أدب وفن

الزمان والنص الروائي (3) النَّصُّ وفاعليَّة الزّمان المُجتمعيّ

الدكتور وجيه فانوس

ثَمَّة عنصران أساسان تقوم عليهما فاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ؛ هما «الزَّمان» و«المجتمع». فكلٌ من الزَّمان والمجتمع، ينفعل بالآخر ويفعلٌ فيه في آن؛ وذلك بحكم كَيان كلِّ واحدٍ منهما، وبحكم ما يربط واحدهما بصاحبه. من جهة أخرى، فثَمَّة عوامل كثيرة تعمل على تفعيل هذين العنصرين لَعَلَّ من أبرزها، على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر على الإطلاق، حركيَّة النَّاس بكل ما فيها وكلِّ ما ينتج عنها من أحداث وعلاقات؛ وكذلك، القوانين المتَّبعة وكل ما يلحق بها من قبول ورفض وتغيير وتجديد. ويضاف إلى كل هذا، القِيَمُ والمفاهيم وكل ما يلم بها من قبول ورفض وتغيير وتجديد وصراعات؛ وأيضاً العادات والتَّقاليد وكل ما يحيط بها من تناقضات وصراعات ومحاولات تحديث، مع الأمورُ الكَونيَّة بكل ما فيها من أبعاد مناخيَّة وبيئيَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة، وتالياً، قيميَّة ومفهوميَّة؛ وصولاً إلى القضايا الإنْسَانِيَّة العامَّة منها والخاصَّة بأبعادها السِّياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة والفلسفيَّة والذَّاتِيَّة.

من نافلة القول، ههنا، إن هذه الفاعليَّة تعمل على إظهار المجالات المرتبطة بطبيعة البيئة الزمانيَّة والاجتماعيَّة التي تكون فيها؛ فَتَجِدُ مجالاً لإظهارِ ذاتها في كل ما هو نشاط يمارسه ناس هذه البيئة. وبذا، يُصبِحُ نشاط المجتمع، بكل أمدائه، مرآة لهذه الفاعليَّة ومحطةَ إظهارٍ لوجودها؛ ولا يَكون نتاج ناس هذا المجتمع إلاَّ صدىً لها وميداناً لتأكيد حضورها ودلالة على حقيقتها وتحقُّقِها. ومن تحصيل الحاصل أن ما يقوم به الإنسان من نشاطات تنتمي إلى الفكر والآداب والفنون والسُّلوك.
يدخل ضمن ، كلِّ هذا، الأمداء والأصداء، التي تُظْهِر فاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ وتؤكِّد حقيقتها. ومن هنا، فإنَّ كلَّ ما تتجلَّى به هذه النَّشاطات لا يَكون إلاَّ من باب الدَّليل على فاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ، ويصح أن يَكون ميداناً لدرسها وتحليلها وتقييمها والوصول إلى خلاصات تتعلَّق بها وتؤثِّر في سواها من أمور الحياة وقضايا العيش وحقيقة وجود الإنسان عبر ارتباطه بما يحيط به ينتج عن هذا الارتباط.
إن ما ينشأ عن الوجود الإنساني، من نشاطات أدبيَّة، لا بًدَّ له من أن ينتظم ضمن هذه الرؤيَّة لفاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ؛ ولا بًدَّ له من أن يَكون مرآةً لهذه الفاعليَّة وصدىً لها. ويشير واقع الحال، في هذا المجال، إلى ارتباط عضويٍّ تأسيسيٍّ وأساسٍ، بين الأدب واللُّغة، بمعناها الوجودي الدَّال على تحقيق مستمر لكينونة الأدب. فاللُّغة، هي الوجه الذي يعبِّر عن الفن الأدبي في تجليَّاته التَّوصيليَّة والتواصليَّة؛ وهي، أيضاً، البابُ الشَّرعيُّ والواقعيُّ العمليُّ، الذي تنفذ من خلاله وبه الرُّؤيا الأدبية من مستوى التَّصوَّر الذي تكون فيه، لدى مُرْسِلِها أو ما يُعْرَفُ بالأديب، إلى مستويات التَّلقي الَّتي تَتَمَظْهَرُ بِها لِلنَّاس، أو ما يُعْرَفُ بالقارئ أو المُسْتَقْبِل.

لا تَتَمَظْهَرُ اللُّغة في الأدب بتشكًّل واحد، أو بمستوى واحد، أو بقدرة على الفعل واحدة؛ فاللُّغة مرتبطة بطبيعة الموضوع الذي يتجلَّى عبرها، ومرتبطة، كذلك، بطبيعة أسلوب التوصيل الذي تُقدَّمُ بهِ إلى مُسْتَقْبِلِها. إنَّ للغة تجلياتها الخاصَّة، المنبثقة عن التكوُّن العضوي الذي يسيطر عليها، بحكم ما تعبِّر عنه من موضوعات وما تتكوَّن به من أساليب وبنى. ولذا، فإن لكل واحد من الفنون التي يتشكَّل من خلالها الأدب، ميزاته الخاصَّة التي يؤثِّر بها على القدرة التَّعبيريّة للغة في أن تكون مدى لفاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ وصدىً حقيقيَّاً وواقعيَّاً لها.
إن لغة بعض الفنون الأدبية، قد تكون أكثر قدرة من سواها على أن تأمين مدى فسيحاً، لا عثرات فيه، لإبراز فاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ؛ والوصول، تالياً، إلى تحقيق صدىً أقرب ما يَكون إلى طبيعة الواقِع وحقيقة وجوده. فلغة الشِّعر، على سبيل المِثال وليس الحَصر، لما في طبيعة العملِ الشِّعري من جماليَّة مكثَّفة وابتعاد أصيل عن المباشرة، قد تكون أكثر قدرة، من غيرها، على ما يمكن اعتباره، من باب التجاوز التَّعبيريّ البحت، ومن باب مفهوميَّة المصطلح النَّقدي، «إخفاءً» و«مراوغة». ولغة الخطابة، على سبيل المثال كذلك، يمكن أن تكون، لما في فن الخطابة من توسليَّة بلاغيَّة وتوسُّم للاستنهاض، أكثر قدرة من سواها، على ما يمكن أن يعتبر «تجييشاً» و«مبالغة» أو «تهويلاً». ولغة الرِّواية، لما في الفن الرِّوائي من التصاق بتصوير حقيقة الأمور الواقعة أو المتخيَّلة، قد تكون أقرب من أي لغة أخرى إلى تأمين المدى الفسيح لإبراز فاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ، والصدىً الأقرب إلى حقيقة الواقع في مجال الفنون الأدبيَّة.

لا تَقومُ لُغَةُ النَّص، أي نصِّ، على مجرَّد هذا التَّجمع الظَّاهر للحروف بأشكال كتابتها وأصوات ألفاظها وتشكُّل الألفاظ أو الكلمات التي تنبثق عن هذا «التَّجمُّع». فلُغة النَّص أكبر من هذا الأمر الشَّديد البساطة، وأشد اتِّساعاً من ظاهريَّة هذا التَّشكُّل اللَّفظي للأحرف والكلمات.لُغة النَّص، هاهنا، مُصْطَلَحٌ يفيد عدداً من الأمور والقضايا التي من أبرزها تجلِّي مادة النَّص في جدليَّة تكونها بين ما هو من باب التشكُّل المضموني وما هو من باب التَّشكُّل الظاهري، مع السِّياق الذي يسعى الكاتب إلى إظهارها فيه، والسِّياق الذي يستقبلها القارئ من خلاله. إنها، بالمفهوم النَّقديِّ الأدبيِّ المُعاصر، هُويَّة وجود النَّص ومفتاح الولوجِ إلى كثير من حقائق هذه الهُويَّة.
لغة النَّص، إذاً، باب واسع مُتعدد المسارب إلى كثير من مُكَوِّنات النَّص؛ أكانت هذه المُكَوِّنات لجهة الكاتب نفسه، أو البيئة العامَّة، أو الفن الأدبي. إنها الدَّليل الحقيقي والملموس على كثيرِ مِمَّا يُمْكِنُ أن يَكون قد شكَّل واحداً من عناصر وجود النَّص أو عناصره، وواحداً ممَّا سَاهَمَ في تظهيرِ حركيَّة النَّص وتفعيلها. وإذا كانت فاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ من المؤثِّرات الهامَّة في تشكُّل النَّص، فإنَّ بالإمكان، تالياً، اعتماد لُغَةِ النَّص دليلاً على حركيَّة هذه العناصر وفاعليَّتها في تشكيل الزَّمان المُجْتَمَعِيّ وتأمين فاعليَّته. ومن هنا، فإن قراءة في دنيا لغة النَّص، قادرة، بمفهوم منهجي، على الدَّلالة على حركيَّة فاعليَّة الزَّمن المُجْتَمَعِيّ الَّتي انبثق عنها النَّص، أو مجموعة النُّصوص المُقْتَرَحَة للقراءة.

* دكتوراه في النقد العربي/ جامعة أكسفورد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى