الرَّائد العصامي الشيخ أحمد عباس الأزهري (1853-1926) – (الحلقة 10)
الدكتور وجيه فانوس
الصَّدر الأعظم محمَّد كامل باشا
أضاف «الأستاذ الرَّئيس الشَّيخ أَحمَد عبَّاس الأَزهري»، إلى اهتماماته التَّعليميَّة والتَّربويَّة، يوم صار في الثَّالثة والخمسين من العمر، اهتماماً علنيَّاً بالشَّأن الوطنيِّ في بلده؛ فأصدر، سنة 1909، مع إبنهِ «كمال عبَّاس»، جريدةً أسمياها «الحقيقة»؛ وكانت، على ما يبدو، لها مطبعتها الخاصَّة (مصطفى فروخ: 35) وموقعها بالقرب من محطَّة السِّكة الحديديَّة (عمر فروخ: 23) ؛ واستمرَّت هذه الجريدة في الصُّدور، حتَّى بعد وفاة «الأستاذ الرَّئيس»، فكان توقُّفها سنة 1948. لعلَّ الأمر، يبدو أكثر وضوحاً، إذا ما كانت الإشارة، ههنا، إلى توجُّه واضحٍ، لجريدة «الحقيقة»، في الدَّعوة إلى تأكيد الحقِّ العربيِّ وانميازه؛ ولكن ضمن دولة الخلافة العثمانيَّة. ولعلَّ الانطلاقة العلنيِّة، في مجالات هذه الدَّعوة، إلى تأكيد الحقِّ العربيِّ في الشَّان السِّياسيِّ العام في بيروت، قد استُهِلَّت مع هذه الجريدة، منذ زمن تأسيسها. ويبدو أنَّ ثمَّةَ تجاوباً من قِبِل «الأستاذ الرَّئيس»، في هذه المرحلة، مع توجُّهات «حزب الحريَّة والائتلاف»، (Hürriyet ve İtilâf Fırkası)، الذي برز، سنة 1909، ثاني أكبر حزب في البرلمان العثماني؛ وقد دعا، هذا الحزبُ، في برنامجه السِّياسي، إلى العمل بموجب التمسُّك بـ «الخلافةِ العثمانيَّة» واعتماد «اللاَّمركزيَّة الحكوميَّة» والاعتراف بـ «حقوق الأقليَّات العُرقيَّة» (خازم:250).
تأسَّس «حزب الحريَّة والائتلاف»، في الدَّولة العثمانيَّة يوم الثُّلاثاء في 21 تشرين الثَّاني سنة 1911؛ وكان يُعرف من قبل، باسم «الاتِّحاد الليبرالي» أو «الائتلاف الليبرالي»: (126Taube)، إذ كان حزباً سياسياً عثمانياً ليبرالياً إبَّان ما يُعرف بـ «الحقبة الدستورية الثانية»، زمن «المشروطيَّة الثَّانية»؛ وهي الحقبة التي بدأ فيها، يوم الجمعة في 24 تموز (يوليو) سنة 1908، إعلان إعادة العمل بالدُّستور في دولة الخلافة العثمانيَّة؛ بعد أن ظلَّ العمل به مُعَلَّقاً طيلة تسعةٍ وعشرين سنة. وثمَّة من يعتبر أنَّ إعلان الدستور العثماني سنة 1908، سجَّلَ منطلق المرحلة السياسيَّة التي مهَّدت لمرحلة التَّصفية النِّهائيَّة للدَّولة العثمانيَّة يوم الأحد في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1922.
نَشُطَ، «حزب الحريَّة والإئتلاف»، ما بين سنتي 1911 و1913؛ بل توصَّل هذا الحزب إلى أن يصبح المنافس الرَّئيس لـ «جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي» (İttihad ve Terakki Cemiyeti)، خلال انتخابات سنة 1912. كان محمد كامل باشا (1833-1913)، من كبار قادة «حزب الحريَّة والإئتلاف»؛ خاصة وأنَّه مَن تولَّى مهام الصَّدارة العُظمي لأربع مرَّات، بدأت الأخيرة منها يوم الجمعة 29 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1912، وانتهت يوم الخميس 23 كانون الثاني (يناير) 1913، في عهد السُلطان محمد الخامس رشاد بن عبد المجيد الأول. والصَّدر الأعظم، محمد كامل باشا، هو مَن طلب، سنة 1913، من والي بيروت، «أدهم بك»، في ذلك الحين، أن يدعو الأهالي إلى اجتماع عام لهم، يقيمونه للتَّدارس فيما بينهم في مطالبهم الإصلاحيَّة؛ ويقدِّمون، من ثَمَّ، عريضة بهذه المطلب، عبر الولاية، إلى الصَّدر الأعظم. (المولى: العثمانية والعروبة).
عقد اجتماعٌ لأبناء بيروت، في مبنى البلديَّة فيها، يوم الخميس 12 كانون الأول 1912؛ كان هذا الاجتماع برئاسة صاحب جريدة «الحقيقة»، «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، وضمَّ ستَّاً وثمانين من أعيان المدينة، أربع وثمانون مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، إضافة إلى إثنين من اليهود (شبارو، جمعية المقاصد)؛ وكان من هذه الشَّخصيَّات، «سليم علي سلام» و«نخلة التّويني» و«كامل الصُّلح» و«بترو طراد» و«أحمد طبَّاره» و«رزق الله أَرْقَش» و«يوسف هاني» و«أحمد مختار بيهم» و«أيُّوب ثابت»، ومعظم هؤلاء المجتمعين كانوا من التجَّار والمحامين والصحافيين. وفي هذا الاجتماع كان انطلاق «اللجنة الإصلاحيَّة»؛ التي سيكون لناسها دوراً أساساً في الأحداث السِّياسيَّة، وهم من سيكون، عبر «جمعيَّة بيروت الإصلاحيَّة»، رأس حربة في مواجهة سياسة «جمعيَّة الإتِّحاد والتَّرقِّي».
صدرت، عن هذا الاجتماع التَّأسيِّسي، الذي قاده «الأستاذ الرَّئيس» سنة 1912، لائحة بالمطالب؛ وكان من بنودها، اعتبار اللُّغة العربيّة لغة رسميَّة ضمن الولاية، واستخدام هذه اللُّغة في مجلسي «الأعيان» و«المبعوثان» في اسطنبول، فضلاً عن استشارة «اسطنبول»، للسُّلطة المحليَّة في أمور تعيين الموظَّفين المدنيين والقضاة والجندرمة، إضافة إلى تخفيض مدَّة الخدمة العسكريَّة الإلزامية إلى سنتين، وتمضية هذه المدَّة، في أيَّام السِّلم، في الولاية وليس خارجها؛ وتقسيم واردات الخزينة إلى ما يعود إلى خزينة الحكومة في اسطنبول، وما هو من حق ماليَّة الولاية (كوثراني: السلطة والمجتمع؛ حلاق: مذكَّرات).
من الملاحظِ، في هذه المرحلة، التي آلت فيها مقاليد الصدارة العظمى في اسطنبول إلى «حزب الحريَّة والإئتلاف»، أن عناية الدَّولة العثمانيَّة، بـ «الكليَّة العثمانيَّة»، كانت في أوجِ رائع لها؛ تمكَّن معه «الأستاذ الرَّئيس» من تأمين مساعدات ماديَّة مباشرة من الحكومة العثمانيَّة للكليَّة، مساعدة مالية سنوية بقيمة 1200 ليرة عثمانية ومساعدة مباشرة، من «أنور باشا»، بقيمة 500 ليرة عثمانيَّة؛ فضلاً عن الحصولِ على موافقة «وزارة المعارف» العثمانية، على معادلة الشَّهادات التي تمنحها الكليَّة بالشهادات الرَّسميَّة، وإعفاء أساتذة الكليَّة من الخدمة العسكريَّة (البيان السَّنوي: 1912). ولعلَّ في هذا ما يدعِّم القول بأن ثمَّة روابط متينة جمعت بين القيِّمين على وزارة المعارف، في الحكومة التي شكَّلها الصَّدر الأعظم محمَّد كامل باشا، والتَّوجهات التي كانت عند «الأستاذ الرَّئيس الأزهريِّ»، في تلك المرحلة؛ وهي التَّوجُّهات، بكل وضوح، التي تكشف عنها مقرَّرات «جمعيَّة بيروت الإصلاحيَّة»، في اجتماعها التَّأسيسيِّ العام، برئاسة «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، والتي تدور في فلك ثلاثيَّة «العثمانيَّة واللامركزيَّة وحقوق الأقليَّات».
لم يمضِ وقت طويل على هذا التَّلاقي، بين حكومة «حزب الحريَّة والإئتلاف» و«جمعيَّة بيروت الإصلاحيَّة»، حتَّى تمكَّنت قيادة «جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي» (İttihad ve Terakki Cemiyeti)، يوم الخميس 23 كانون الثَّاني (يناير) سنة 1913، من القيام بإنقلابها السِّياسيِّ، المعروف بـ «انقلاب الباب العالي»، والإطاحة بالصَّدر الأعظم، كامل باشا، وتثبيط جميع المساعي الرَّسمية لتحقيق «اللامركزيَّة»
حصلَ الانقلابُ بأسلوب فيه كثير من الجرأة والمغامرة؛ وكان قطبه ضابط برتبة «مقدَّم أركان حرب»، عمره إحدى وثلاثون سنة، واسمه «أنور بك»؛ ومعه ضابط آخر، برتبة «عقيد ركن»، يبلغ من العمر إحدى وأربعين سنة، اسمه «جمال باشا». اقتحم الانقلابيون غرفة مجلس الوزراء، وكان «أنور بك» يحمل بيد مسدسه الحربيِّ وباليد الأخرى عريضة استقالة باسم الصدر الأعظم «محمَّد كامل باشا»؛ وما كان من الباشا، وقد بلغ الثمانين من العمر، إلا أن وقَّع عريضة الاستقالة. انطلق «أنور بك»، فور أن وقَّع الصَّدر الأعظم على الاستقالة، إلى مقرِّ السُّلطان في قصر «دولمه بقجه»، وما لبث أن غادرها وبيده أمر سلطانيٌّ نافذٌ يقضي بقبول استقالة «كامل باشا»، وتعيين «محمود شوكت باشا»، في منصب الصَّدر الأعظم، و«طلعت بك»، وكيلاً لوزارة الداخلية، إلى أن يتمُّ تشكيل وزارة جديدة. رجع «أنور بك»، ومعه «محمود شوكت» و«طلعت بك»، إلى «الباب العالي»، وأوعز إلى الجماهير التي كانت تحيط بمقرِّ الصَّدارة العُظمى الوزارة الجديدة، أن يتوجَّهوا إلى مقرِّ «حزب الحرية والائتلاف»، ويعملوا على سلب كل ما يجدوه فيه من وثائق وأثاث (أبو غدَّة: إنقلاب).
استبدل الانقلابيون السلطة الفعلية للسلطان، بحكومة الديكتاتوريَّة الثُّلاثيَّة المعروفة باسم «الباشاوات الثَّلاثة»؛ إذ أصبحت السُّلطة الفعليَّة بيد ثلاثيٍّ حكوميٍّ تألَّف مِن وزير الداخليَّة، «محمد طلعت باشا»، ووزير الحربيَّة، «إسماعيل أنور باشا»، ووزير البحريَّة، «أحمد جمال باشا»؛ فشُرِّعت أبواب الحُكم في الدَّولة العثمانيَّة لسيطرة قيادة جمعيَّة «الاتحاد والتَّرقي» بصورة شاملة وتامَّة.
قَدَرت حكومة الإتِّحاديين أنَّ الاجتماع الذي حصل في بيروت، برئاسة «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، والبيان الذي صدر عن المجتمعين باسم «حركة الإصلاح» أو «اللجنة الإصلاحيَّة»، ليس سوى خيانة للدَّولة العليَّة. قرَّرت الحكومة، مِن ثمَّ، عزل والي بيروت «أدهم بك»؛ معتبرةً أنَّه متعاطف مع «حركة الإصلاح»؛ وعيَّنت «أبو بكر حازم بك»، والياً مكانه (كوثراني: السلطة). وهكذا، صدر يوم الثُّلاثاء 8 نيسان (إبريل) 1913، قرار الوالي «حازم بك»، بحل «اللَّجنة الإصلاحيَّة»؛ وكانت ردَّة الفعل العلنيَة الأولى على هذا القرار، إعلان اضراب العام. صدرت صحف بيروت، يوم الأربعاء 9 نيسان (إبريل) 1913، بصفحات بيضاء فارغة، بيد أنَّ الصفحة الأولى منها كانت تحمل نصَّ قرار حلِّ «اللَّجنة الإصلاحيَّة»، وقد أحيط بإطار أسود، تشبُّهاً في إخراج إعلانات النَّعي. وهنا، أمر الوالي، بإلقاء القبض على كلِّ من يسعى إلى التَّحريض على الإضراب العام؛ وكان ألقت السُّلطات الأمنيَّة القبض على أعضاء من «اللجنة الإصلاحيَّة»، هم «زكريَّا طبَّاره» و«اسكندر عازار» و«رزق الله أرقش» و«سليم طيَّاره» و«مختار ناصر».
وهكذا بدأ، في هذه المرحلة، تحدٍّ آخر، يواجه «الأستاذ الرَّئيس الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، إذ صار في الستِّين من العُمر؛ وهو مَن اعتادَ عيش، منذ طفولته، وعاش على مقارعتها لجدارة. برز هذا التَّحدِّي، في التَّعامل الحكوميِّ الجديد مع «اللجنة الإصلاحيَّة» و«الكليَّة العثمانيَّة»؛ ناهيك مع كُتَّاب «جريدة الحقيقة»، الذين كانوا يدعون إلى الفكرة العربيَّة ويبشِّرون باللامركزيَّة؛ وعلى رأسهم بعض خرِّيجي «الكليَّة العثمانيَّة» وأساتذتها، من أمثال «أحمد طبَّاره» و«عبد الغني العريسي» و«عمر فاخوري» و«عمر حمد»، والمتماهين مع فكر «جمعيَّة بيروت الإصلاحيَّة».
وإلى اللقاء مع الحلقة الحادية عشرة: «إزدهار الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة والنَّفي إلى اسطنبول».
المراجع:
1) Eliezer Taube, The Emergence of the Arab Movements, Bar-Ilan University, Routledge, London & New York, 1993.
2) البيان السَّنوي للكليَّة العثمانيَّة، عام 1912.
3) حسان حلاق، مذكرات سليم علي سلام (1868-1938) مع دراسة للعلاقات العثمانية العربية، دار النَّهضة، بيروت، 2013.
4) سعود المولى، العثمانية والعروبة والحرب الكونية الأولى 1850-1916: مجموعة مؤلفين مئة عام على الحرب العالمية الأولى – مقاربات عربية، المجلد الأول: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2016.
5) عصام شبارو، جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، (1295-1421 هـ./1878-2000م.) – دار مصباح الفكر، بيروت، 2001.
6) عُمر فرُّوخ، غُبار السِّنين، دار الأندلس، بيروت، 1985.
7) محمد زاهد أبو غدة، انقلاب جمعية الاتحاد والترقي وأثره على مستقبل الدولة العثمانية، الثلاثاء 19 صفر 1437 – 1 ديسمبر 2015، موقع رابطة العلماء السوريين:
https://islamsyria.com/site/show_articles/7511
الاثنين 13 ذو الحجة 1441 – 3 أغسطس 2020
8) مصطفى فرُّوخ، طريقي إلى الفن، مؤسسة نوفل، بيروت، 1986.
9) وجيه كوثراني، السلطة والمجتمع والعمل السياسي العربي أواخر العهد العثماني: وسائط السلطة في بلاد الشام، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الثانية، بيروت، 2017.
10) يوسف خازم، عبد الكريم الخليل: مشعل العرب الأول، 1884 – 1915، دار الفارابي، بيروت، 2017.
* رئيس المركز الثقافي الإسلامي
*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية