّة، تعبيراً كلاميَّاً فنِّيَّاً يصدرُ عن الشُّعراء ويتلقَّاهُ الجمهور؛ فالشِّعرُ يصدر، كما يتمُّ تلقِّيه، عبر أُناسٍ هم أبناء بيئاتٍ زمانيَّةٍ ومكانيَّةٍ مُعَيَّنةٍ، لها خصائص وميِّزاتٍ محدَّدةٍ. والشِّعر يبقى، في هذين الحالين من الإرسال والاستقبال، إبنٌاً شرعيٌّا لبيئته ومُصَوِّراً فذّاً لما فيها؛ أكانَ، في هذا، مُرَسِّخاً لِما في هذه البيئات مِن أمورٍ أو معارضاً لها، مُتصالحاً معها أو ساعٍ إلى تغييرٍ لبعضِ ما فيها أو كُلِّهِ. فالشِّعرُ، ابنٌ شرعيٌّ لبيئته، نابعٌ فذٌّ من صميمها. و لا يَشُذُّ الشِّعرُ العربيُّ، في القرن التَّاسِع عشر الميلادي، عن هذا الفَهم على الإطلاق؛ إذ إنَّه صادرٌ عن شعراء هم مِن ناسِ الزَّمانِ والمكانِ العربيينِ لتلكَ الحقبةِ مِن التَّاريخ. والشِّعرُ العربيُّ، في هذا القرنِ، كما هوَ في سواهُ، تعبيرٌ عمَّا أرادَهُ شعراؤه مِنه، مِن مواقفَ نَبَعَت مِن المكانِ والزَّمانِ اللَّذين عاشوا فيهما؛ فكانَ مِن هذهِ المواقف، ما هو إيجابيٌّ أو سلبيٌّ، مِن مكوِّنات تلك المرحلة وأمورها؛ كما كانَ منها ما هو تَوافُقيٌّ معها، أو ساعٍ إلى تَصالُحٍ أو رَفْضٍ ما ضمنها، أو عَبْرَ ما اعترضَ وجودَها أو نَبَعَ مِنه، بتأثيرٍ مِن وافدٍ غريبٍ أو ناتِجٍ مَحَلِّيٍّ جديد. المُهمُّ أنَّ الشِّعرَ لا يقدرُ إلاَّ أنْ يكونَ نِتاجاً حيَّاً حقيقيَّاً لواقعِ ناسِهِ وطبيعةِ أحوالِهم. فالشِّعرُ، وحتَّى في أقصى حالتِهِ المُغْرِقَةِ في الخَيالِ أو التَّوَهُّمِ أو الشَّطحِ أو التَّحَذْلُقِ أو التَّكلُّفِ أو سِوى ذلك، لا يمكنُ أنْ ينطلقَ إلاَّ مِن واقعٍ حَقيقيٍّ، ولا يتفاعلَ إلاَّ عَبْرَ هذا الواقعِ بالذَّات. ومِن هُنا، يأتي مَسارُ استعراضِ مَحَطَّاتٍ بارِزَةٍ مِن مَسيرَةِ الشِّعرِ العَرَبِيِّ في القَرْنِ التَّاسِعِ عَشَرِ؛ عَبْرَ تأسيسٍ مُجْمِلٍ لواقِعِ الحالِ في تلكَ المرحلةِ، يكونُ إِجْماله هذا دليلاً لرؤيةِ ما صدرَ عن ناسِهِ الشُّعراء مِن شِعرٍ في ذلكَ الزَّمن.


الشِّعر والوَاقِعَين المَعرِفِّي والثَّقافيِّ

يرى جمهورُ المؤرِّخينَ أنَّ الفِكرَ العَرَبِيَّ، مُنذ القرنِ الرَّابعِ عَشَرَ الميلاديَّ وحتَّى نِهايةِ القرنِ الثَّامِن عَشَرَ ومَطلعِ القَرنِ التَّاسِعِ عَشَرَ الميلادِيَّيَنِ، “أخذته سُّنَّةٌ من النَّوم، فانقطعت فاعليَّتهُ وانعدمَ نشاطُهُ وانكفأ على نفسهِ وقبعَ في حجرِهِ واكتفى بقوقعته” (نقولا زيادة، الأعمال الكاملة (15): شامِيَّات ص. 225). لَقَد قنعت مراكزُ العِلم مِن مراكِش إلى القاهِرَة، مروراً بِفاس وتُونس وزلَيْطِن، مِن المعرفةِ والثَّقافة، بقراءةِ علومِ الدِّينِ واللُّغَةِ عن طريقِ المُلَخَّصَاتِ والشُّروحِ المُشَوَّهة لا الأصول، وغابت عن نشاطاتِ ناسِ تلكَ المراكزَ اهتماماتُ البحثِ في القضايا الجَوْهَرِيَّةِ في موضوعاتِ الفِكرِ والإشكالاتِ الجِدِيَّةِ في مجالاتِ الدِّين، ناهِيكَ بالمَسائلِ التَّجدِيدِيَّةِ أو الإبْداعِيَّةِ في حقولِ اللُّغَةِ والأدبِ والفنونِ.


لعلَّ في ما يُمْكِنُ أنْ يُذكُرَ عَن تُونس، بالذَّاتِ، في هذا الشَّأنِ، ما يكادُ يَنْطَبِقُ على سائرِ أرجاءِ العالَمِ العَرَبِيِّ في تِلكَ الحقبةِ مِن الزَّمنِ، ومِنها مَرْحَلةُ ما يُعرفُ بـِ”العصرِ الحُسَيْني”. “الحُسَينيُّون” سلالةٌ مِن الحُكَّامِ في تُونس؛ عُرِفَ واحِدُهم بـِ”البَايْ”؛ و”بَايْ” لَفْظَةٌ تُرْكِيَّةُ الأصلِ، هي “بيه” أو “بِكْ”، وتَعني “السيَّد” أو “الأَمير”؛ وهو في تُونس، والي تُونس المُمثَّل للدَّولةِ العُثمانيَّة، مَقَرُّهُ في مدينة تُونس. كانَ حُكمُ “البَايات”، وِراثيَّاً مَلكِيَّاُ، اسْتَمَرَّ لِـِمئَتَيْنِ واثْنَيْنِ وخَمْسِينَ سنةً، وانتهى بِتأسيسِ الحُكْمِ الجُمْهورِيِّ في 25 تمُّوز (يوليو) سنة 1957، إِذْ أصبحَ “الحبيب بورقيبة” أوَّل رئيسٍ للجُمهورِيَّةِ التُّونسيَّة. استمرَّ حُكمُ “البايات” مِن سنة 1705 إلى سنة 1957.

الباي حمُّودة باشا بن علي


أدَّت المُنازعاتُ العائِليَّةُ، التي عرفَتها دولةُ الحُسينيِّينَ في تُونس، في عَهْدِ (ابن أخ المؤسِّس) “علي باشا” (1735-1756) إلى نشوءِ وصايةٍ جزائريَّةٍ على تُونس. ويعتبرُ عهدُ “علي باي بن حُسين” (1759-1782) ثم عهدُ “حمٌّودة باشا بن علي” (1782–1814) مِن العهودِ الذَّهبيَّةِ في تُونِس، إذْ اكتملَ في عهديهما استقلالُ البلدِ سنة 1807، وأصبحت تُونس فيهِ دولةً كاملةَ السِّيادة. لقد بَدَأتْ في هذهِ الحقبةِ مساعي إحياء عروبةَ البلادِ، بمحاولاتِ إحياءِ الثَّقافةِ، كما جرى إدخالُ نظامٍ تعليميٍّ أشرَفَتْ عليه الدَّولة.
أصبحت تُونس، بعدَ أنْ قامت فرنسا باحتلالِ الجزائرِ، سنة 1830، تحتَ سلطةِ القوى الأوروبيَّة؛ وأصبحَ اقتصادُها مرتبطاُ بقوَّةٍ بالدُّولِ الأوروبيَّةِ؛ وقد حاولَ “أحمد باي” (1837-1855) ثم “محمَّد الصَّادِق بِن حُسين” (1859-1882)، القيامَ بإصلاحاتٍ على الطَّريقةِ الأوروبيَّة.
صارتِ الدُّولُ الأوروبيَّةُ، ابتداءً مِن سنة1869، ذاتَ تدَخُّلٍ مباشرٍ في تدبيرِ الشُّؤونِ الماليَّةِ في تُونس، كما جرى تعطيلُ الإصلاحاتِ السَّابقة. أصبَحت تُونس، بموجب “معاهدة باردو”، في سنة 1881، خاضِعَةً لِلحمايَةِ الفرنسِيَّةِ؛ فتأرجَحَت سياسةُ “الباياتِ” بينَ الإملاءاتِ الفرنسيَّةِ ورغبَتِهِم في دَعمِ المطلبِ الشَّعبِيِّ المُتَمَثِّلِ بـ”الاستقلال”. (ياغي وشاكر: تاريخ العالم الإسلامي: 94-104)
كانَتْ تُونس، مُنذُ مَطْلَعِ القرنِ الثَّامِنِ عَشَرِ وحتَّى مُفْتَتَحِ العَصْرِ الحُسَيْنِيِّ (في القَرْنِ التَّاسِعِ عَشَرِ)، لا تَختلِفُ عَن سائِرِ الوِلاياتِ العُثْمانِيَّةِ في الجُمودِ الاستِدلالِيِّ والرُّكودِ الفكريِّ والكسادِ الأدبيِّ؛ فما كان فيها مِن المعارفِ، قديمٌ تطوَّرَ في زَمَنٍ مَضى وبَقِيَ على حالِه. وهذا القديمُ لا يتعدَّى الدِّراسات الفقهيَّةِ واللُّغويَّةِ وحواشي الكُتُبِ القَديمَةِ وما وُضِعَ عليها مِن الشُّروحِ. وكانت الدُّروسُ غيرَ مَضْبوطَةٍ ولا مُنَظَّمَةٍ. وغايةُ ما يَحْصلَ عليهِ التِّلميذُ في المرحلةِ الابتِدائِيَّةِ كانَ قِراءَةَ القرآنِ الكَريمِ وتَجْويدِهِ وحِفْظِ بَعضِ المُتونِ؛ ويكونُ هذا في الكَتاتِيبِ، يليها التحاقُ التِّلميذِ بالمَرْحَلَةِ الثَّانَوِيَّةِ، وهذهِ كانَ مَجَالُها الزَّوَايا والمَدارِس.



أمَّا العلومُ التي تُدَرَّسُ، فعلومٌ نَظَرِيَّةٌ مَقْصورَةٌ على الفِقْهِ السَّالِفِ والأصولِ والتَّفسيرِ والبلاغةِ واللُّغَةِ والتَّاريخِ. ولَمْ يَشْهَدْ العَصْرُ الحُسينيُّ أثراً للدِّراساتِ التَّطبِيقِيَّةِ كالرِّياضيَّاتِ أو الطُّبِ، الأمرُ الذي نَتَجَ عنهُ رُكُودٌ فِكْرِيٌّ عام.(الهادي حمودة الغزي، الأدب التونسي) وكأنَّ العالَمَ العَرَبِيَّ، في تلكَ المرحلةِ مِن تارِيخِهِ الفِكْرِيِّ، كانَ بِمَنْأى عَن الحَرَكِةِ التي نَشَطَتَ، زَمَنذَاكَ، في العَالَمِ الغَرْبِيِّ، حيثُ كانَ الفِكْرُ الإنْسانِيُّ هناكَ “يَسيرُ قُدُمَاً في نَهضَتِهِ وإصْلاحِهِ الدِّينيِّ وكُشُوفِهِ الجُغْرَافِيَّةِ وإِحْيائِهِ الآدابَ القَديمَةَ وتَعبيرِهِ عَن مشاكِلِهِ الجَديدَةِ وكَشْفِهِ بَعضَ نَوامِيسِ العُلومِ الطَّبِيعِيَّةِ” (زياده: شاميَّات، ص. 225).
(وإلى اللِّقاء مع الحلقة الثَّالِثة “إرهاصات عامة للنَّهضة العَرَبِيَّة في القرن التَّاسِع عَشَر”)


مكتبة الدِّراسة:
• إسماعيل أحمد ياغي‎, محمود شاكر، تاريخ العالم الإسلامي الحديث والمعاصر : قارة إفريقية : الجزء الثاني: 1492-1980، منشورات العبيكان، 2008.
• نقولا زيادة، الأعمال الكاملة (15): شامِيَّات – دراسات في الحضارة والتَّاريخ، إصدار الأهليَّة للنَّشر والتَّوزيع، بيروت، 2002.
• الهادي حمودة الغزي، الأدب التونسي في العهد الحسيني 1705-1880 ، منشورات الدار التونسية،‮ 2791.‬‬

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى