أدب وفن

بداية الفصل الأول من رواية «شمس»

الدكتور محمد حسين بزي

  • بداية الفصل الأول من رواية «شمس»

الأيّام الّتي لا تمرّ مفعمة بالكثير، لا تعدّ من العمر في شيء…
هكذا مرّ هذا اليوم، ملؤه الأعمال والأفكار، ملؤه اللاهدوء، حيث كانت تمارين الفروسيّة هي الشغل الشاغل لـ شمس، القصر الكبير يشهق بقفزاتها الملأى حيويّة وحياة، شمس الّتي تمزج الضّوء بالحياة، فتنثر ابتسامة تحمل صك العناق لكل ما حولها. بالرّغم من يقينها أنّ الأيّام في هذا القصر الوثير لا تشبه عداها من أيّامٍ تمهرها الآلهة بالبركة والمحبّة.

الفروسيّة، عشقها الجميل يدعمه بروتوكول مكانتها، فهي ابنة الملك، ولا بدّ لها أن تتقن ما تتقنه الأميرات، لا بدّ لها أن تضاهيهنّ وأن تبزغ بينهنّ شمسًا لا تتكرر.
ستّ درجاتٍ من الرّخام القاسي لم تمتلك القدرة على التغلّب على خطواتها المتشبّعة شبابًا وطاقة وفرحًا.
فراشةٌ هي؛ والضّوء وحده يقتفيها، عرّابتها السّماء، وصولجانها الغنج والدّلال، تتلقفها النّسائم وهي تختال حتّى آخر الممر الطويل الذي لو نطق لسبقته تنهيدته وأمنيته ألّا تغادره «شمس» أبدًا، تبادرها «لولو» خادمتها الشّقراء لتفتح لها باب البهو الكبير اللّاهث شوقًا لاستراحتها المعتادة في قلبه بعد التّمرينات المُنْهِكة لأعوامها السّبعة عشر…
ترى، كمْ من الأشياء في هذا المكان تكنّ الحسد لأريكة «شمس»؟ تلك المخمليّة المُبطنة بريش الإوز الّتي تنعم باحتضانها كلّ يوم، تلقي بجسدها في دلال ودعة، فتتراقص أصابعها بتلقائيّة نحو قلنسوتها الّتي تحتلها ثلاث ريشات رَبَد من ريش النّعام، سابحات في فراء النُّمور تتلقفها «لولو» وتودعها المشجب القريب، لتعود مهرولةً تحرّر قدميها الصّغيرتين من حذائها الجلديّ الطويل، تسرقُ نظرةً فأخرى إلى وجّه «شمس»؛ الذي لا يفلح في تجاهل الضّيق من الدّرع الزردي المشدود على خاصرتها.

تنهيدة طويلة تسرّح كلّ ما يعتري صدرها من ضيق، مصاحبة لإلقاء رأسها على مسند أريكتها الأرجواني، ولا أعذب من امتزاج الأرجوان بأبنوسيّة شعرها الذي يتماوج على كتفيها ويراود صدرها عن بياضه، ليكشف عن ملائكيّة وجهها محتضنًا نبعي خمرٍ وبهاء، عينين باهرتين؛ تضمّان الحلم والغواية، وتجمعان النّار بالجنّة، ينسدل جفناها دون إرادة، نصف إغماضة كانت كفيلة بتعامد رموشها السّوداء الطويلة على عينها، كقضبان ظلٍّ لا يتولّد إلّا عن ضوئها الآسر.

تتنهّد مجدّدًا وتطرق: ليتني خُلِقتُ رجلاً..! إنّها الأمنية الّتي لا تبرحها أبدًا، فتدفعها لأن تبدوَ في مظهر رجوليٍّ يدعم هذه الأمنية الجاحدة… كان عليها أن تقسوَ على نفسها وفاءً لما تتمنى، أن ترهق هذا الجسد المنحوت كقطعة فنيّة بالمزيد من المبارزات والتدريبات القاسية، أن تتحدّى رشاقته وتضاهي بها رشاقة الخيل الأصيل وهي تؤدّي تدريبات الفروسيّة، أن تعاندَ دقته ورشاقته بالرّماح والتراشق بالسّهام والكرّ والفرّ على منوال الفرسان الأبطال، والمغاوير الأشدّاء.

لم يُثنِها شبابها النّاصع وحيويّتها الدّافقة عن مجاراة الفرسان في تدريباتهم المعقّدة، بل زادها طموحًا في بلوغ أوج الفروسيّة، بعد أن ارتدت أثوابها وانغمست في أفانينها، منسجمة معها كلّ الانسجام.

ينقطع خيط أفكارها بانحناءة «لولو» أمامها حاملة كوب الليمون المُحلّى، تتناوله بكسل محبّب، ليتدفّق بين شفتيها الغضّتين سعيدًا بملامستهما، هل يمكن لهذا الشراب أن يعرف كم هو محظوظ لامتزاجه بريقها؟ هل يمكنه أن يدرك حجم الحظوة الّتي حباه الله بها؟؟ أم أنّه باقِ على جموده وجهله؟؟؟

تثِبُ بخفّة، وظلها لولو تتبعها بابتسامة بهيّة نحو غرفتها؛ لتساعدها على خلع درعها الزّردية الرّبداء، وردائها الكتّاني، ليبدو قدّها الأهيف الممشوق، وتصرخ أنوثتها الطّاغية القادرة على الفتك بعقول أحكم الرِّجال، والماءُ وحده صاحب السّعادة الذي سيطوّق هذا البهاء.
فحوض الماء الممزوج بالعطر ينتظر جسدها بشغف، ليضمّه ويشمّه، ليتعطر بعبق أنوثتها المبهِرة، تشاركه هذه السّعادة يدا «لولو» اللتان تمرّان على جسد «شمس»، تدركانها بحنان وهدوء، فالقسوة قد تخدش شفافيّته، وتنال من رقته، وكذا أريكة الحمام لها من جسدها نصيب، فلا بدّ أن تتعطّر الدهون المصريّة، والخزامى العربيّ بهذا الجسد، لا بدّ أن تنال كلّ الأشياء هنا حظها من ألق «شمس» ودفئها، بدءًا بالقلنسوة وانتهاءً بالغلالة العنّابيّة الشّفافة والثّوب القطني الأسمانجوني النّاعم.

اكتملت إشراقتها، وغدت من جديد أنثى بكامل عبقها وألقها ورقتها، إنّها نفسها شمس الّتي تتحرّك في صدرها أمنية أن تكون رجلاً، هي نفسها الّتي تجالس وصيفاتها، تستمع إلى أحاديثهنّ بصبر وأناة، وبأدب جمّ. إنّها الأميرة الرقيقة، ابنة حاكم مملكة «أوسان» القحطانيّة العربيّة الغنيّة الممتدّة أطرافها في كلّ اتجاه، الأمير «يشجب» الذي لا يتقاطع مع «شمس» في شيء من صفاتها، بل على العكس تمامًا، فهو طاغية جبّارٌ من طغاة الأرض؛ بالرغم من أنّه لم يكن ملكًا، بل وصيًّا على مَلِكها الشّرعي «مالك» ابن أخيه المتوفّى منذ بضع سنوات.

«مالك» الذي كان عليه أن ينتظرَ عامَين آخرين حتّى يبلغ الحادية والعشرين ويكون أهلاً لاستلام الحُكم بما تقتضيه شرائع المملكة، لم يكن له مناص من احتمال غلظة عمّه وجبروته، فلن يتمكّن من اعتلاء عرش آبائه وأجداده حتّى يبلغَ السّن المفترضة… الطّمع، والتشبّث بالمُلك والحكم يجعل هذا أمرًا شبه مستحيل، فيما كان الملك الشّرعي الشّاب يقضي حياته في قلعة «تاريم» الكبيرة البعيدة عن العاصمة «ذات البهاء» الواقعة في منتصف المملكة كواسطة العقد. …….

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى