أدب وفن

القراءة النقدية للشاعر والناقد إيلي ضاهر في قصيدة «الحنين» للشاعر ابراهيم عودة

القراءة النقدية للشاعر والناقد إيلي ضاهر
في قصيدة «الحنين»للشاعر ابراهيم عودة

بالإعتماد على المنهج التفكيكي.
يشقُّ على النواة أن ترى في ذاتها شجرة نخيلٍ باسقةً، فيما لا ترى إلى ذاتها سوى تضاؤل الممكن في الكينونة.
ويصعب على شجرة النخيل أن ترى إلى ذاتها عناصر التربة التي تتسرّبُ إلى لَحائِها فيما لا ترى في ذاتها سوى تمدُّدِ الكينونة في الممكن.
فبين ما هو ممكن في الكينونة وكائن في الممكن عبورٌ يقودُ إلى كلّ الفضاءات المجازيّة التي تجعل من المتغيّر المتعدّد صورةً طَبْقَ الأصلِ عن الوحدوي الثابت في لانهائيّة التأويل ولعبة الإِحالات.
يقول جاك دريدا: «كلُّ شبحٍ ينعكسُ عن أصل، أي أنّه منسوخٌ عن هويّة. كمصاحَبَةِ الظلال لأصحابِها. وإنَّ الشيءَ المنعكس في المرآة، فيما هو الـ«هو»، ما هو إلاّ «اللاهو»؛ فهو «ال هو» لأنّه صورةٌ عن الأصل، وهو «اللاهو» لانّه ليس الأصل».
ولأنّ الاختلاف يُنشِئُ الهويّة (بحسب هايدغر)، فإنّ الإنسانَ الذي هو موضوع تجلّي الكينونة يقيم في خارج ذاته. ويكون في خارجِ ذاته اللاهو المنعكس عن الأصل.
وحيثُ إنَّ لا تَغَيُّرَ يتحقّقُ ولا تسبقُه مواكبة كاشفة، فإنَّ العبور إلى الممكن المتعدّد من الوحدوي الكلّيّ يتطلّبُ خوضًا في العدميّة التي تصبحُ بدورها ماهيّةً ملازمةً للكينونة.
وبما أنَّ العدميّة ضمانة الكينونة الوحيدة, فإنّ التأويلات والإحالات المرافقة لعبورها إلى ممكنات أُخرى، تتحوّل إلى كيفيّات اللاهو المنسوخ. وهذا يقود بالفعل إلى اعتبارها وسيلةَ تموضعٍ للممكن في أجزائه المتشظّية بدورها إلى أجزاءَ لها ذواتها الفريدة. في فضاءٍ من شتيتِ التجلّيات المتسرّبة من الأصل.
وبهذا، يصبحُ اختلاف المؤتلف ائتلافًا مختلفًا لا بدّ معه من اعتماد أكثر من لغة في أيّ قراءة، لأنّ النصّ يكون حينذاك أكثر من نصّ.
يبقى أنّ مقاربة هذا النصّ: «الحنين»، للشاعر ابراهيم عودة تقتضي تصديعَ بنيته وتفريغَه لأنَّ الإِحالات المتوافرة فيه تقود إلى تأويلات وتبرز تواطؤ الأضداد داخل نسيج الواقع المتماسك فيه عبر عمليّة تهديم ممنهجة. حتّى وإنْ كانت تنطلق من الدوالّ، فهي ليست إلاّ شيفرات تخفي تحتها ما هو محجوب في توتّر النِسب والعلاقات التي تفتح الباب واسعًا أمام الفضاءات المجازيّة لتعرية النصّ في لعبة الصمت. والسؤال الأوّل المطروح هو:
ما الذي قاله ابراهيم عودة وما الذي صمت عنه في النصّ؟
نبدأ بالعنوان: «الحنين».
الحنين هو نوعٌ من الشوق إلى ذكرى وتوقٌ خفيٌّ لاستعادتها مُؤَطَّرَةً في زمانٍ ومكانٍ مُعَيَّنَيْن. وهذه الذكرى تُسْتَلُّ من الذاكرة فتستبدّ بالشعور وتتسرّب صُوَرُها في الأحاسيس، فيسترجع صاحِبُها ظلالَ ما عاشه وما شاهدهُ في لحظةٍ مجمَّدةٍ في الزمن ليس قبلَها ولا بّعدها. وتكونُ سائِلةً (من السَيَلان) في المكان، مفتوحة الأفق على ما قبلَها وما بعدَها.
إذًا الحنينُ عَرَضٌ بما هو يقيمُ في غيره. (لأنَّ كلَّ قائمٍ بغيره عَرَضٌ). وهو صورةٌ طبق الأصل عن أصلٍ مضى في ذاته وصورتُه مقيمةٌ في الذاكرة، لا تخرجُ إلاّ في لحظةِ استحضارِها.
وهذا الإستحضار خصّص له الشاعر فعل السَرَيان. وبما أنَّهُ عَرَضٌ فهو ليس جوهرًا. هو صورةٌ عنه. ولكن في إقامةِ غيرهِ به يتحوّل إلى جوهر (أصل).
يبدو العنوان وحدويَّ الذات. وإمكانُ انشطاره قائمٌ في موضوعه. فالأحاسيس التي يتضمَّنها تُشكّلُ الكيفيّاتٍ التي من دونها لن يَشْعُرَ صاحبها بالتوق. والتوق بذاته، فيما يحمل السعادة باسترجاع موضوع الذكرى قد يحمل الألم لصاحبه أيضًا. فالسعادةُ المستَحضَرَةُ تحملُ في طيّاتِها أَلَمَ فُقْدانِها وعدمَ القدرةِ على الرجوع إليها. فيتحوَّلُ الحنينُ إلى أَلَمٍ لذيذٍ قائمٍ بغيرهِ وناجمٍ عنه. وَلَذَّةُ اسْتِحضاره تسري جنبًا إلى جنبٍ مع ألم فُقْدانِه.
يستهلُّ الشاعر قصيدته بـِ: يسري الحنين.
والفعل يسري يؤشّر إلى ما هو سائل. كالماء الذي يجري في تجاويف الأرض. ويحيله التأويل هنا إلى الدماء التي تجري في العروق. فشيفرة «ضلوع البحر» تؤشّر إلى القلب الموجود بين الضلوع. والقلب هو مركز تدفّق الدماء في الشرايين. ويَتّسع فضاء التأويلات. فهذا الحنين ليس ممكنًا إلاّ في المشاعر الإنسانيّة. لأنّه استحضار لذكرى لا تتوافر إلاّ عند الإنسان. وهي مصحوبة بألمٍ لذيذ. لكنّ هذا السريان يحيلنا إلى الجمود. فالماء يتجمّد ويستحيل إلى جليد. والدماء تتجمّد وتحيلنا إلى الموت. خصوصًا إنَّ الجمود زمانيّ. فالذكرى زمن مجمّد في الذاكرة لا يسيل إلاّ لحظة استحضاره. وبهذا يصبح تجمّد الذكرى موتًا وإقامة في العدميّة بهدف عبورها عند إعادة استحضارها. وبهذا تصبح العدميّة ضمانةً للممكن في الكينونة.
امّا الغيمتان البطيئتان الكثيفتان، فتتمفصلان عند حدود الممكن المتشظّي. فالبحر كلٌّ والماء المتبخّر منه بفعل حرارة الشمس يتحوّل إلى غيوم. فالممكن الذي هو بذاته كلٌّ وحدويّ تشظّى، فاستحال إلى ممكنين في كينونةٍ خاصّة بهما. وذاتين ماتا عن ممكنٍ أوّل آخر وتحوّلا إلى ممكن جديد.
فمن هم البحر؟
ليس إلاّ الشاعر بذاتهِ. وقد تحوّل بفعل الحنين إلى آخرَ مختلفٍ بأتلفُ معه على أنَّه مصدرُه ويختلفُ عنه على أنّه متشظٍّ منه إلى كيانٍ آخر. يريد الشاعر (البحر) أن يرى وجهَهُ الآخر في غيمتين تحوّلتا إلى ممكنين منه. أمّا الإحساس الساري في عروقه فهو عاصفٌ كالموج ومندفق كالشلاّل. لكنّه يٌخفي ثورته في بطء الغيمتين. وبطؤهما دليلٌ على أنّهما ثقيلتان. وكذلك كثافتهما. لانَّ كثافة الماء «الحنين» فيهما تنذر بعاصفة جامحة رغم الهدوء البطيء الظاهر فيها.
إلامَ تُحيلنا الغيمتان؟
من المعروف أنَّ الغيوم سديميّة، والسديم هو الضباب الرقيق الخفيف الذي يتعذّر لمسُهُ والقبضُ عليه، بعكس ماء البحر الذي يمكنُ تحسّسه والشعور بوجوده المادّي. فالسديم يشبه الطيفيّة. بما أنّه تبخُّرٌ مُتَشَكّلٌ. فالغيم وإن كان من ممكنات البحر، إلاّ أنَّه غيمٌ. وممكنه المتحدّر منه لا يرى ذاته فيه. (خصوصًا أنّ ممكنًا آخر أنتجه وهو الحرارة (حرارة الشمس) وهو لا يرى ذاته فيه وإن كان صادرًا منه. إنّه يعقل ذاته فقط ولا يرى ما يراه إليها من تحوّل. فالكائنات الحيّة تنمو وتعقل نموّها لكنّها لا تراه فعليًّا إلاّ في نتائجه.
ماذا عن أنّ الغيوم كائنات حيّة.
من المعروف أنّ الشمس أحد أهمّ مصادر النموّ. وهي إن كانت مصدر نموّ الإنسان والنبات في الظاهر إلاّ أنّ تأثيرها على الجماد في أدنى مرتباته وفي أقصاها واضح. فجفاف الصخور وتآكلها بفعل الشمس والمطر معروف وبهذا يكون الحنين الذي يسري في الشاعر قد تحوّل بفعل تبخّر الماء بواسطة حراراة الشمس إلى غيمتين (مادّة) تشعر بذاتها ولا تعقلها كالروح في الجسد التي «تعقل ذاتها بحسب أريسطو، ولا يعقلها الجسد. حتّى وإن كانت نفس الإنسان تتلقّف إسقاطات الروح بواسطة العقل العاشر».
بهذا تصبح الغيمتان بما تحملاته من ماء، يعارض ثقلهما مكوّنهما الطيفيّ القادر على الطيران بسبب مبدأ خفّة السديم. فبالرغم من ثقلهما وبطئهما الناجمين عن كثافتهما إلاّ أنّهما يختلفان عن ماء البحر بسبب قدرتهما على الإرتفاع ويتعاكسان مع ما هو معروف أنّ ثقل الأجساد يخالف مبدأ الطيران والإرتفاع. فبين ثقيل مترسّب وهو «ماء البحر»، وثقيل طائر ومرتفع «وهو الغيمتان» مفارقة تتعارض مع قانون الفيزياء. أمّا البطء الذي يشير إلى الكثافة والثقل لكثرة ما تحتويان من ماء فلا يبدو في صورة الذهن كثير الأهميّة بفعل التصوّر المسبق بإمكان تمدّد الغيم وارتفاعه رغم ثقله وبطء حركته.
… والأمواج فيض الذكريات:
جملة تتصدّرها «واو الحاليّة» وتحيلها إلى تبيان هيئة صاحبها. في الدلالة أنّ الحنين الساري في إحساس الشاعر يشبه غيمتين بطيئتين مثقلتين به وأنّ الأمواج المتلاطمة هي فيض الذكريات في كيان الشاعر. لذلك فإنّ حالة الشاعر مترجرجة متلاطمة في الظاهر كالموج وتشبه أثر الحنين في إهاجة عواطف النفس. لكنّها كالغيمتين البطيئتين الهادئتين في الأعماق الناجمتين بفعل التبخّر عن الأمواج الصغيرة الهادئة أيضًا في يوم من أيّام الصيف الحارّة. حيث تكون أمواج البحر هادئة كحفيف الأجنحة. والحنين المشابه لهما لا يظهر منه على الوجه سوى أمائر الشرود. أمّا الفيض فهو دلالة على الامتلاء والكثرة. إلاّ أنّ الذكريات الموجعة تخلّف فراغًا في النفس لبعد مركز الإثارة عن الأطراف. فالمسافة الزمنيّة التي تفصل حدث الذكرى عن زمن استحضارها تسبّب الألم والفراغ وليست سببًا للوجه الإيجابي للفيض.
ينتقل الشاعر بعد حلوليّته في البحر إلى أنسنته. ولا يخفى أنّ المشاعر الإنسانيّة التي تحدّد الإنسان بعيدة كلّ البعد عن الغرائز التي تُسيِّر الحيوان. فالإنسان يمتلك الغرائز التي عند الحيوان ويشاطره إيّاها والعكس غير صحيح بالنسبة إلى العقل الذي يعقل والإرادة الحرّة والقرار الحرّ في القيام بأيّ أمر. حماية الحيوان لجرائه مثلاً فعلٌ محضُ غرائزي ولا يقوم على إرادة واثقة. بعكس حماية الإنسان لأبنائه. فالإرادة تستطيع أن تزيد أو تقلّل. أن تقبل أو تحجم. أن تقرّر أو أن تتردّد وهذا مخصّص حصرًا للإنسان.
لذلك فإنّ مبدأ حلوليّة الشاعر في البحر لأنسنته هو مبدأ حلول الأقوى والأشمل في الأقلّ قوّة والأعقل في المادّة غير العاقلة والهدف رفعه إلى مرتبة الإنسان التي تعقل وتشعر وتتصرّف.
لذلك لا بدّ للغيمتين المتحدّرتين منه من حنين يعود بهما إلى المصدر، أي البحر، ولا بدّ للبحر وقد صار هو الشاعر من صوت وقلب وعقل ليدرك ما نجم عنه. فالصوت يقاربه الهدير المنبعث من موجه. لكنّ هذا الصوت يحدّث نفسه، تمامًا كما يفعل الإنسان. والحديث إلى النفس يحيل إلى وجود نفس عند البحر، وهو حديث غالبًا ما يكون عن المشاعر ويتساءل البحر، والتساؤل دليل إلى التفكير والشكّ واحتساب المنفعة. يتساءل البحر عن الغيمتين اللتين يراهما وقد تأنسن بالكامل. هل هما وجهُه الذي يرى فيه الكون؟ ويقوده التساؤل إلى آخر: أم أنا بحرٌ تكسّر في سماء الأمنيات؟
هكذا أنشأ الائتلاف بالحلول والأنسنة هويّة البحر.
وهكذا أنشأ الاختلاف بين جوهر الشاعر وجوهر البحر هويّة الشاعر!
وأصبح الإنسان الشاعر يقيم في خارج ذاته.
فالشاعر بحر، عيناه غيمتان تريان الكون من فوق وتنقلان الصور للبحر وهو في مكانه ثابت لا يتحرّك. وصوته هدير أمواج. وهو يحدّث نفسه. لقد تماهت ذات الشاعر بذات البحر وانتفى حلول الأشمل والأوسع والأعقل بالأصغر وغير العاقل واستحال الاختلاف الحالّ عن المحلول فيه.
في العودة إلى الصوت:
الصوت إشارة لغويّة تقود عمليّة التخاطب والتعبير وأداته اللسان. فما الذي يقوله البحر لنفسه.
من المعروف عن البحر ثورانه وهدوؤه. هيجانه وسكونه. وقد يبدو تعاقب الإثنين فيه تعاقبًا يُسقَطُ على مظاهر الطبيعة. كتعاقب الليل والنهار وعلى الحالات الإنسانيّة كتعاقب اللألم واللذّة. ولهذا فإنّ الأمواج نفسها التي نراها ثائرة فيه ليست في حال سكونه سوى تكسّرات هادئة. والعاصفة الهوجاء بحدّ ذاتها ليست إلاّ نسمات لطيفة. غير أنّ فضاء الدوالّ ينحو بها نحو تساؤل وجوديّ. والإشارة اللغويّة بحرف الإستفهام تفضي إلى الجهل بالممكن الذي هو عليه.
تقودنا إحالة الصوت إلى السمع. فالصوت ليتحدّد يجب أن يسمعه أحد. والبحر بما هو مادّة لا يسمع وإن كان له صوت. فيصبح الصوت (صوت البحر الذي يحدّث نفسه) بلا وجود في ذاته والتساؤل الذي يطلقه هذا البحر المؤنسن لا يسمعه أحد وكأنّه لم يكن. أمّا الإشارة اللغويّة بحرف الإستفهام «هل» فهي إشارة تفضي إلى الجهل بالممكن الذي هو عليه. هل وجه الغيمتين هو وجهي أم أنّهما أنا بالذات بعدما كسّرتني عواصف الحنين وأطلقتني شظايا في الفضاء؟
ولا يخفى أن الجهلَ بالممكن هو انعدام معرفة. وهذا الانعدام بالمعرفة فيما يؤسّس لمعرفة غير معروفة من جهة يؤسّس من جهة أخرى إلى عدم وجود ما يعرف بالأساس. فتصبح إحالة الجهل إحالة إلى إنعدام الكينونة. فيما الشاعر في الظاهر مصرّ على أنّه بحرٌ يُبَخّر الغيم ويحدّث نفسه بصوت مسموع.
يقول مارتن هايدغر: «إنَّ الحقيقة هي إنحجاب الأساسيّات عن فكر الإنسان. فتألّق منارة السفن بعين البعض هو ذاته إنحجاب تألّقها عن عين البعض الآخر، والإنسان هو «الدازين» أي الموضوع الذي تتجلّى فيه الكينونة في انكشافها وانحجابها». حيث يصبح الحنين المجرّد من الإحالات التي تفترض تفاعلات الروح والنفس حالة الخروج من الذات والسُكنى في موضع استدعاءات الكينونة المتواترة.
إنّ إحراق ورقة يستدعي خروجها من ذاتها للسُكنى في كينونات أخرى منها الرماد والدخان على سبيل المثال.
لقد خرج الشاعر من إنسانويّته ليتحوّل إلى بحرٍ أنسنه بحنينه وانشطر بعد ذلك إلى غيمتين تسكنان فضاءً من الأمنيات. ما هي هذه الأمنيات؟
تحيلنا الأمنيات إلى نوعين من الاحتمالات: أمنيات تتمحور على استرجاع ذكريات لعيشها من جديد، والحنين إلى زمانها ومكانها والعمل على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
وأمنيات تنطلق من الشعور برغبات ينوي صاحبها تحقيقها، وتمثّل أهدافًا يخصّص لها إمكاناته وما تبقّى له من سنوات العمر. فلماذا التكسّر في سمائها؟
من المسلّم به أنّ السعي لتحقيق الأمنيات سعيٌ فيه مخاطر بعكس أمنيات استحضار الذكريات السابقة مع أنّها لا تخلو منه أيضًا.
فقد يتحطّم المرء على عتبة أهدافه قبل أن يحقّقها. وقد تحطّم الذكريات صاحبها وتؤثّر عليه نفسيًّا خصوصًا إذا كانت ذكريات موجعة. لذلك فإنّ عمليّة التكسّر ليست غريبة في مدلولها. فالتكسّر هو التحطّم، لكنّ تكسّر الموج يختلف في دلالاته. فكما هو علامة انهزام الموج على صخور الشواطئ، هو كذلك علامة الهدوء والسكون، عندما تتكسّر أمواج البحر الهادئ بسكون تحت أنوار المغيب.
واختلاف التكسّر في الحالتين لا ينفي مبدأ الحركة في حالتيها أيضًا. إذ هو يختلف في الظاهر ويأتلف في المبدأ.
كان الإغريق ينظرون إلى الكينونة من خلال تأمّلهم العميق في الطبيعة. ويميّزون إذ يعاينون فيها قدرة عفويّة تلقائيّة على الإعتلان الذاتي بين هذه القدرة على الاعتلان والاختباء الكثيف وراء ما هو محجوب من أسرارها ومنكفئ في داخلها.
فما الذي أراد الشاعر حجبه في قوله:
«أم أنا بحرٌ تكسّر في سماء الأمنيات».
وما الذي أراد إعلانه؟
يكشف الاستفهام الحيرة المطلقة عند الشاعر، فإذا كان وهو البحر هو أيضًا وجه الغيم، فإنّ قدرته على وعي ذاتهِ خبيئة عنه وتقيم في مطاوي نفسه التي يجهل قراراتها. ونراه يعكس القول بالتساؤل المفرط: «أم أنا بحرٌ تكسّر في سماء الأمنيات؟».
إنّ مطاردة العلامات والدوالّ لتحديد المعقولات في النصّ لا يمكنها وهي تكشف وحدويّته إلاّ أن تفضح بداهاته وتمزّق الواضح فيه وتحيله بتأويلاته إلى طيفيّات تستحضر اللامعنى الكامن خلف المعنى. «فالانصات إلى الهواجس والاقصاءات في عمليّة التفكيك أهمّ للوصول إلى لا نهائيّة التأويل من عمليّة الفهم ذاتها». (جاك دريدا).
«إنّ كلّ حقيقة وجوديّة تحدّد ما هو ممكن في كينونته هي كينونة لغويّة مغايرة تُحطّم المركز وتضع المتغيّر المتعدّد في كينونات جديدة تتطلّب لفهمها كينونات أخرى». (جاك دريدا أيضًا).
فما الذي كشفته الطبيعة وما الذي خبّأته في تساؤل الشاعر البحر؟
عدا عن الصفتين الملازمتين للغيم اللتين تقدّم ذكرهما، وعدا عن صفات البحر العديدة، كالاتساع والثقل والكرم والجبروت والمصدر… يأتي جهل الشاعر لما هو عليه سواءُ أكان غيمتين أم بحرًا ليضفي على عنصرين من عناصر الطبيعة صفة التحوّل. والتحوّل هو طبعًا غير الحلوليّة. هذا التحوّل ذو سمة رئيسة هي سمة الائتلاف في الاختلاف فالبحر الذي يتحوّل قسمٌ من مائه إلى غيوم تتحوّل بدورها إلى مطر يتساقط فتمتصّه الجبال، تحوّله وتطلقه بعدئذٍ جداول وأنهرًا تعيده إلى مصدره فيعود بحرًا كما كان. ولأنّ لا شيء ينقص في الوجود أو يزيد، فإنّ الشاعر في كلتا الحالتين هو هو. سواءُ أكان بحرًا أم غيمةً أم جدولاً أم نهرًا. فالعودة إلى المركز الذي هشّمته الاحالات والتأويلات حتميّة. لكن الصفات والكيفيّات في الذات والموضوع هي التي تبدّلت من ممكن إلى آخر. فماء البحر غير صالح للشرب مثلاً. فيما ماء الينابيع صالح، والبحر لا يطير ويرتفع كما تقدّم لكنّ الغيوم تطير، وهلمّ جرًّا.
تكشف لنا إحالات النصّ أنّه أكثر من كينونة في ما تكشفه الطبيعة، فعظمة البحر واكتفاؤه بذاته على أنّه مصدر، وخفّة الغيوم وتحوّلها إلى مطر، كما عودتها مع الجداول والأنهار إلى مصدرها اعتلان واضح من الطبيعة أنَّها ممتلئة وذات سعة في مقابل الكينونات الأخرى. وإنّ موت البحر عن ذاته ليتحوّل إلى غيوم، وموت الغيوم عن ذاتها لتتحوّل إلى مطر وموت المطر عن ذاته ليتحوّل إلى جداول وأنهار تصبّ في البحر ما هو إلاّ عدميّات (كما ذكرت في المقدّمة) تحتضن جميع الكينونات. لا بدّ أن تمرّ بها لتعود مجدّدًا في كيانات أخرى.
ما الذي خبّأته الطبيعة في تساؤلات الشاعر؟
سواءٌ أكان الشاعر بحرًا أم غيمة أم مطرًا أم جدولاً كما ذكرت لا بدّ أن تحتضن عدميّته كينونته ومن هنا حيرتُه المفارقة. لأنّ كلّ مرحلة من مراحل تموضعه خفيّة عن التي سبقتها وعن التي تليها. فالممكن لا يعقل إلاّ ما هو ممكن فيه. كالنواة التي لا تعي أنَّ بإمكانها أن تتحوّل إلى شجرة نخيل. ومن هنا يأتي التساؤل كاشفًا أكثر من الكشف ولا نهائيًّا أكثر من المحدَّد في لعبة الصامت في النصّ المتعدّد.
ينتقل الشاعر إلى تحديد هويّته المفارقة بالقول:
«إثنان… إنّي إثنان».
أي أنّه يقول: أنا بحر وأنا غيمة.
يأتي هذا الإقرار بالحالة بعد الحيرة والتردّد ليحيلنا إلى مرحلة وعي الذات الإنسانيّة. فالبحر المؤنسن يعي كونه بحرًا. والغيمة الكثيفة البطيئة تعي ذاتها لكنّ أيًّا منهما لا يعي ذاته في الآخر.
يشير الرمز في الرقم (2) إلى الحيرة والتردّد، كما أنّ له دلالة على الخلق (ذكر وأنثى) كما يرمز أيضًا إلى الازدواجيّة. ولهذا فإنّ إقرار الشاعر بثنائيّته يحدّد علاقته الأفقيّة بالطبيعة. فالذكر والأنثى ممكنان في الكينونة التي تحيل إلى كينونات أخرى وهكذا دواليك في عمليّة إتمام مهمّة العدم من طريق الولادات.
والحيرة والتردّد يحيلان إلى عموديّة النظرة التي لا تكتفي بالأفقيّة وتبحث عن مرتكز ثالث يمسك بضفتيهما ليكون حكمًا بينهما ويجمعهما إلى حقيقة في خارج ذاتيهما المنغلقتين اللتين تدوران على نفسيهما في لا نهائيّة الآفاق المغلقة والمفتوحة في آن على المعرفة.
والعدم في الميتولوجيا غير مكتمل. إلاّ بالخلق المتوافر في الطبيعة المتحدّرة منه. لأنه مآل الممكنات في لانهائيّة الوجود الذي يبحث عن ذاته. إذا الوجود لا يعقل ذاته إلاّ في إقامته فيها والعدم لا يعقل ذاته إلا في عبور الممكنات إلى ممكنات أخرى.
هذه الازدواجيّة الصريحة عند الشاعر هي إقرار مسبق بما كان عليه دون أن يعي وبما سيؤول إليه دون أن يعي أيضًا في لعبة المصير الثنائيّة القديمة الجديدة والمتكرّرة في آن من دون أفق يشير لا إلى بدايتها ولا إلى نهايتها.
إذا هي ثنائيّة تطابقيّة توافقيّة من جهة (ائتلاف) وثنائيّة تعارضيّة ضدّية (إختلاف) من جهة أخرى وفي آنٍ معًا. وهذه الثنائيّة هي التي ولّدت حيرة الشاعر ثمّ أحالته إلى يقينيّة المآل.
وقد أطّر الشاعر هذه الثنائيّة بالزمان وهو الماضي والمستقبل. فما هو دور الزمان؟
يمثّل الماضي الممكن السابق للكينونة الحاضرة.
فيما يمثّل الغد الممكن المتوقّع واللاحق للكينونة الماضية ووعي الشاعر لهذا الأمر لم يعد تساؤلاً مجرّدًا بل أصبح قناعة بأنّ وجوده الآتي هو مرآة لماضيه المنصرم وإن تغيّر وجهه وتبدّلت رؤيته. فالأمر لا يعدو كونه تبدّلاً في المرآة التي تغيّر صورته فقط بتغيّر نظرته إليها.
فلماذا ماضيه يصارع حاضره؟
يشكّل الحاضر مركزًا غير موجود إلاّ كحدٍّ فاصل بين ماضٍ وآتٍ. هو أشبه ما يكون بجدار أكثر من شفّاف تتكسّر عليه جزئيّات الثواني فلا تكاد تصطدم به حتى تتراكم في الماضي. لذلك هو نسبيًّا غير موجود. فالإنسان فيما يعيش كينونته الحاضرة لا يعيشها بالفعل. فالماضي مضى والمستقبل لم يأتِ بعد. وهذا الوهم الذي إسمه الحاضر غير موجود فعلاً فلماذا يصارعه ماضي الشاعر وإلى ماذا يحيلنا الزمن بحدّ ذاته.
يحيلنا إلى الصراع الدائم بين الوجود والعدم، صراع لا غلبة فيه لأحد على الآخر. والإنسان أي كائن الكينونة الذي هو موضوع هذا الطرح لا حيلة له في وجوده مع هذين القطبين (الثنائيّة). اللذين يجتذبانه باستمرار فيحوّلانه إلى كائن ممزّق الهويّة (لا حاضر له). ينمو فلا يعي نموّه ويتضاءل فلا يعي تحوّله من هنا يتشهّى الشاعر غده «آتيًا في ثوب ماضٍ»، لعلّه في هذا الإنكشاف يعي بداءته التي يحنّ إليها ولا يتمكّن من تحديد هويّتها.
ومن هنا أيضًا يشطر الكاتب حنينه إلى اثنين: هما الماضي والغد. فبينما هو لا أمل له بوعي حاضره يتمنّى أن يقدّم له ماضيه إمكان فهم غده، وأن ياتيه غده بما يشير إلى ما كان عليه في الماضي. نظرًا لأنّ كيفيّات التحوّل لا تنقل ماهيّة المتحوَّل منه كاملةً إلى المتحوَّل إليه. ليصبح الحنين ليس إلى ذكريات مضت فقط بل إلى ذكرياتٍ لم تحدث على الإطلاق.
بهذا يفصح الشاعر عن تغيّره المتعدّد في وحدانيّة الوجود. فازدواجيّة الرقم (2) ليست إلا|ّ عبورًا نحو الكثرة المتعدّدة. التي على كلّ فردٍ منها أن يلتقي بآخر ليكمل عمليّة الخلق.
فمن هو هذا الآخر؟ أو ما هو؟
إنطلاقًا من أنّ الآخر هو ممكن أيضًا موجود في فضاء الممكنات اللامتناهي. يمكن أن نطلق عليه صفة التصوّر الطيفي لكيفيّة تشكّل فكرة موجود ما في مادّته قبل أن يتمّ هذا التشكّل.
وبما أنّ الكينونة بحسب هايدغر «هي إستخراج بنية الاختبار الوجودي الذي يُنشئ هويّة الكائن الإنساني». لا بدّ لي من تزكية بعض مباحث الفيزياء المعاصرة التي تقارن سيلان الكينونة بسيلان المادّة. (العدد الخامس من مجلّة الاستغراب). فالمادّة هي الطاقة، ولكي تختبر يلزمها فضاء. إذا يلزمها آخر تسيل به. فلا وجود للوجود المادّي بلا فضاء يشكّل جغرافية تجلّيه ويواكب تمدّده.
الإنسان بتركيبته المادّية فضاء للفكر. فضاء للشعور. فضاء للتحوّل. هو الكائن الصغير والصورة المصغّرة عن الكون العظيم.
وكما ازدواجيّة المادّة والطاقة بحاجة إلى فضاء (إلى آخر) فإن ازدواجيّة الروح والنفس بحاجة إلى (آخر) (الجسد) أي (الفضاء) يتجلّى فيها الصراع الأبدي بين الوجود والعدم.
هذا الآخر الذي تحدّده الجغرافيا (المكان) بالفضاء هو بذاته الجغرافيّة (المكان) (الإنسان).
فكيف يشكّل الإنسان فضاءً لذاته؟
يأتي الجواب من وعي الشاعر أنَّه كائن مغاير وضحيّة الصراع بين النفس التي هي العقل والرغبات وبين الروح التي هي الذاكرة الأبديّة التي تصون الكينونة في خلال سقطاتها بما هي حقل اختبار التحوّل. ولكن إحالة وعي الشاعر تقودنا إلى جهله أيضًا.
فبين وعيه الشموليّ لما هو عليه يظهر جهله المتنامي قبالة معرفته بصورة طرديّة. ذلك أن العلم لا يزال في إطار اكتشاف الطبيعة ولم يجب بعد عن أسئلته الوجوديّة بالكامل. ولم يقدّم بديلاً عن الماوراء المتمثّل بإحساسه أنّه في مكان ما وفي زمان ما هو يرتبط بذاكرة أبديّة تقبض على كلّ المعقولات وعلى العدم والوجود ولا تكشف طبيعتها شيئًا عن ماهيّتها.
إلامَ تحيلنا مقولة الشاعر: «فالحنين اثنان لم يتجانسا في داخلي ما بين منصرمٍ وآت»؟
إنّ أيّ عمليّة تجاذب يلزمها طرفان. لكلّ منهما طاقة جذب محدّدة. أمّا موضوع التجاذب ففيه أيضًا طاقة ممانعة محدّدة بأمرين. الأوّل هو الرفض والثاني هو القبول والمطاوعة.
إنّ ما يحدّد قابليّة عود خشبي للكسر هو: سماكته. نوع الخشب طوله أو قصره. وهي العوامل التي تشكّل قدرته على المقاومة. فكلّما كان العود قليل السماكة هان كسرُه. وإذا كان نوع الخشب رديئًا سَهُلَ كسرُه. وإذا كان طويلاً كذلك وهذا يحدَّد بالقبول والمطاوعة. والعكس يُحدَّد بالرفض والممانعة. ولا أقول هذا إلاّ من باب إسقاط المثل على المادّة لا على إرادة الرفض والقبول واتّخاذ القرار.
الجسد هو حقل تجارب النفس والروح. هو ممكن كما النفس وكما الروح ممكنان. وبما أنّ الجسد مادّة سائلة فإنّه يختلف بتكوينه عن أمارات النفس التي هي العقل والرغبات وعن الروح الذي هو لا مادّة المادّة. بهذا يصبح الإنسان الشاعر جغرافية للنفس والروح غير المتجانسين في داخله بواسطة الحنين.
فالنفس (الذات) التي تخشى أن تفقد موضوع وجودها (الجسد) تقاتل في سبيل أن يزيد استغراقًا في مادّيّته. والروح (الذات) التي موضوعها الجسد لا همّ لها إلاّ إبعاد الجسد عن مادّيّته وإلقاءه في فضاء الممكنات الأخرى. وهي تصارع النفس وتكره مقاومته لرغبتها.
أين هي الإحالة إلى النقيض (أي إلى إمكان التجانس بينهما)؟
رغم الإختلاف الظاهر على الموضوع (جسد الإنسان). إلاّ أنّ رغبة كلّ منهما في امتلاكه تأتلف. فالرغبة في الإمتلاك عند الأولى هي الرغبة في الإمتلاك عند الأخرى. وكسر الإنسان للإستيلاء عليه واحد عند الاثنين. فعدم تجانس حنينه إلى أيّ منهما لا يلغي تجانس رغبتهما في امتلاكه. وبهذا يصبح اختلافهما في الذات إئتلافًا في الموضوع.
يطرح الشاعر معنى وجوده في النصّ. فما معنى وجوده؟
أعود إلى ما تحيلني إليه لغة النصّ. والقول للشاعر:
«أنسلّ بينهما كما أرجوحة من جانبين متى اتّكأت بجانبٍ أهوي ويرتفع الحنين بأعيني».
الانسلال هو الخروج الخفيّ من مكان من دون ملاحظة الآخرين. لكنّه في عمليّة التأويل يشير إلى هروب الشاعر من تحمّل عبء هذا الصراع من قبل طرفي النزاع (الروح والنفس) من جهة، ومن جهة أخرى تركهما يصطرعان في الفراغ. وهاتان الاحالتان تقودان إلى إحالتين أُخرَيَين هما: أن الشاعر يقف على أرجوحة الزمن. في حاضر لا يملكه وغير موجود. بين ماضٍ يتوق أن يراه في ثياب المستقبل ومستقبل يريده أن يأتي بثياب ماضٍ. والرغبتان تمثلان رغبة واحدة والمستقبل يصبح ماضيًا والماضي مستقبلاً.
كما أنّه يحدّد موقعه باتّكائه على جانب من الأرجوحة، لأنّ الجانب المقابل سيرتفع عندما يثقل الموضع الذي يتّكئ عليه. فإذا كان الجانب المُتّكأ عليه هو البحر ارتفع الجانب الآخر الذي هو الغيمتان. وإذا اتّكأ على الغيمتين تحوّل إلى مطر متساقط وارتفع البحر في السحب.
كلّ هذا والحنين لا يزال بؤرة التجلّيات المختلفة التأويل. حنين البحر إلى التحوّل إلى غيوم. حنين الغيوم إلى التحوّل إلى مطر. حنين المطر للتفجّر جداول وأنهار. حنين الأنهار للعبور إلى المصبّ الأزلي الأبدي أي إلى المصدر الذي هو البحر. وهو ذاته الحنين لعودة النهر إلى الينبوع وعودة الينبوع إلى المطر وعودة المطر إلى السحابة وعودة السحابة إلى البحر. وبهذه النظرة التعاكسيّة يأتلف المختلف ويختلف المؤتلف.
ويتحوّل البحر بذاته في نهاية القصيدة إلى صيحة يجسّدها الاستفهام الانكاري الذي ينطوي على معنى الاستغراب.
«هل كنتُ ذاك الغيم؟
هل أنساب نحوه أقتفيه… أصير غيمًا في كثافة دمعةٍ تهمي لماضيها وتشهقها الجهات.
يطلق الشاعر صيحته الأخيرة. إنكارًا واستغرابًا. تمرّدًا لاعلى حال مجهولة. هل أنا كلّ ذلك؟ هل يأكلني الحنين؟ حنين السيرورة في صيرورتها المتقلّبة في الزمان والمكان؟ هل هذه الدمعة الكثيفة غيمة تمطر على ماضيها أم على ما ستؤول إليه؟ هل هي دمعة الحنين إلى الماضي أم إلى المستقبل الذي يريده آتيًا في ثوب ماضٍ.
ولم كلّ هذا الدوران في الوجود المتجلبب بالعدم.
هل ليصير الممكن أكثر إمكانًا؟
أم ليصير الكائن أكثر كينونة؟

الحنين

يسري الحنين
كغيمتين بطيئتين
على ضلوع البحر
والأمواج فيض الذكرياتْ
صوت الحنين
بحرٌ يُحدّثُ نفسَه
هلْ وجهُ ذاكَ الغيمِ بحرٌ؟
أمْ أنا بحرٌ تكسَّرَ في سماءِ الأمنياتْ؟
إثنانِ… إنّي اثْنانِ
لي ماضٍ يُصارِعُ حاضري
وغدٌ يُلوِّحُ أَشتهيهِ آتيًا في ثوبِ
ماضٍ
فالحنينُ اثْنانِ لمْ يتجانَسا في داخلي
ما بين مُنصرِمٍ وآتْ.
أَنسَلُّ بينَهُما كما أُرجوحةٌ من جانبينِ
متى اتَّكأْتُ بجانبٍ أهوي ويرتفعُ
الحنينُ بأعيُني
فأصيحُ بي. هل كنتُ ذاكَ الغيم هل؟
أنسابُ نحوهُ أقتفيهِ… أَصيرُ غيمًا في
كثافةِ دمعةٍ
تهمي لماضيها وتشهقُها الجهاتْ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى