سلسلة خَواطِر في النَّقد (الحلقة السادسة والأخيرة) النقد الأدبيُّ الصرّف
الدكتور وجيه فانوس
كَثِيرَةٌ هي الممارساتُ التي تتعاملُ مع ِالنَّصِّ الأدبيِّ؛ فمنها ما يُعَرّفُ عن النَّصِّ وواضِعِه، أي مُرْسِلِهِ، ويسعى إلى ربطٍ ما بين النَّصِّ ومُرْسِلِهِ؛ للدَّلالة على نفسيَّة المُرْسِل أو بيئته الفكريَّة أو تلك الاجتماعيَّة، وما هو مِن هذا القبيل. ومِن هذه الممارسات ما يسعى إلى البحث في البناء أو في التَّركيب التَّعبيري للنَّصِ؛ ويحاولُ أن يُشير، تالِياً، إلى ما يتجلَّى مِن أسرار بلاغَتِهِ، أو أن يُوضّح هذه البلاغة أو يُعلَّق عليها، مُبيِّناً ما قد يراه فيها مِن مجالاتِ تقصيرٍ أو رحاب غِنى. ومن هذه الممارسات، كذلك، ما يهدف إلى الكشف عن مضمون النَّص؛ شارحاً ما قد يتواردُ إلى تفكيرِهِ من أهداف المُرْسِلِ الشَّخصيَّة أو السِّياسيَّة أو مذهبِ تفكيرِه بالأمورِ والعوامل الكامنةِ في تحليلهِ لها؛ ومن هذه الممارسات، أيضاً وأيضاً، من يهتم بالأبعاد الجماليِّة الكامنة في النَّصِّ الأدبيِّ، فيحاولُ إماطة اللِّثام عن ما يتبَيَّنَ له منها، وإلقاء «بقع الضّوء» عليها، مقرِّباً إيَّاها من الأفهام، أو دارساً للبيئة التي تنبثقُ منها أو تتقبَّل استقبالها، وفاق معايير أو قِيَمٍ جماليَّةٍ معينة. ومن الممارسات أيضاً، ما يميل إلى الكتابة عن النَّصِّ الأدبيِّ باعتباره محاولةً في الدُّخول الإنسانيِّ إلى رِحابِ كلِّ واحد من مُسْتَقْبليهِ، ولكن من خلال إنسانيَّة مُرْسِلِ النَّصِّ.
فهل كلُّ هذا، نَقْدٌ أَدَبِيٌّ؟
إنَّ النَّصَّ الأدبيَّ الحقَّ، غَنِيٌّ غِنَى الحَياةِ، عَميقٌ حتَّى أبعد ما في أغوارها مِن العُمْقِ، مُرَكَّبٌ ومُتشابِكٌ إلى أقصى ما يمكن أن تعرفه من تركيب وتشابُكٍ؛ ولِم لا، أَوَلَيْسَ الأدب، في نهايةِ المطافِ، ابن الحياة ونتيجتها، ينطلِقُ منها وإليها؟ ولذلك، فكما تختلفُ نظراتُ النَّاس إلى الحياةِ، وتتعدَّد منطلقاتِ هذه النَّظراتِ وتتنوَّع؛ كذلك تختلفُ اهتمامات النَّاسِ في النَّصوصِ الأَدَبِيَّةِ الصَّادرةِ عن هذه الحياة.
إِذا مَا سَعى المَرْءُ إِلى فَهْمِ شَخْصِيَّةِ واضِعِ النَّصِّ، أو المُرْسِلِ، مِن خلالِ النَّصِّ الأدبيِّ، أو الرِّسالةِ، فهذا سَعيٌّ يَصُبُّ في خانةِ «عِلْمِ النَّفس»؛ بيد أنَّه يستعينُ بالنَّصِّ الأدبيِّ مُجَرَّدَ شاهدٍ ووسيلة. وكذلك الحال إذا ما سعى المرءُ إلى فهم البيئة الاجتماعيَّةِ، للفردِ أو للجماعةِ من خلال النَّص الأدبيِّ؛ فعمله هذا، يَصُبُّ في خانة «عِلْمِ الاجتماع»، وما تعامله مع النَّصِّ الأدبيِّ، ههنا، الاّ من باب التَّعامل مع الشَّاهد والدَّليل. وإذا ما حاول المرءُ أن يبحثَ في البنى التَّشكليّةِ للنَّصِّ الأدبيِّ، فإنَّ بحثه يتَّجهُ، في هذا المجالِ، نحو دروسِ الفصاحةِ والبلاغةِ وقضايا التَّعبير؛ ويكون النَّصُّ الأدبيُّ، في هذه الحال، مِن الوسائل التي تؤمِّن تحقيقاً لهذا الغرض. أمّا إذا ما سعى إلى كَشْفٍ عن الرِّسالةِ الفِكْرِيَّةِ أو السِّياسيَّةِ للنَّصِّ، فإنَّ عمله يَصُبُّ في خانة الفِكْرِ أو السِّياسةِ، أكثر بكثيرٍ ممَّا يَصُبُّ في خانة البُعْدِ الأدبيِّ. وكذلك الحال إذا ما سعى دارسُ النَّصِّ الأدبيِّ، إلى البحثِ في القِيَمِ الجماليَّةِ الكامِنة في النَّصِّ، فهو، في هذه الحال، باحثٌ جماليٌّ، أكثرَ منهُ باحث أدبيُّ. وَلَكَمْ خَلَطَ النَّاسُ، وما زالوا يخلطون، بين هذا كلِّه وما يمكن أن يكون نقداً أدبيَّاً صرفا.
أَيْنَ يَكونُ الأَدَبِيُّ في النَّصِّ، وأَيْنَ هُوَ النَّقدُ الأدبيُّ الصّرف مِنْ كلِّ هذا؟!
للعملِ الأدبيِّ حقائقٌ ووسائلٌ ومظاهرٌ؛ وما هذه الوسائلُ والمظاهرُ، سوى محاولاتٍ مِن قِبَلِ مُرْسِلِ العَمَلِ للتَّعبيرِ عن «حقائقَ» يعيشها هو، ولا يرى في نفسه بُدَّاً سوى السَّعي إلى التَّعبيرِ بها، إتماماً لعيشهِ لها، وسعياً منه إلى كشفه عنها، ومحاولة من جهته لتبيانِ ما يراه فيها. هذه الحقائقُ، هي حقائقٌ ذاتيَّةٌ وقد لا تكون موضوعيَّة، على الإطلاق؛ ولذا لا يمكن أن تكون إلاَّ مِن فيوضاتِ ذاتِ المُرْسِلِ. إنَّها حقائقٌ ذاتيَّةٌ مَحْضَةٌ، وليست حقائقَ موضوعيَّة؛ وثمَّةَ انميازٌ واضحٌ، بينَ ما هو ذاتيُّ، ههنا، وما هو مَوْضُوعِيٌّ.
«الحَقِيقَةُ المَوْضُوعِيَّةُ»، على سبيل المثال وليس الحصرِ، هي تلك التي تَذْكُرُ عديد المُعَوَّقينَ، جرّاء أحداثِ الحربِ، وحالَ كُلِّ واحِدٍ منهم؛ أمَّا «الحقيقةُ الذَّاتيَّةُ»، التي يَعِيشُها المُرْسِلُ، فهي معاناته الخاصَّة جرَّاء تعامله مع حالِ إعاقةٍ معيَّنةٍ حصلت بسببِ الحربِ. يَدخلُ التَّعبيرُ عن الأولى، في بابِ النَّثر؛ أيَّاً كان شكلُ هذا التَّعبير، حتَّى ولو كانَ، كما يُقال، موزوناً مُقَفَّى. ويكون التَّعبيرُ عن الثَّانيةِ، في بابِ الشِّعرِ؛ أيَّا كانَت قوَّةُ هذا التَّعبيرِ وكيفما كان بناؤه، حتَّى وإن لَمْ يَلْحَظَ «بُحور الخليلِ بن أحمد الفراهيدي»، وما استدركه عليها «الأخفش»، وربَّما سواه مِن علماءِ العَروضِ وضَليعي مَعاييرِ النَّظمِ والمُتَعَمِّقينَ في شؤونهما، بل وعُمُومِ ما وُضِعَ ضمنَ هذهِ البحورِ وتفعيلاتِها مِن جَوازاتٍ وتَجاوزاتٍ.
يتوسَّلُ التَّعبيرُ عن الحقيقةِ الذَّاتيَّةِ البلاغةَ؛ كما يتوسَّل المجتمعُ، بما فيهِ مِن أفكارٍ وعقائد، وما في هذه وتلك من مبادئ سياسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ وثقافِيَّةٍ، لإظهار ذاتيته، أي شعريَّته، وتحقيق أَدَبِيَّتِهِ. فالنَّصُّ الأدبيُّ، وإنْ كان يحوي موضوعاتٍ أو قضايا اجتماعيَّة وفكريَّة وسياسيَّة، وحتَّى إنْ كان يُعَبِّرُ عن ذاته بأساليب جماليَّةٍ وتقنيَّاتٍ بلاغيَّةٍ هي سعيٌّ نحو الإفصاح؛ فهذا كلُّه، ليسَ شَأْواً أساساً له؛ بل هو مِن ثمار ِالوصولِ إلى الأدبيِّ الحقِّ فيه. يَكْمُنُ الأدبيُّ الحقُّ، في أيِّ نَصٍّ، في الكَشْفِ عَنِ الذَّاتيَّةِ الخاصَّةِ بكلِّ مُرْسِلٍ عَبْرَ نَصِّه؛ ويحيا في قدرة هذا الكشف، على مساعدةِ مُسْتَقْبِلِهِ على أن يَتَعرَّفَ إلّيْهِ وأن يَتَبَيَّنَ مِن خلالِهِ ما في ذاتيَّةِ هذا المُسْتَقْبِل.
يُمْكِنُ، ههنا، تَصويرُ الوجود الإنسانيَّ بـ «الأهرام الأكبر» في مِصر. هذا «الأهرام» الذي يستدعي أكثر من منهجٍ أو مفتاحٍ واحدٍ، للدخول إليه؛ ويتطلَّبُ أكثر من خارطةٍ ذات نمطٍ وحيدٍ للولوج إلى قاعاته. ومع كُلِّ هذا، فلا بدَّ، بَعدَ تعيين ِالمفتاحٍ واعتماد الخارطة، مِن سَعيٍ إلى الولوجِ في الممرَّات المتشابكة، فيما بينها، وصولاً إلى القاعاتِ، المُوزَّعةِ بين صَمَّاءَ لا منفذ منها، وأخرى تَنْفَتِحُ على ممرَّاتٍ جديدةٍ ودهاليز مفاجِئةٍ؛ وتقودُ، كذلك، إلى قاعاتٍ أُخرى وغُرَفٍ غير مُتوَقَّعَةٍ وسراديبَ مُغْرِيَةٍ بألف اقتحام لخفاياها. ولا بدَّ، ههنا، من قدراتٍ لاكتشافِ ما في هذهِ الغُرَفِ مِن أسرارٍ وإشاراتٍ وما قد تخفيهِ، حيطانها وأرضيَّاتها وأسقُفها، مِن لُقىً وكنوزٍ، ولا بدَّ، بعد كلِّ هذا، مِن طاقاتٍ معرفِيَّةٍ وشعورِيَّةٍ للإحساسِ بهذه الأسرارِ والكنوزِ واللُقى.
ما تمكَّنَ كلُّ مَن سعى إلى اكتناه جميع أسرار «الأهرام»؛ فكلٌّ عرف من أمور «الأهرام»، قدر طاقاته الشَّخصيَّة على استيعاب المعرفة واكتناه ما ورائها. ولذا، فما أنفكَّ لغز «الأهرام»، أو ألغازه وخفاياه، محيّراً؛ وما برح وجوده مُغرٍ بكثيرٍ من المغامرات، وما زالت النَّتائج من كلِّ مغامرةٍ تدعو إلى مزيد. وإنَّ من كَتَبَ عن كيفيَّة نَقْلِ حجارة «الأهرام»، كَشَفَ شَأناً، غير أنَّهُ لَمْ يكتشِف كلَّ شيءٍ؛ وكذلك الذي اكتشف الباب الأوَّل من أبوابه، فإنَّه كشف عن بابٍ، لكنَّ بقيَّة الأبوابِ ما فَتِئت تدعوا إلى اكتشافها. أمَّا ذلك الذي درس من «الأهرام»، كيفيَّاتِ هندسته، أو هندساتِهِ، وهذا الذي سعى إلى كشفٍ عن بعضِ أغلاقه، فكلٌّ منهما، في جوهر عمله، لم يصل بالنَّاسِ إلى السِّرِّ الحقيقي الكامِن وراءَ عَظَمَةِ «الأهرام»؛ وإن كانا، في ما قاما به، قد ساعدا النَّاس على التَّقدُّم في مجال اكتشاف «الأهرام».
كذلك هو الحالُ في النَّقد الأدبيٍّ، ثمَّة ممارساتٍ لأمورٍ كثيرةٍ، هي من الوسائل؛ منها اللغوي والبلاغي والجمالي والنَّفسي والاجتماعي والتاريخي والواقعي والشَّكلاني والبنائي؛ غير أنَّ الشَّأن الأهم، يكمن في الوصول إلى اكتشاف مستوى العمق الإنساني الذي وصل إليه المُرْسِل، وفهمه؛ وهنا، هنا فقط، يكمنُ جوهرُ النَّقد الأدبيِّ الحق.
وهذا ما يَكونُ السَّعيُ إِلَيْهِ.
*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية