سفر على متن القصيد / قراءة د. عماد يونس فغالي في قصيدة الشاعرة سهاد شمس الدين
قراءة في قصيدة الشاعرة سهاد شمس الدين:
كان أبي يعشق كل أشكال الحبّ…
كان يعشق الأرض والتراب…
ويعشق التبغ وقهوة المساء….
وكانَ الوطن مفصّلاً على جسده الأسمر شُهباً ونيازك…
آناً يتصبّبُ عرقاً…
وآناً يزدهر ورداً وقمحاً…
لكنّ أمي كانت تعشق أبي فقط…
لقد كان لها كلّ العروبة…
والوطن والتراب …
وكنيسة في بيت لحم…
ومأذنة الفجر في جرود الصحراء…
لم يقُلْ لها يوماً كمّ يُحبّها…
لكنّه نعتها بسنبلةِ القمح …
كان يعشق لونها…
وكيف تصافحُ غُدوةً ألق الشمس…
ويختار لها فساتينها بلون الشمس…
ويتفنّن في سكب القهوة لها في قرص الشمس…
ويختال عند رؤيتها كفارسٍ رايته النصر…
وحينَ ماتت أمّي…
إضمحلّ الكون…
إنطفأت النجوم…
واختفت من الوطن معلّقات الشعر والورد…
وأدرك أن أهلَ العروبةِ نيام…
وبأنّ زمان التّيهِ ولّى…
والأطفال على باب الوطن جِياع…
كرِهَ التبغ…
تذكّر أنّ للمرارةِ ألفَ باب….
وبابُ المنفى أشقى باب..
وعلى طاولةٍ مستديرة رسمَ خارطة الطريق…
اغمض عينيهِ…لا بأس قال…
سألحق ركبَ الشهداء..
سأوافي المتعبين من رسمِ الوطن على حجارةٍ صمّاء…
وسأرسمُ الإنتصار رغداً في عرين الفقراء…
وسأقول لحبيبتي أحبّكِ وفي تراب الوطن لنا لقاء…
الشاعرة سهاد شمس الدين
لوحةٌ كمال!!
كان الجمالُ في “أبي”، الوطنُ، الحبُّ، الطبيعةُ القهوةُ، الأرضُ، العروبة… وكانت كلّ تلك في ناظرَيْ “أمّي”، هي “أبي”.
لم يقلْ يومًا لهذه “الأمّي” أحبّكِ… لم يبُحْ لها قطّ بمشاعرَ…. لكنّه فقط عاملَها بلون الشمس، فكانت ضياءَ حاله، وحرارة تواصله…
“وحينَ ماتت أمّي”، انطفأ “أبي”. انتهى كلُّ ما أحبّ من صغير أشيائه التعبيريّة، التي كانت كبيرَ تعبيرات ذاته. مات الحبّ في سببه، في فاعله، وصار الشوق إلى “وسأقول لحبيبتي أحبّكِ وفي تراب الوطن لنا لقاء…”!
بطُلَ الموتَ فعلَ نهايةٍ، صار لقاء. وفي اللقاء حياة. صار الترابُ انبعاثَ حبٍّ، فعلَ لقاءٍ، بل بقاءٍ وحياة.
في لوحةٍ ألوانُها المشاعرُ البنويّة، رسمتِ لنا، سهاد شمس الدين، بريشةٍ شاعريَة، مقاربةَ الحبّ المتبادَل بين أبويكِ، نتلمّسُ إشراقاتها، تعمّنا أجمعين… هيهاتِ نجدُها اليوم في بحثنا القيميّ. فتحضرني في عجالتي هذه قولةُ جبران: “وُلدتما معًا وتظلّان معًا، حتى في سكون تذكارات الله”. أيّ إطارٍ عروبيٍّ، لبنانيّ أصيل، مشرقيّ الهوى، خلقَ لنا “أبي” و”أمّي”، في تبادلٍ عشقيّ، سماويّ الارتقاء، إنسانيّ الانتماء، لا نموذجًا أفلاطونيًّا، بل واقعًا تلمّسناه في منشأنا معجنَ أصالة!
قد يذهبُ ناقدٌ في دلالات قراءته، إلى توحيدِ “الأبي” في القصيدة مع الوطن، و”الأمّي” مع المواطن… في رأيي، اسمحي لي شاعرتي، يُسقطُ معيارَ الإنسان فيهما… نموذج الثنائيّ الذي عرفتِه أباكِ وأمّكِ، جديرٌ بالصورة العليا التي “برْوَزتِه” بها، علّ تناقُلاً يؤدّي المرتجى، فتصل الرسالةُ أن هنا، كمالُ إنسان!!
الدكتور عماد يونس فغالي