رؤيةٌ مختلفةٌ إلى إرهاصاتِ النَّهضةِ الأدبيَّةِ العربيَّةِ (الحلقة السَّابِعة) بلادُ الشَّام (أ)
رؤيةٌ مختلفةٌ إلى إرهاصاتِ النَّهضةِ الأدبيَّةِ العربيَّةِ
(الحلقة السَّابِعة)
بلادُ الشَّام (أ)
الدكتور وجيه فانوس
دكتوراه في النَّقد الأدبي مِن جامعة أكسفورد
رئيس المركز الثَّقافيِّ الإسلاميِّ
انمازَت بلاد الشَّام، في عقود القرن التَّاسِع عشر، بازدياد اهتمام الدُّول الغربيَّة بها؛ وربما كان هذا جرَّاء عدَّة عوامل لعلَّ من أبرزها الضَّعف الكبير الذي كانت تواجهه سلطة الخلافة العثمانيَّة. وهكذا، فإنَّ كثيرا من مناطق بلاد الشَّام التي تؤمِّن احتكاكاً أسرع من سواها مع الغرب، وخاصَّة السَّاحليَّة منها أو التي تجمع إثنيَّات دينية، كانت مسرح احتكاك متزايد مع الوافد الغربي بمختلف أوجهه وتشكُّلاته .
كثَّف المبشِّرون الكاثوليك، والفرنسيون منهم بشكل خاص، في النِّصف الأوَّل من القرن التَّاسِع عشر، جهودهم في الإرساليَّات التَّبشيريَّة والتَّعليميَّة التي أقاموها في المنطقة، وخاصة في جبل لبنان وما أحاط به من مدن. وكان من نشاطات هذه المؤسسات التعليميَّة للمبشرين أن نقلت إلى طلاَّبها من أبناء البلاد علوماً غربيَّة حديثة وكثيراً من الآراء المتعلِّقة بالثورتين الفرنسية والأميركية . ولعلَّ هذا مما ساهم في قيام بعض النَّشاطات السِّياسيَّة، الدَّاعِيَةِ إلى الحريَّة والاستقلال، بين أبناء بلاد الشَّام؛ الأمر الذي أذكى جوانب من روح ثوريَّة ونزعة إلى التَّجديد والتَّغيير في كثير من مناحي الحياة عند بعض أبناء هذه المنطقة. كما كان لتأليف الجمعيَّات الفكريَّة والأدبيَّة دورها في هذا المجال، إذ ضمَّت رحابها كباراً من مفكري تلك المرحلة وأدبائها؛ وكان للشُّعراء من هؤلاء أن عبَّروا بشعرهم عن ما كان يدور في خواطرهم وخواطر جماعاتهم من أفكار التَّجديد والتغيير والثَّورة .
وكان، في المقابل، أن لجأ ناس الدَّولة العثمانيَّة إلى الاعتماد على الحالات الدِّينِيَّة المتنوِّعة لتأمين غطاءٍ شعبيٍّ لسياساتهم؛ معتبرين أن الفكرة الدِّينِيَّة يمكن أن تؤمِّن، بما فيها من وهج شرعي، غطاءً لسلطتهم، كما يمكن أن تُوجِدَ تبريراً لمواقفهم الاجتماعيَّة والثقافيَّة وتثبيتاً لتوجُّهاتهم السِّياسيَّة والسُّلطويَّة. فسعوا إلى تعزيز بعض الأجواء الدِّينِيَّة والتَّركيز على أهميَّة القائمين على بعض المناصب الشَّرعِيَّة، فضلاً عن دعم كلِّ من يمكن أن يؤيِّد نهج أهل السُّلطة في الآستانة ضدَّ أيِّ وافد غربيٍّ سياسي كان أو ثقافي يعارض سياسة السَّلطنة العثمانيَّة أو يعمل على التَّشويش على خطط تعاملها مع ناس المنطقة . وكان من نتائج هذا أن طغت الحركات الصوفيَّة على كثير من مجتمعات بلاد الشَّام؛ وكان الشعراء، من أهل هذه التَّوجُّهات الدِّينِيَّة، روَّاد تعزيزٍ لاتِّجاهاتها وما في هذه الاتِّجاهات من تعارض أو تلاقٍ مع ما كان يذهب إليه الشعراء المتأثِّرون بالوافد الغربي ومعطياته الفكريَّة والأدبيَّة.
من جهة أخرى، كان بعض أهل بلاد الشَّام، وخاصَّة بعض مسيحيي جبل لبنان، يعتمدون اللُّغَة السِّريانيَّة، وليس العَرَبِيَّة، في كثير من طقوسهم الدِّينِيَّة وقسم من مجالات عيشهم؛ وكان لهذا الأمر أن أبعد قسماً من هؤلاء عن اللُّغَة العَرَبِيَّة الفصحى، وجعل تعبيرهم بها إمَّا ركيكاً أو ميَّالاً إلى الاعتماد على اللهجات المحكيَّة منها في مناطقهم وقراهم. وكان لا بدَّ من إحياء للعربية الفصحى في نفوس هؤلاء ومناهج تعبيرهم لتكوين إرهاصاتٍ تُبَشِّرُ بنهضة في الشِّعر العربي الفصيح في القرن التَّاسِع عشر عند هذه الجماعات. وهكذا سعى بعض الشعراء، من أهل البلاد، إلى مثل هذا الإحياء للفصحى عبر محاولات شعريَّة لهم تؤذِنُ بإرهاصات للنَّهضة الشِّعريَّة.
كان لبعض الشعراء منظومات لا تخرج في شكلها وجوهرها عن السِّياقات الشكليَّة للتقليد القديم في النَّظم، ومع هذا فإنها تراعي صحة اللُّغَة والميل بها نحو الفصاحة. ومن هذا ما نظمه أمين الجندي (1766 – 1840) يصف منطقة “الرَّبوة” في دمشق:
يا حبَّذا الرَّبوةُ مـن دمـشـقِ/بالفضل حازت قصَبات السبقِ
كم أطلعتَ بـهـا يدُ الـربـيعِ/من كل معـنـىً زائد بـديعِ
وفتح الوردُ الكفـوفَ إذ دعـا/داعي الصباح للهنا ورَجَّعـا
وفكّكـت أنـامـل الـنـسـيمِ/أزرارَ زهر الرَّند والشمـيمِ
وسقطـت خـواتـم الأزهـارِ/من فَنن الأغصان كالدراري
وانتفَّ سيفُ البرق في أوراقِ/مذ شام خيل الريح في سباقِ
ما بكت السماءُ بـالـغـمـامِ/إلا وصار الزهرُ في ابتسـامِ
ويبدو الفضل النِّسبي، خاصَّة في مجال سلامة اللُّغَة، لِما يرد في نظم الجندي، عند مقارنته بما في شعر بعض ناس جبل لبنان، الذين كادت لهجاتهم المحليَّة وركونهم إلى السريانيَّة يغيِّبان سلامة اللُّغَة العَرَبِيَّة عن منظوماتهم. ومن هذا القبيل ما يرد في نظم للقس حنانيا المنيَّر (1823-1756)، الذي عاش في جبل لبنان، يذكُر فيه بعضاً من التضرُّع الديني:
إني لفي عِظَـم الـوجـلْ/من قُـرْب أيَّام الأجـلْ
من بـعـده لا بُـدَّ مــا/يعروني في الدين الخجلْ
إذ إنني قَضَّيتُ عـمـري/بالملاهـي والـبَـجَـلْ
والحكم لـم يُقَـبـل بـهِ/عُذرٌ ولم ينفـع وجـلْ
ألجأ لعـونـكِ مـريمـاً/فاعطفي نحوي النجَـلْ
وتشفعـي بـي يا بـتـو/لاً وأدركيني بالعـجـلْ
وعلى هذا الأساس تظهر أهميَّة تجربة ناصيف اليازجي (1800-1871)، من جبل لبنان، في العمل على نظم شعر بلغة يجتهد فيها إلى مماثلة مشرقة للغة النَّماذج الشِّعريَّة التُّراثيَّة في الأدب العربي، مراعيا الميل نحو فنون التَّأريخ الشِّعري وسواها من الأمور التي كانت غالبة على الذَّائقة الشِّعريَّة في ذلك الزَّمن. ومن هذا ما يرد في قصيدته في مدح السُّلطان العثماني عبد العزيز، وضمن كل شطر منها تاريخ لسنة 1283:
ظل الإله علينـا أوجُ طـالـعـهِ/قد فاق فوق جهات الأفقِ كالعَلَمِ
في خلقِه عجبٌ في عزّهِ طـربٌ/راحاتهُ سحبُ بَهْمرنَ بالـكـرمِ
أمين ربَ الورى في الكون مؤتمنُ/على العباد لَحِقّ العهد والـذمَـمِ
بيد أنَّ النَّظم الشِّعري يرتقي عبر تجربة يوسف النَّبهاني (1849-1932)، من فلسطين، بمراعاةِ سلامة اللُّغَة وبعض العمق في التَّشخيص واعتماد ملامح من الدراميَّة التَّشخيصيَّة في الوصف؛ الأمر الذي يدل على عمق ما في تجربة النَّبهاني الشِّعريَّة، كما يشير إلى غنى في ثقافته اللُّغوية فضلاً عن قدراته التَّشكيليَّة ضمن فعل النَّظم. ومن مثل هذا ما قاله النَّبهاني في ذِكْر طيبة، وهي المدينة المنوَّرة:
هواي طيبة لا بيضاء عطبول/ومنيتي عينها الزرقاء لا النيل
عذراء جلت عن التشبيب إذ جليت/هامت بها الخلق جيلا بعده جيل
ما كنت أسأل لولاها الركائب عن/سلع ولا كان لي بالجزع مسؤول
متى أراها بطرف ظل يكحله/من تربة البيد ميل بعده ميل
ولا يقف النَّبهاني في شعره عند هذا الحد، بل يثير عبره موضوعات معاصرة تتمثَّل في تصوير ملامح من الصِّراعات السِّياسيَّة والحضاريَّة التي كانت قد بدأت تظهر في تلك المرحلة بين العرب والأتراك:
ويممت دار الملك أحسب أنها/إلى اليوم لم تبرح إلى المجد سلما
فألفيتها قد أقفرت من أهلها/ولم يبق فيها الفضل إلا توهما
وألفيت فيها أمة عربية/يرى القوم منها أمة الزنج أكرما
وما نقموا منا بني العرب خلة/سوى أن خير الخلق لم يكن أعجما
وإلى اللقاء مع الحلقة الثَّامنة، من “رؤية مختلفة”، “بلاد الشَّام ب”
- ١- ينظر في هذا المجال:
- زين زين، الصراع الدولي في الشرق الأوسط، الطبعة الثالثة، دار النهار، بيروت، 1977، ص. 53.
- محمد فريد، تاريخ الدولة العلية العثمانية، دار الجيل، بيروت، 1977، ص. 194، 219، 254.
- ٢-نقولا زيادة، الأعمال الكاملة، 15، شاميَّات-دراسات في الحضارة والتاريخ، منشورات الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 2000، ص. ص. 226-233.
- ٣-أنظر:
- علي حسون، تاريخ الدَّولة العثمانيَّة، المكتب الإسلامي، بيروت ودمشق، 1980، ص. 237
- محمَّد جميل بيهم، قوافل العروبة، جـ. 2، مطابع دار الكشَّاف، بيروت، 1948، ص. 19
- مجيد خدوري، الاتِّجاهات السياسيَّة في العالم العربي، الدَّار المتَّحدة للنَّشر، بيروت، 1978، ص. 30
- ٤-يراجع:
- خالد زيادة، الصورة التقليدية للمجتمع الديني، منشورات الجامعة اللبنانية، طرابلس – لبنان، 1983، ص. 109.
- ٥-لويس شيخو، تاريخ الآداب العَرَبِيَّة في القرن التَّاسِع عشر – طبعات مختلفة
- ٦-لويس شيخو، تاريخ الآداب العَرَبِيَّة في القرن التَّاسِع عشر – طبعات مختلفة
- – ٧-لويس شيخو، تاريخ الآداب العَرَبِيَّة في القرن التَّاسِع عشر – طبعات مختلفة
- ٨-يوسف النبهاني، سعادة الالدارين في الصلاة على سيد الكونين، تحقيق عبد الوارث محمد علي، منشورات دارالكتب العلمية، 1997
- ٩- ناصر الدين الأسد، محاضرات في الشعر الحديث في فلسطين والأردن، جامعة الدول العربية-معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، 1961، ص 18