الخوف من النص ” مخاوف الكتابة بين النص والكاتب والقارىء “
الروائي عمر سعيد
الخوف من النص ” مخاوف الكتابة بين النص والكاتب والقارىء “
حين كنت أجلس للكتابة في بداية مسيرتي، كان يحضر معلم المرحلة المتوسطة، يقف أمامي، يكز على أسنانه، وقد حنط وجهه بملامح الهيبة والاستعداد لانقضاض.
وقد تحلق من خلفي بعض رفاق الصف..
وأبي يسألني من وقت لآخر: ماذا تكتب؟!
فأرى كل رسائلي الغرامية التي كتبتها، دون أن أرسلها، قد تكدست أمامي.
ولا شعورياً أطوق الورقة بيدي اليسرى على الرغم من أني كنت وحيداً في بيتنا، غير أني كنت أخشى الغش، وما إن أصل إلى الغوص في كتابة مشهد جنسي، حتى أسمع صوت المؤذن يتعالى من المسجد في فضاء القرية، ولا شعورياً أبدأ بتشطيب كل ما كتبت، وجعلكةِ الورقة وإدخالها في جيبي، لئلا تقع في يد أحد، ثم أحرقها، أو أنتفها نتفاً صغيرة، تستحيل قراءة ما فيها.
ذلك لأن النص تجربة نفسية أبعد من كونه تجربة كتابية بأبجدية، وكلمات وفقرات، وتعقيدات الصرف والنحو، وأفكاره المركبة.
فالنص تجربة نفسية تشهد على مجاهل ضفتي التعاطي المباشر معه. ونقصد بهما الكاتب والقارىء.
تتخذ هذه التجربة النفسية طريقها الوعرة عبر ممرات وسراديب مخيفة وللغاية.
إذ أن مكونات الكاتب والقارىء المطموسة أشبه بمواقع قناصة تتوزع على جنبات المسار الذي يعبره النص، والخوف كل الخوف من رصاصة، تنطلق من قناص في عوالم الكاتب الخفية، تصيب النص؛ فترديه بالكامل، أو بشكل جزئي، قد يتسبب له بإعاقة، تحول بينه وبين مهمته الأساسية.
فحين يجلس الكاتب للكتابة، يغلق كل ما قد يوحي بأنه يكتب، ويحجب نفسه عمن حوله.
غير أنه يستيقظ على توجسات وخشيات، تكاد تنهاه عن فعل الكتابة، وتودي بالنص كلياً.
هناك.. في خلوة التعري النفسية والفكرية والاجتماعية والسلوكية تلك، في خلوة السير تحت كل تلك التراكمات التي لا يتحمل الكاتب مسؤولية تراكمها فيه، يحضر الخوف بكل أدواته المرعبة، ليصده عما يعتزم.
فتصبح الكتابة اقترافاً، وانتهاكاً، وتعدياً، وجرماً، لا يغتفر.
هناك.. يتنامى الخوف في تلك الظلمات بمجموعة من العقبات التي ليس من السهل التغلب عليها، أو تجاوزها.
هناك.. تبدأ المساومات بين الكاتب والنص، ويتحول معها الكاتب إلى سمسار، يساوم النص نيابة عن القارىء أكان شخصا، أو مجتمعاً، أو موروثاً، أو حاكماً، أوديانة.
سمسرة تنتجها مخاوف الكاتب من الدوائر التي تلتف حول وعيه ولا وعيه ووأمعائه وجسده ومحيطه الضيق، ومجتمعه، ثم تواصل اتساعها، لتلامس الموروث الناشف الثقيل.
هناك.. يستحضر الكاتب المواربات، ما استطاع منها، للنجاة بأقل القليل من النص الذي يتحول إلى مسخ لا يشبه بتاتاً ذلك البناء المدهش الذي تشكل في عوالمه الداخلية.
إذ تبدأ التنازلات التي تتكفل اقتطاعات، تشوه النص..
جزء بسيط من هنا؛ لصالح نظرة الآخر، وقليل من هناك؛ تجنباً لجدل مع ضيقي الفهم، وبعض شيء من مكان آخر؛ مراعاة للسلطة الدينية، وبقايا لا تؤثر إن اقتطعها لأجل صراخ مراقب أمني، وغيرها مداراة لاتهامات متبلين بحجة السرقة الفكرية، والتأثر، والنحل عن سواه.
ومهما تبجح الكاتب، وادعى، فإن القارىء هو أقسى المخاوف التي يواجهها عند تأثيث نصه.
يظل الخوف الأقسى من القارىء هو الخوف من النص، إذ يشتبك معه بمعارك حادة، يلح فيها الكاتب على الكثير من الشكليات ومتطلبات الأضواء و ضرورات الأماكن المغلقة والمفتوحة التي سيبدأ النص فيها شيطناته غير المعروفة واللامتناهية.
فالنص شيطان لا يرحم في إغواءاته، ودسائسه، وإيحاءاته، ومؤامراته، ودلالاته، وتأويلاته، واستعتداءاته التي يولده بعد كل قراءة.
وفي الضفة الآخرى هناك القارىء الذي لا تقل مخاوفه من النص عن مخاوف الكاتب، فالكاتب مهما ادعى الخوف على النص، إنه في الحقيقة، يخاف من النص.
والقارىء مهما ادعى خوفه على النص والكاتب، إنه في حقيقة الحقيقة، يخاف من النص.
ويخاف منه على كل ما ذكرنا سابقاً.
وهنا يصبح النص المهدد الأول والأخير لضفتيه: الكتاب والقارىء.
يوقظ النص في القارىء كل المخاوف التي تحمله على التحليل، وإلى التأويل، فالتبرير، ثم يبلغ به مرحلة المساومة التي تحاول فرض التكيفات، التي يتولى النقاد هندستها، أو نسفها بالكامل.
وتغدو العلاقة بين أبعاد النص الحية في ثلاثية التناول من الكاتب إلى الفارىء فالناقد علاقة مساومة، مركزها لو، وليت، ولعل، وكافة أاشارات الاستفهام التي يتسلح بها جميعهم، لتجنب الخوف من النص.
ف ” لو ” هي تدخل بمفعول تراجعي من قبل الكاتب عن كثير من الخطوات التي بلغها في نص سابق، تظهر آثارها على نصوص لاحقة.
ولو هي أداة الناقد لتكييف النص مع نزعاته التي لا يملك إلاها للبناء على.
ولو هي عدة القارىء لمقاربات، تتفاوت بتفاوت مكونات المعرفة من شخص إلى آخر.
وليت ولعل هي وعود الكاتب التافهة، للتملص من إلحاحات الخوف من النص الذي يصبح هو الآخر.
نعم فالنص بعد أن يتكون، يصبح هو الآخر، فهو القارىء بمتذوقه وناقده، وقد حضرا في الكاتب.
وهو الآخر في القارىء أي أنه الكاتب، يكتسي كل ملامح النص، وإن تبرأ منها بقصد أوبغير قصد.
إن غياب التماسف في مثل هذه الحالات هو الذي يولد المخاوف من النص، والتي تسببت بها تراكمات هائلة دون أدنى مقاومات لها في كل منهم.
وإلا فلم استغول العالم الإسلامي بسنته وشيعته على نصوص سلمان رشدي، والتي أجزم أن أكثر من 99.9 بالمئة منه لم تقرأ نصاً لسلمان رشدي؟
ولم منعت دول في الخليج دواوين نزار قباني؟ ولم حجب مؤلفات أبي العلاء المعري عن كثير منها؟
عندما قرأت رواية وليمة لأعشاب البحر، لحيدر حيدر وجدتها تافهة وجداً، غير أن الأزهر وبكل عمائمه، راح يطارد حيدر حيدر، ويحرم وليمة لأعشاب البحر!
وعندما سئل المعتدي على نجيب محفوظ بالطعن، لم قمت بذلك؟ قال: لأنه كافر وعدو الله، ولما سأله القاضي: هل قرأت له شيئاً؟ أجاب: لا!
ومن يدري لربما كان أمياً، لا يقرأ، ولا يكتب!
والكثير الكثير من الشواهد التي تجعل أكثر من سؤال يلح، دون الحصول على إجابة:
إلى متى يدوم هذا الخوف من النص؟!
وكيف يمكن التخلص من هذا الخوف؟!
وهل هذا الخوف صحي أم هو خللي؟!
وهنا تحضر في مخيلتي صالة عرض أزياء، قد دخلها تاجر غير متدرب على المشاهدات ما تعرضه، فراح يحجز فساتينه بناء على ما بدا من أجساد العارضات اللاتي أثرنه جنسياً.
لكنه عندما تسلمها، وراح يعلقها في واجهة محله، فقدت كل جاذبيتها التي تجلت على أجسادهن هناك.
في الوقت الذي يتقن فيه التاجرالمدرب على المشاهدة كيفية تجاهل أجساد العارضات، ليركز على القماش وطواعيته بين أصابع المصمم، لذا نراه يعرف كيف ينصف الجمال قبل العرض وبعده، وكيف يستثمر فيه، ويجعله منتجاً!
بتقديرنا.. إن فترات التدرب على قراءة مختلفة، تمكن من كسر المحاكمات المعلبة، كفيلة بتقليص مدة الخوف من النص.
كما إن القراءة المتعمدة بهدف التطور المعرفي، لا القراءة بهدف التخلص من الفراغ، أو مداراة النقص المحرج في المحافل، هي أفضل الفيتامينات للتخلص من الخوف من النص.
يبقى أن نقول إن الخوف من النص خلل غير صحي، يقدم المساومات، والتسويق، والدعاية، والسعي خلف النجومية، على ما هو أهم منها بكثير، من حيث إمكانيات النص في التغيير، والتطوير، والتجاوز، والاختراق.
وما أسباب كل ذلك إلا لأن النص مخيف، ومرعب، ومهدد، وقد يكون قاتلاً لكاتبه. فالخوف من النص، هو أخطر المواجهات التي يخوضها الإنسان في هذا الشرق، سواء كان كاتباً أم قارئاً، لأنه لم يبلغ بعد خطابه، ولا فكره المتسقل، ولا ديانته المستقلة، وما زالت حريته لا تتعدى الملابس والرغيف، بل إنه مجرد صوت وصدى وترددات لكثير، وكثير من الأقانيم التي تقيم فيه ومنذ أم بعيد.
وباختصار إن أقبح النصوص هي تلك التي كتبناها في حصص الإنشاء على مقاعد الدراسة لأجل علامات متفوقة، ومدرسين محنطين أغبياء، لا يتقنون إلا عد الأسطر، وملاحظة الأخطاء الإملائية، وعلامات الترقيم، وقد كانت آخر همومهم ما تضمنه النص من قفزات، وأفكار، لم يألفوها، أو يتقبلوها.
ولطالما كانت درجاتي متدنية في الإنشاء العربي، لأنني كنت أكتب أفكاراً أكثر مما أكتب لغة، وقد كان كافة معلميً من صفّافي الكلام، لا من عمال منامجم الفكر والخيال والجمال.