أدب وفنالطفل

في أدب الطفل

روبير البيطار/ شاعر ، ناقد و قاص

لم يعد الأدب الـموجَّه إلى الأطفال خيارًا، بل ضرورة. إنّ الشّعوب الحديثة، لا ترقى ولا تُبنى إلّا إذا نشأ أطفالها ويافعوها على أدبٍ رفيع مكتوبٍ لهم وغير مُسْقَط عليهم من عوالم لا تعنيهم. لذا وجب على الأدباء كُتّابًا وشُعراءَ أن يعودوا إلى ذلك الطفل الكامن في دواخلهم، فيتركوهُ يحبو ويناغي ويتكلّم ويحكي ويضحك ويبكي و… يَتَسَلّى.
وربَّ سائلٍ: ما اهتمامات الطفل اليوم؟ وما الّذي يشغل باله؟
لا نذهبنّ في هذا الـمجال إلى أفكارٍ بعيدةٍ كلّ البعد عن الواقع. فالطفل اليوم، كما كلّ يوم، لا تعنيه القضايا الكبرى، ولا يهمّه الـمصير، هو لا يعبأ بصراعات الكبار ولا بهمومهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والأمنيّة والفقهيّة واللاهوتيّة… إنّ الطفل يسأل عن اللذائذ من الأطعمة من حلوى وسكاكر وغيرها، ويهتمّ باللعب واللعب واللعب، ثمّ اللعب حتّى العبثيّة.
هو يبحث عن الغرابة والخيال أكثر ممّا يبحث الكبار، فهو يكره الواقعيّة الرتيبة، وتؤذيه الأُطُرُ الـمُعَلَّبة. فالطفل تُحرِّكُهُ حُرِّيَّتُهُ الّتي فُطِرَ عَلَيْها. من هنا، كان شغفُهُ بالعَصافيرِ وَالخُيولِ وَالكِلابِ الشّارِدَة، ومن هُنا أيضًا كانَ اهتمامُهُ بِالبِحارِ وَما وَراءَها من أسرار، وبالطائرات والصواريخ، لما فيها من انطلاقٍ حُرٍّ لا تَحُدُّهُ سُقوفٌ ولا جُدْران.
الطِّفْلُ يَكْرَهُ الأَنماطَ الإيعازِيَّةَ الـمُباشَرَة. نَفْسُهُ تَلْفِظُ أَفعال الأمرِ وَالنَّهْيِ وَالأَفعال الاقتضائيّة. يَكْفيهِ أَنْ يُحَبَّ لِيَشْعُرَ بِالأَمان. كُلُّ كاتِبٍ يَعْتَمِدُ العِبْرَةَ أَساسًا لقصّته أو لقصيدته فإنّ الطفل سيكشفه ويعرّيه ويرفضه حتمًا. وهذا لا يعني أنّ الطفل عدوُّ القِيَم. هو عدوّ الحَشْوِ وَالإِمْلاءِ وَالفَرْضِ وَالواجِبِ… هو عدوّ الشرط والتهديد والوعيد والقوّة والعنف… فحذارِ توجيه الرسائل المباشرة، والأمثولات الّتي صمّت أذنيه ليل نهار، والعِبَر الّتي يسجنه فيها القانون المتحكّم به في البيت والمدرسة! فلماذا يأتي من يبتدع قصيدةً للأطفال، ويملأ سطورها بتوجيهاتٍ وإرشاداتٍ هو بالغنى عنها مثل: اِغْسِل وجهك ويديك. حافظ على نظافة البيئة. نم باكرًا. ادرس جيِّدًا. عامل الناس برفقٍ…؟
أيّ أدب يريد الطفل إذًا؟
ينجذب الطفل إلى كلّ ما يُسلّيهِ ويضحكُهُ، إلى كُلّ غريبٍ يحمله إلى عوالم جديدة، إلى البُطولة الّتي تحقّق العدل والمساواة والمحبّة، إلى الاكتشاف الـمذهل والاختراع الباهر والحلم الرائع والثورة على التقليد، إلى عالم الحيوان، إلى الطرافة والدهشة والسحر، إلى الخوارق والظواهر والعجائب… وكلّ ما عدا ذلك من إشكاليّات الفكر والصراعات والأصول والواجبات والحقائق الماورائيّة والقضايا الوطنيّة… فهي لا تدخل في دائرة اهتماماته.
قد يظنّ القارئ أنّ الطفل يبحث عن السخافة والتبسيط السّاذج. وهذا أيضًا مفهوم خاطئ. فهو يجد في الرمز الذّكيّ لُقْيَةً كمن وجد ضالّةً. فالتشابه في طباع بعض الحيوانات وبعض بني البشر أمرٌ يراه الطفل ويشعر به. فإذا قرأ عن أيّ مخلوق يبحث عن شريكٍ أو زوجٍ له، فإنّه قادر بسهولة على إيجاد الرابط مع الإنسان واستخلاص الفكرة المطروحة بسهولة. إنّ الأطفال أقرب إلى الكناية والرمز والانزياح في عرض الشخصيّات والأماكن والأحداث ممّن عصَرَتهم الحياة وروّضتهم حتّى ساروا صاغرين في سكّتها البراغماتيّة الأحاديّة “العاقلة”. والطفل قادر على الخروج من حدود كوكب الأرض إلى ما لا نهاية، حيث الفضاء والنجوم والمخلوقات الأخرى.
الطفل ناقدٌ انطباعيٌّ فِطْرِيّ. فحين يشعر بأنّ الكاتب يتحايل عليه لكي يحقنه بلقاحٍ تربويّ توعويّ معيّن، غير عابئ بنزعته الترفيهيّة اللامتناهية، فإنّه سيُقابله بالملل والرفض والتجاهل. المسألة بسيطة: إن لم يُخْرِجِ الأديبُ ذلك الطفلَ الكامن في أعماقه، ويصوّره قصّةً أو قصيدةً أو أحجيّةً أو عِدّيّةً أو طرفةً أو لعبةً… فإنّ الـمتلقّي الصغير سيلفظه كما يلفظ البحر الزَّغل.
أمّا عن اللغة، فلا حاجة إليك يا أديب الأطفال إلى عرض عضلاتك التركيبيّة، ولا إلى ألفاظك الميتة، ولا إلى نباهتك البلاغيّة… كلّ ما عليك أن تتواصل وإيّاه بلغة صحيحة بسيطة تبلغ أهدافها بأقلّ صعوبة ممكنة. فرشاقة اللغة واحدة من العوامل النفسيّة الّتي تجذب الطفل إلى عالمك الـمُتَخَيَّل، وتأخذه معك على متنها إلى عوالم القراءة الممتعة. فالطفل كما أسلفنا، لا يهمّه سوى الـمُتعة والتسلية، فإذا أردت أن تعلّمه اللغة من خلال أدبك فعليك أن تفتح له أبوابها لا أن تسوّرها بحجارة قديمة عظيمة، بحيث يصطدم رأسه بها ويعود خائبًا، عائفًا الكتاب ومن كتبه.
ولغة الطفل تتميّز بأمور ثلاثة: أوّلها التوازن بين محكيَّتهِ وفَصيحه العربيّ، إذ إنّ تشكّل اللغة من مفردات مألوفةٍ بشكل عامٍّ مُطَعَّمَةٍ بأخرى جديدة، ومن تراكيب أقرب إلى التركيب العامّيّ مع المحافظة على سلامتها في الفصيح، يُشعر الطفل بالأمان وبأنّه غير مُستَهْدَفٍ، وبأنّ كاتبَ النصّ ليس مجرمًا شاهرًا سيفه اللغويّ، آتيًا إليه لتوّه من القرون الوسطى… فاللغة البريئة النقيّة بليغةٌ أيضًا وعظيمة.
ثاني الأمور الّتي تُميّز لغة الطّفل، الإيقاع. وهنا لا نحصر كلامنا بالشعر الـموجّه إلى الأطفال، بل بكلّ نصّ على الإطلاق. ذلك أنّ السرديّات الّتي يهواها الطفل من حكايات وأقاصيص، لا تبلغ مراميها ما لم يبنِها كاتبها على أوزانٍ رشيقةٍ، مجريًا عليها عمليّات شفطٍ للدهون والأرداف والأوراك، وشدٍّ لترهّلات البطون؛ فاعتماد الجمل القصيرة، والأحداث الّتي تكسر الرتابة، والشخصيّات المفاجئة، والأماكن المتنقّلة، أو الأزمنة المتعدّدة، مع اعتماد إيقاع لغويّ غنائيّ أو انسيابيّ أحيانًا، يُدخل القارئ في سمفونيّة جميلة، كما يستطيع أن يطلق العنان لمخيّلته فيحمله على جناحي الكتاب راغبًا راضيًا متشوّقًا.
أمّا ثالث الأمور الـمتعلّقة بلغة أدب الأطفال، فهو الذكاء. وعلاقة الذّكاء باللغة كعلاقة التراب بالشجر؛ فكما تأخذ الشجرة كفايتها من الأرض، كذلك يأخذ الكاتب كفايته من المعنى فلا يزيد ولا يُنقص. وسَوْقُ الأحداث وتراكمها بشكل كافٍ، من دون زيادة أو نقصان، يجعل النصّ مكتفيًا بلغته الّتي تقول في ما قلّ ودلّ، ولكن بدراية ومعرفة تبلغ حدّ الذّكاء. فإذا طرأ طارئ على القصّة، واستجدّ جديد، فإنّ التمهيد له من دون التصريح سيَرسم فرحة الانتصار على وجه الطفل لأنّه سيُعيد ربط الأحداث بعضها ببعضها الآخر، وسيشعر بأنّه حقّق فَتْحًا مهمًّا. لذا فإنّ الاسترسال في الوصف من دون هدف قَتْلٌ بطيءٌ للنصّ، والاسترسال في الحوار من دون طائل سُمٌّ مميتٌ، وتفصيل الأحداث بشكل مبالَغٍ فيهِ مشنقةٌ للكاتب والمكتوب والقارئ معًا.
وإذا كان لنا من تمنٍّ يصل إلى حدّ الحلم، فإنّنا ننظر إلى اليوم الّذي يكتب فيه الطفل نفسه أدبَه الخاصّ. أمّا كيف ومتى، فهذا بحثٌ آخر يحتاج إلى جهدٍ مكثّف ورسم استراتيجيّات تربويّة حديثة.

*نقلا عن جريدة النهار الإلكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى