أدب وفن

الواقعية السحرية والاثر النفسي في رواية “حب عتيق” لعلي لفته سعيد

الناقد مؤيد عليوي


….
الواقعية السحرية والاثر النفسي في رواية “حب عتيق” لعلي لفته سعيد
مؤيد عليوي
“الفضاء النفسي..” المقصود به هاهنا، هو ذاك الفضاء الداخلي للشخصية، التي تتفاعل في مكان ما، ويختلف تفاعلها في مكان أخر، بما يمنحه المكان من أثر نفسيّ في داخلها، فيختلف احساسها وتفكيرها من مكان لأخر، وقد يتخلف تفاعلها في المكان نفسه مع تغيير الزمان والظروف، ليكوّن الفضاء النفسي أبعاده داخل الشخصية، فيختلف عن التبئير الداخلي للشخصية كما جاء عند “جيرار جنيت” لأنه لا يتصل بالمكان بقدر ما يتصل بوصف الشخصية من الداخل فقط، اذ يغيب عند “جيرار جنيت” تأثير المكان نفسيا كما وصفه باشلار بتلك الدقة،- وللتنويه أضيف هذا السطر: أنني لم اجد تعريفا محددا لما عرفنا به المصطلح ” الفضاء النفسي”، في شبكة المعلومات الدولية أو كتاب ورقي- علما أن هذا المصطلح كثيرا ما يشتغل بأريحية نقديّة على الشخصيات المدوّرة في المتن السردي، أو المتطورة والنامية أيجابا أو سلبا، اكثر من الشخصيات الثابتة.
أما رواية “حب عتيق” لعلي لفته سعيد، والفائزة بجائزة تونسية/ طبعة تونس 2020، فعنوانها يدلي بتصريح عن عامل نفسي كبير في الفضاء الداخلي لشخصياتها، إلا وهو الحب فيما تدور احداث الرواية بحركة شخصياتها من المتن السردي في المكان/ مدينة “سوق الشيوخ”، ضمن فضاء زماني متحرك بين مدة الاحتلال العثماني والاحتلال الكولونيلي البريطاني وتأسيسه للملكية العراقية ودولتها الحديثة، حتى نهاية العهد الملكي وأول أيام الجمهورية العراقية، فالمدينة تلوك حكايات تاريخها النضالي وانتفاضاتها ضد كل الاحتلال، في كل بقعة منها لتتحول الى مدنية الواقعية السحرية في رواية “حب عتيق” كما هي مدن غابرييل ماركيز في واقعيته السحرية، فرواية “حب عتيق” لعلي لفته سعيد رواية مكان بامتياز، رسم شخصياتها بدقة وفن وحوار بأسلوب الراوي العليم، وبما أن المكان عند ياسين النصير في “كتابه اشكالية المكان في النص الادبي “،:( يعني بدء تدوين التاريخ الانساني، والمكان يعني الارتباط الجذري، بفعل الكينونة لأداء الطقوس اليومية للعيش، للوجود، لفهم الحقائق الصغيرة، لبناء الروح، للتراكيب المعقدة الخفية، لصياغة المشروع الانساني،..)، لينطبق هذا تماما على شخصية “نعيّم” بما يتصل مع عنوان هذه السطور “الفضاء النفسي للشخصية في المكان” فهي شخصية مدورة أو متطورة أو نامية، شخصية غير ثابتة، تمتلك من الثقافة الكثير فهي تنتمي من حيث المعرفة الى المستوى الاول في المتن – مثقفي الانتجلستيا- الطبقة الوسط التي تنتمي اغلبها الى الحزب الشيوعي وبعضها الى حزب البعث، في أيام العهد ملكي، فيلتقي بهم “نعيّم” ويسمع ويحاور في المقاهي التي يرتادها أولئك المثقفين، لكنه في غير رضا من نفسه لأنه لا يعمل ويستعطي الناس (الكَدية) ليجمع ما يحصل عليه في يومه ويشتري به عرقا ويسهر ليشربه مع صاحبيه “ستار وعبيّس ” اللذينِ يعملان في العتالة، “فنعيّم” من جهة مثقف وفي ذات الان ينتمي الى المستوى الثاني من السرد وهي الطبقة المهمشة أو المسحوقة، فيما تطلق الناس في المدنية عليهم لقب المجانين أو الحمّالين والعتالين، بينما كان “نعيّم” في مقتبل شبابه ينتمي الى المستوى الثالث من المتن السردي وهو مستوى الأقطاع من شيوخ العشائر وأبناء الشيوخ، و في كل مستوى من المستويات الثلاثة، علاقاته التي تؤثر على شخصيات المستويات الاخرى، إلا أن المستويات الثلاث كانت تسير بشكل متوازٍ في متن السردي بسلاسة تنقل شخصية “نعيم ” بأسلوب الراوي العليم، بين هذه المستويات وتتغير معها الفضاءات النفسية داخل شخصية “نعيم” بتأثير المكان وتغير المستوى الروائي بحسب المكان مما يأتي:
1- شط النهر والسهر عنده: كان الفضاء النفسي لشخصية “نعيّم” هو الانطلاق بالغناء بعد أول كأس يشربه مع زميليه “ستار وعبيّس” كل ليله لتسمعه في بيتها “بدرية” التي احبها عندما كان هو شابا ينتمي لطبقة الاقطاع، ذاك الشاب المتهور الذي يخلق المشاكل أينما حلّ، فأراد الزواج بها وهي بنت الشيوخ، ليمنعه من الزواج سوء تصرفاته وتهوره ذائع الصيت، حتى تسبب بهجران اهله من “سوق الشيوخ” الى مدينة اخرى، بحسب العادات والتقاليد العشائرية، وليتحول هو لضعف إرادته الى متسول في المدنية مع صاحبيه “ستّار وعبيّس” كما حمّل معهما اغراض زواج “بدرية ” الى غرفة نومها، لزواجها من الشيخ رسول ابن احدى العشائر الاقطاعية، ليصير غنائه كل ليلة يبعث الشجن في نفوس سامعيه خاصة “بدرية”، اذ كان فضائه النفسي يعود به الى أيام حبه وخطبته لها، فكان شط النهر ليلا يبعث فيه شحنة الحياة بما يرمز الماء الى الحياة لتنفتح سرائر نفسه على جذور عشقه لـ”بدرية” والمتصل بالمكان المدنية، لذا هو لم يهجر المدنية ليكون شط الفرات ليلا مرتع نفسه للغناء بصوت عال وبحرية كاملة فلا قيود على مجنون أو زمرة مجانين،والمجتمع يراهم من سقط المتاع، كما كان صوته جميلا وكذلك صوت صديقه “ستّار”، فيما كان داخله مستقر من أن البريطانيين محتلون غزاة، فعندما زاره الضابط البريطاني المسؤول في المدينة، الى مكانه عند الشط ليلا ليطرب سمعه بصوت “نعيّم” هو يغني، لم يرحب به وطرده لأنه محتل، كانت هذه الفكرة نتيجة ثقافته.
2- المقهى :شكلت المقهى المكان الثابت لـ”نعيم” في المتن، مكانا حرجا يتلاعب بفضائه النفسي كثيرا، فهي المقهى ذاتها التي كان يرتادها وهو ابن شيخ عشيرة كبيرة يصول ويجول ولا مِن رادع له، وأن سلك سلوكا خطرا واشهر مسدسه ليقتل الناس، ولا رادع له في الحديث اذا تكلم بالخطأ، فكان فضائه النفسي حينها فضاء مَن يرى أنه فوق الجميع بسبب تربيته في بيت الاقطاعي أبوه ودلال أمه وأهله له، وهي ذات المقهى ظل يرتادها بعد أن هاجر أبوه بسببه الى مدينة اخرى، فصار يدخلها للتسوّل والاستماع الى أحاديث المثقفين ومشاركتهم أحيانا بسخرية منهم مرّةـ ومّرة يستمعون له بتعاطف معه لمعرفتهم بتاريخه، فكانت المقهى لهذه المرحلة تمثل في داخل “نعيم” فضاءً نفسيا متهشما مما يزيد حقده على البريطانيين وشيوخ العشائر وخاصة “رسول” زوج “بدرية ” وإلا ما السبب لعدم تركه المدينة على الرغم من ضعف إرادته، إلا انه كان يحلم ليل نهار بـ”بدرية” حتى الاستمناء الذي يمارسه بعد اكماله طقوس شربه العرق على الشط كل ليله، كنا يمارسه على كنبة أحدى المقاهي منفردا او في زاوية من زوايا المدينة، فلم يكن خياله يذهب سوى الى جسد “بدرية” البض والمكتنز، التي رآها عندما دخل غرفتها عتّالا يحمل اغراض زواجها..، فكانت المقهى وروادها، تثير في داخله أحزانه، فيسلك سلوكا غير سويّ أمام الحاضرين، مما يزيد من اتهامه بالجنون هو وصاحبيه العتالينِ، فتتغير الامور ويدخل المقهى بعد أن تسقط الملكية وتقوم الجمهورية، لابسا ثيابه كشيخ عشيرة، حيث جاء في المتن السردي:(الجميع انتبهوا الى نعيّم وهو يرتدي ملابس شيخ العشيرة وقد عاد الدم لوجهه مشاركا في التظاهرات..) فعادة تنتهي التظاهرة ليهذب ناسها الى المقهى حيث الاستراحة والحديث، وليصير صاحبه “ستار” مطربا في إذاعة الجمهورية العراقية.
3- شوارع المدينة : “نعيّم ” يجوب المدنية نهارا وعندما يصل الى بناية السراي الحكومي يبصق عليه فيخبره صاحبه “ستّار” بأن يحاذر الشرطة التي تقف أمام باب السراي، فيما يعمل حركاته الجنونية امام قائم مقام “سوق الشيوخ” اينما يراها في المدينة ليهينه بطريقة غير مباشرة أمام الناس، كانت الشوارع تفضي الى “نعيم” بفضاء نفسي حر، ناسيا نفسه وأصله وحاله التي وصل لها، وهو يجوب المدينة راكبا بجانب “ستار” فوق عربته التي يقودها حماره، فيبحث عمّا يحقق افكار ثقافته ضد الاحتلال التي سمعها مذ كان صغيرا، كما تعلّم القراءة والكتابة في الكتاتيب، فالمدنية تتناقل حكاياتها البطولية بكثرة، آخرها انتفاضة سنة 1935 ضد بريطانيا والحكم الملكي في العراق، ليروي هو الآخر بكثره في شوارع المدينة أبان تنقله مع صاحبيه “ستّار وعبيّس” وهم يبحثون عن العتالة أو أحيانا للتسول بقيادة “نعيّم” راويا لهما أغلب ما يعرفه من ثقافة، فيقعوا جميعهم في قبضة الشرطة وهم يرفعون صوتهم بل يغنون احيانا نهارا وسط الشارع بشعارات ضد الحكومة الملكية ليسجنوا ثلاثة ثم يُطلق سراحهم، فيعودون يمارسون نشاطهم الليلي بشرب العرق والغناء عند جرف الشط، فيما كانت علاقة “نعيم” وأصدقائه في شوارع المدينة منفتحة على الجميع، يقولون ما يتبادر الى أذهانهم مباشرة، مع جميع مكونات مدينة “سوق الشيوخ” المتنوعة من يهود ومسيح وصائبة، موظفين ومثقفين وشيوخ عشائر إلا أن الفئة الأخيرة كان “نعيّم” يتحاشى رؤيتهم أو يرونه، إذ فضائه النفسي ينفر منهم بحقد بسبب تقاليدهم التي اسهمت بحرمانه من “بدرية “، فبنت الشيخ يجب أن يتزوجها رجل متزن غير متهور ليكون شيخ عشيرته في المستقبل.
4- المضيف : كان مضيف العشيرة يمثل لـ”نعيم” وهو في مقتبل شبابه يشكل فضاءً نفسيا له يشعره بالأريحية والفخر فهو ابن شيخ العشيرة، لكن أصبح هذا المكان/ المضيف يشكل فضاءً نفسيا نافرا له بعد تعرضه وابيه للإهانة برفض طلبهما ومَن معهم من شيوخ عشائر “سوق الشيوخ” رفض ابو “بدرية” لخطبته ابنته “بدرية”، فأبوها شيخ عشيرة كبيرة وقوية لا تقوى عشيرة “نعيّم” على رد تلك الاهانة، فاصبح المضيف/ المكان يشكل عقدة نفسية عنده بل اصحبت التقاليد العشائرية لا قيمة لها في نفسه هذا من جهة، ومن جهة ثانية ثقافته واطلاعه بأن النظام الملكي القائم على ولاء العشائر له مرتبط بالاحتلال البريطاني، لذا قد اتخذ من الجنون والتسول كرّدة فعل نفسية دون تفكير أو تخطيط منه ، أتجاه الواقع العشائري فلم يغادر مدينته بسبب حبه لـ”بدرية ” يغني كل يوم مواله لها ولناس.
لقد كانت رواية “حب عتيق ” رواية مكان بامتياز من خلال الواقعية السحرية، التي جسدت معاناة الفقراء والطيبين في وطن استباحته التقاليد حيث شخصية “ستار” الذي لم يكن عتالا مثل “عبيس”، بل كان “ستار” من أحدى قرى “سوق الشيوخ” ومن عائلة فلاحية وقد احب فتاة بعمره كان أبيها شيخ العشيرة هناك، فقتلوا الفتاة واحرقوا اهل “ستار” بوابل الرصاص من كل حدب وصوب حتى قضوا على جميعهم، بينما نجا “ستار” بأعجوبة، فهجر قريته الى مدينة “سوق الشيوخ” ليصير عتالا فيها منذ كان يافعا وأول شبابه، ومِن جهة ثانية استباحت الوطن من بريطانيا العظمى بعد الاحتلال العثماني، كما نقلت الرواية حركة الانتجلستيا وفقراء الفلاحين وشيوخ العشائر/ الاقطاع…،
ومن الجانب الموضوعي في هذه السطور التي تتناول مصطلح” الفضاء النفسي ..”، فسوف تكون شخصية “رسول” شيخ العشيرة الذي تزوج من “بدرية”، وأثر المكان في فضائه النفسي على الرغم من أنه شخصية ثابتة، فيما يأتي:
1- المضيف:يفضي المضيف/ المكان الى فضاء نفسي في داخله مملوء بالسلطة والقوة واصدار القرارات والتحكم بالناس من خلال التقاليد والدين.
2- المقهى: يكون فضاءً ثقافيا في نفسه لمعلوماته الكثيرة من مضيف أبيه فهي عملية تراكمية مذ كان صغيرا، ولسفرة واتصاله بعالم الحكومة أو السلطة في بغداد انتجلستيا السلطة وباشواتها، فيكون حديث “رسول” عن مشاركة العشائر بثورة العشرين أو انتفاضة “سوق الشيوخ” سنة 1935، لغاية في نفسه، هي مواجهة الانتجلستيا المثقفة والمعارضة للحكم الملكي ونظام العشائر المساند له ومعارضة للاحتلال البريطاني، ليصير فضاءه النفسي، حذرا من لسان المثقفين الذين يردون عليه لكن باحترام، فهو يحاذر حجتهم القوية المنبثقة من ارض الواقع ومعاناة فقراء الفلاحين تحت سياطه وسياط الاقطاع من غيره، كما فعلوا بعائلة “ستار” الفلاح بسبب حبه لبنت الشيخ لا أكثر ولا اقل، فأجرموا ببنتهم وقتلوا أهل “ستار” .
3- غرفة نومه مع زوجته “بدرية”: يفضي المكان/ غرفة النوم وهو على سريره الى انشرح نفسه و”بدرية” بين يديه تسأله عن معلومة لا تعرفها، ليعيد عليها ما قاله في المقهى بما يتصل بسؤالها – فهي ايضا مطلعة على أمور كثيرة من أبيها الشيخ والسؤال ينم عن معرفة – فيجيبها “رسول” لكن دون حذر في نفسه كما كان في المقهى، بل ينطلق يداعب جسد “بدرية ” وهو يتحدث بأريحية، إذ فضاؤه النفسي هو الفخر وتنفس الحرية سيما أن “بدرية ” تراه افضل رجل في العالم…

  • دراسة الناقد عن رواية ( حب عتيق ) الفائزة بجائزة الرواية العربية في تونس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى