أدب وفن

الذاكرة وجدليّة الانكسار والتغيير في رواية “وادي الغيوم” للكاتب د.علي نسر


*د.غادة علوه

انتشرت ثقافة الذاكرة في النصف الثاني من القرن العشرين، نتيجة الحروب والآلام التي مرّت على البشرية، فظهرت آثارها في العديد من الأعمال الأدبية المنجزة. والدارس المتعمّق في الأدب العربيّ المعاصر، يستنتج ما تضمّنه، منذ سبعينيات القرن الماضي، من كشف وتعرية وتمثيل تجارب الاستعمار والصراعات والنكبات والخيبات والانتصارات. وتعدّ الرواية سجّل أحوال الأمة، فالروائي ينتقي الأحداث من تجارب الماضي، من أجل الإفصاح عن وعي معيّن ونشره، أو من أجل السعي لمستقبل يطمح به لأمته. ولعلّ خصوصية البلاد العربية التي خضعت للاستعمار، جعلت بعض الروائيين يستخدمون ذاكرة الهزائم القومية، متحدّثين عن السجن والاغتراب والانكسار، نتيجة الخيبات التي تراكمت على الإنسان العربيّ. كما طرح الروائيون فيها أيديولوجيات ونظريات سياسية، بغية التأثير في القرّاء وثقافات المجتمعات؛ نظراً لما للأدب من دور بارز في التذكّر، للتأثير في الذاكرة الجماعية، وخلق مسارات متعدّدة التأويل.
ورواية “وادي الغيوم” التي يحمل عنوانها رسالتها الأولى، والتي تشير خاتمتها إلى العلاقة الوثيقة بين الحاضر والذاكرة “أدركتُ أنّ الأمام عبارة عن ذاكرة تجيء بنا إلى قدّامنا” (ص231)، طرحت موضوعات جدلية، فتجلّت فيها جدلية الانكسار والتغيير، من خلال مواقف وعلاقة الشخصية المحورية يوسف قنديل مع ماضيه، ومع الشخصيات الأخرى وواقعه.
إنّ العنوان “وادي الغيوم” يحتوي كلمتين تجمعان تضاداً؛ فكلمة “الغيوم” معرّفة وبصيغة الجمع، وهي مضافة إلى كلمة “وادي” بصيغة المفرد، التي توحي بالانخفاض بدل الارتفاع الذي يتوافق مع الغيم، ما يدلّ على أنّها غيوم غير ممطرة، وتوحي بالتراكم وانعدام الصفاء. هكذا حمل العنوان دلالات الغموض والضبابية والتكدّر، وفتح أفقاً قابلاً لعدّة تأويلات من خلال “الوادي” المنفذ لكلّ سيل يتجمّع فيه، وبالتالي احتمال حالة الوعي المنقذ، كي يغيّر الضبابية التي فرضتها الغيوم، ما أوحى أيضاً بحالة من الصراع سيتناولها متن الرواية.
وقد ساعد اعتماد الكاتب تعدّد الرواة على كشف أعماق كلّ شخصيّة، والتعرّف المباشر إلى ما عبّرت عنه من معاناة بشفافية، وجعل شخصية “يوسف قنديل” الشخصية المحورية بينها؛ فهي التي عكست الصراع بين الذات وما يحيطها، وهي التي أفرغت لنا ما تحتويه ذاكرتها من حزن وتعب. فوصف يوسف نفسه، قائلاً: “أنا المتعب من ثقل الخيارات..أنا المشرّع وجهي للاجهات ..(ص13)، كما بيّن لنا التحوّل المتعدّد الوجوه، الذي نلحظه في الحياة مع بداية الرواية، حين نظر في المرآة إلى وجهه قائلا:” كلّ شيء في حالة تبدّل وتحوّل، هناك التحوّل من الجميل إلى الأقلّ جمالاً، لكنه ينتج الفائدة، كتحوّل الزهرة إلى ثمرة. وهناك التحوّل من القبيح إلى الجميل دون نفع، بل للجمال فقط، كتحوّل الدودة إلى فراشة. وهناك التحوّل من الجميل إلى القبيح دون أي منفعة، كتحوّل العقل إلى مجرّد أداة تثبت ما هو معروف فقط، فتتكلّس ويجعل أصحابها الآخرين يفكّرون عنهم” (ص 29). وقد أتبعها الكاتب بطروحات أيديولوجية عديدة قدّمها بلسان الشخصيات حول الحركات العلمانية والقومية واليسارية والدينية، والصراعات التي تشهدها الساحة، مبيّناً اجترار الأمة تاريخها، مع تعديلات لم تعمل على تغيير وجهات الحياة. وهذا ما أوحى بجوّ من النقاش الفكري بين شخصيات الرواية مع اختلاف توجّهاتها.
أمّا شخصية يوسف المحوريّة، فقد عكست صراع الأزمنة المتداخلة داخل ذاكرته، وعبّرت عن التحوّلات التي طرأت على كثير من المفاهيم؛ فهي الشخصية التي عاشت وطأة زمن خروج الفلسطينيين من تل الزعتر، ثمّ رحيلهم بعد حصار بيروت واجتياحها، وقصة الحب بين وفاء وجلال، مع ما رافق ذلك من تحوّل من الجمال إلى القبح في بعض مفاهيم الحب والسياسة، من خلال رواية استوطنته،عنوانها “رقص على موسيقى الرصاص”. فتداخل لديه زمن الرواية مع زمن نضاله في ذاكرته، زمن مشاهد الأجساد الممزّقة خلف الجدر وداخل الأزقة المحاطة بأكياس رمل عالية، ترافقها خيبة في نفسه، وزمن خلافه مع زوجه سهى التي تركته، وهربت بولديها، وكذلك صراعه مع نفسه تجاه حبّه لمرام التي لم يحافظ عليها، فغادرته وكسرت قلبه. وهذا ما دفعه إلى الهروب من مواجهة مشاكله بشرب النبيذ، من دون معالجة حالة الصراع التي يعيشها.
وتظهر لنا شخصية يوسف في موقف انتصار على النفس، حين واجه المرأة التي حاولت الهروب إليه بالرفض، حفاظاً على ظهر الخطوط الأمامية في الجبهة، ظهر الزوج الذي يدافع عن الأمة؛ فكانت تلك المرأة مثالاً للشخصية الضعيفة أمام اهوائها، والمنكسرة أمام قناعات تؤمن وتفتخر بها، من الواجب أن تبذل حياتها لها منذ ارتباطها بشخص مجاهد. وهنا نلاحظ أنّ دفاع يوسف يمثّل ارتباطه بالخط النضالي أكثر من ارتباطه الديني؛ فيوسف الذي أحبّ زوجها المجاهد، ولم يرضَ عن تصرّف الزوجة من أجل أن يحافظ على ظهر من ينام في الخندق دفاعاً وحفاظاً على الأرض من الأعداء، سمح لنفسه تخطي حدود حياة مرام الزوجية، ولم يردع نفسه حين التقى بها. لكن مرام التي عاشت في صراع بين حبها الأول والمحافظة على حياتها الزوجية، اختارت الرحيل الكامل والانقطاع عن كلّ ما يجدّد لها انكسارها بخطأ أكبر. وهنا نلاحظ التغيّر الحاصل من قبل كلّ من يوسف ومرام؛ فتصرف يوسف مع زوجة المجاهد خالف أهواءه، وقرار مرام بالانقطاع الكلي عن يوسف قرار خالف أهواءها، ما يدلّ على العلاقة الجدلية القائمة بين الانكسار والتغيير، من أجل تخطّي الصراع لدى الشخصيتين.
وبالنسبة للصراع الذي عاشته أمّ يوسف، ودفعها إلى الانتقال للعيش في “وادي الغيوم”، لتخفي آلام ذاكرة مؤلمة عن ولدها يوسف، جعل منها شخصية منكسرة أمام موت زوجها وابنتها صباح، وصارت ضحية عدم مواجهة مشكلتها وسط مجتمع يخلط بين الدين وما توارثه الأجداد من عادات وتقاليد تخالف الدين، وكان الهروب مصير الأمّ التي خافت من التغيير، فعاشت الوحدة والغربة والتقوقع. ومع معرفة يوسف بأسباب غربة أمّه ورحيل مرام مجدّداً، صار في حالة انكسار متراكم، إلى أن جاء خبر شهادة صلاح، وألقيت عليه مسؤولية نقل الخبر إلى عائلته. فحصل التغيير في مسار الصراع الذي عاشه طويلاً، واختار الذهاب إلى البحر بدل الذهاب لإخبار عائلة صلاح بالخبر، لقد هدّ رحيله عزيمته، إنّه نفسه اللوامة “كنتَ نفسي اللوامة في حياتكَ، فلماذا تحرجني وتهدّ من عزيمتي في موتكَ؟” (ص 230). واللافت اختيار لفظة الموت بدل الشهادة، ما يدلّ على اختلاف التفكير بينهما، فهما (المختلفان على أكثر أمور الحياة” (ص6). بعدها نجد أنّ يوسف تحت وطأة انكسار لا بدّ أن يقوده إلى تغيير ما، فيأخذنا الكاتب إلى ما يفكّر يوسف به :” أدركتُ أنّ الأمام عبارة عن ذاكرة تجيء بنا إلى قدّامنا، وأغمضتُ عينيّ على أرجوحة الزمان المنصوبة بين شجرتي العمر”. إنّها الذاكرة التي تشير إلى ما يحمله يوسف من حزن وتعب الزمنين الماضي والحاضر؛ فتراءت أمامه مشاهد سهى وولديه وصلاح وصباح وأبيه، وشاهد وراءه أمّه المنكسرة أمام البستانيّ الذي طردها يوماً، تتذلّل له، من أجل أن يمنع ابنها عما يقدم عليه، ووقف بجانبها جلال ووفاء المنكسران أمام القضية التي آمنا بها. عند ذلك، أغمض عينيه على الزمان الممتدّ من ماضيه إلى حاضره.
هكذا، يضعنا الكاتب في الخاتمة أمام تأويلين: الأول يشير إلى الإقدام على الانتحار، وبذلك انتصار للضعف وإعلان صريح للانهزام وقبول الذلّ الذي ظهر بمشهد أمّه وجلال ووفاء، والثاني يشير إلى تغيير في تفكير يوسف نتيجة صدمته بشهادة صلاح، والانتقال من الانكسار إلى التغيير، بالانتصار على الخيبة التي أغمض عينيه عليها . لعلّ هذا ما أشار إليه قول صلاح ليوسف: ” مشروع تخرّجي في الحياة أنتَ يا يوسف”، وبذلك تكون شهادة صلاح الصدمة التي كشفت الغيم عن نفس يوسف، ليصحو وينظر إلى زمن النصر الذي بدا ضعيفاً في التمثيل السردي. وهذا ما أشار إليه الكاتب، من خلال تعبير يوسف عمّا فهمه من استفزاز صلاح له، أثناء حوار بينهما “كأنّه يقول لي: اصحَ وانظر إلى زمن النصر اليوم” (ص66)، وهذا ما يضعنا أيضاً أمام التغيير الذي واكب المشهد الأخير، التغيير أو التحوّل الذي نضيفه إلى ما أعلن عنه يوسف في البداية: التحوّل إلى الأجمل، من أجل الفائدة والجمال.
من هنا نستطيع القول: إنّ رواية “وادي الغيوم” أتاحت لنا تلمّس أهميّة ثقافة الذاكرة في تحسين الحاضر، بأسلوب يجمع بين عذوبة اللغة وجمالية السرد، وهي رواية تستحقّ التوقّف عند مضمونها الغنيّ بالقضايا المطروحة الجديرة بالتحليل والمناقشة، كما تستحقّ إبراز خصائصها الفنيّة التي امتازت بها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى