أدب وفن

دراسة نقدية لقصيدة” شيخ البحر “إعداد د. هناء أحمد

الدكتورة هناء أحمد

فلسفة الصوت في قصيدة ” شيخ البحر” للشاعرة فاطمة الجوهري

شيخ البحر

ظمآنُ شيخُ البحرِ
يُرسل للسَّما مطرًا
فيُمسي التّرْبُ مِلْحا

ليؤلِّهَ الأفكارَ، يحيي الشَّكَّ
يلثِم في أنين النّاي جُرحا

وفؤاده المكلوم حزن ربابة
خطاءة في الوجد تطلب صفحا

مالي؟
وهذا الصَّمْتُ في رئتي
يُؤَرِّقني
ورَجْعُ الصَّوْتِ بُحَّا

وأنايَ
تعتنق التّبصّر والتّصبّر
تنبتُ الأفكار قمحا

أغفو على كتفِ المجازِ
ووحدَتي
في محفل الأشواق
أعلنُ
ثمّ أعلنُ
ثمّ ألعنُ توبتي
فيفيض منّي الحبرُ بوحا

حين يقول لنا شاعر إنه يعرف نوعا من الحزن له رائحة الأناناس، أنا نفسي أشعر بأنني أقل حزنا، أشعر بأنني حزين برقة، هذا ما قاله “غاستون باشلار في كتابه جماليات المكان”، وبدوري أوافقه القول، وهذا ما ينطبق على الشعر الذي يشعرن الأماكن بطريقته الخاصة ويضفي عليها جوا ذاتيا رغم موضوعيته والعكس صحيح، ويحولها إلى كائنات متناهية في الصغر، أو في الاتساع.
وسننطلق هنا من البحر عنوان قصيدة الشاعر فاطمة الجوهري ” شيخ البحر”، البحر الذي لا يشكل مكانا خارجيا كبيرا فحسب، بل للعمق حضور أيضا واتساع نفسي داخلي مادي ومعنوي، البحر شاسع ودليل انفتاح بكل ما فيه من مخاوف وامتداد أفقي، فضلا عن عمقه، والشيخ دليل حكمة وتفهم في الأمور، فمن المعلوم أننا عندما نطلق لفظة شيخ، لا نعني الكبر في العمر بقدر ما نعني أن الشخص قد خبر الحياة وامتلأ بتجاربها.
من جانب آخر، فالبحر هنا اسقاط موازٍ للحياة بكل جوانبها، بينما يمثل الشيخ من خَبر تلك الحياة بأفراحها واتراحها ولا تخلو العلاقة بينهما من جدلية، والصوت الفلسفي المتمثل بصوت الذات/ الشاعرة في تعامل الشيخ بضمير الـ (هو)، وهو يحاول أن يبث حكمته بوضع الشك في كل ما حوله ، ليعلي من شأن أفكاره، فضلا عن نشر فلسفته المتمثلة بجدلية الشك والإيمان، والشك – كما جاء في المعجم الفلسفي- : التردد بين نقيضين لا يرجح العقل أحدهما على الآخر”
ونجد هنا أن النص أنشطر إلى نصفين يمثل النصف الأول المتحدث باسم الضمير ” هو” الشك /الصوت لكنه يسجل غيابا بدليل ضمير الغائب” هو” ثم سرعان ما ينزاح إلى الضمير الــ ” أنا” إلى ضمير سيري ذاتي – إن صح التعبير- ب أنا، محققا التفاتا بصريا ومعنويا ،كما ينصهر فيما بعد بتداعيات الصوت الأول، ويعلن ليعلن عن حضوره وإن كان في البدء صامتا، ومنزويا في المجاز، لكن هذا الانزواء يدفعه إلى التفكير والانطلاق والاعلان. ليلعن ما كان فيه من صمت وإيمان مطلق بأشياء، ربما كانت تستوجب الشك، فالشك يدعونا للبحث والتبصر وكثير من الصبر.
وقريبا من ذلك نجد أن إيقاع الفكرة قد هيمن على النص ليعلن عن ترابطه مكونا هذا النسيج الشعري/ يرسل للسماء مطرا /
والاستجابة للصوت المعلن والاعلان عنه كانت في / تنبت الأفكار قمحا/
وهكذا يمثل كتف المجاز، سندا ومنقذا للذات من التشظي بين الغياب والحضور.
فضلا عن ذلك فالعنوان ” شيخ البحر” يذكرنا بعنوان رواية ” الشيخ والبحر” للروائي الأمريكي أرنست همنغواي الرواية المحملة بأبعاد فلسفية عن علاقة الانسان بقوى الطبيعة، ولا شك أن بعضا من تلك الصراعات والجدلية نجدها في النص.
ويتمظهر الصوت هنا في :
الناي، الصوت، الاعلان، الصمت ، الربابة البوح، الصمت، الأنين .. الظمأ معنوي ومتعطش للبوح بأفكاره…
والمفارقة أن / هو من يرسل للسماء مطرا/ فنشعر أنه يود لو يؤله نفسه كما أفكاره المؤلهة، لذا يجد أن السماء قد تستجيب لأفكاره، السماء التي تضفي قدسية إلى الأشياء والأفكار والأزمنة والأمكنة وغيرها من الفضاءات.
ووجدت الشاعرة ان البحر أوسع الفضاءات التي لها علاقة مباشرة مع الإنسان وعلى تماسٍ مباشر مع حياته اليومية المعيشة، حياته المادية والمعنوية، وقد يكون هناك تفاوت في تلقينا لتلك القدسية، لذلك نجد أن الشيخ يحتج على بعض قوى الطبيعة التي ربما يجدها تقف عائقا أمام ما يحمله من أفكار، وهكذا يبدأ بثورة الشك، التي تصهر أناه، ولكن رغم ذلك يبقى النص منتصرا للمجاز الذي يبدو أنه وجد ضالته فيه، فالختام يأتي البوح بالحبر، البوح الذي ولد بمراحل الظمأ، الإرسال/ إحياء الشك/ أنين/ حزن/
صمت/ تبصر/ تنبت الأفكار/ كتف المجاز/
الإعلان/ لعن التوبة/ يفيض الحبر بوحا مني-
تشير إلى كل تلك الأفكار المتضاربة والمتصادمة التي تؤرق أفكار الشاعرة، ويبدو أن النص يشير إلى أن الصوت لا ينطلق فجأة بل يتمخض عن مراحل تجعله أهلا للبوح.
الصوت هنا الذي يمثل العلاقة الجدلية بين الإنسان وقوى الطبيعة. …
الصوت الذي يمثل الحياة، الحياة المادية أيضا التي لا شك أن وجودها أولا هو ما يعطي حياة معنوية وأفكارا وتفكّر الصمت في رئتي، دليل على أن الصوت يمثل تلك الأنفاس التي تعطي للحياة وجودها. .. حصل أكثر من التفات في النص، والالتفات فن بلاغي، يعني نقل الكلام من أسلوب مخاطبة – مثلا- إلى آخر، أو العكس، ونجده هنا في :
شيخ البحر =هو
مالي = أنا
أناي= هي
أغفو أعلن ألعن = أنا
كما كونت الأفعال جملا حركية، ورغم أنه صاحب الصوت/ يرسل، يمسي / فالهمس في الأفعال يخلق إيقاعا داخليا يؤله، يحيي، يلثم مقابل الصورة الحركية: أغفو أعلن، ألعن التي تمثلها ال أنا بكل إعلان.
لدي ملاحظة أود الإشارة إليها، وهي توظيف الكلمات التي تنتمي إلى الحقل الدلالي الواحد، التي قد تدفع الشاعر إلى استخدام التعبيرات الشائعة أو الصور المستخدمة بكثرة، فمثلا استخدام مفردة الخطيئة أو الخطأ استدعى ” الصفح”، وأعني أن هذا التوظيف قد استهلك، والمتلازمات : أنين الناي / حزن الربابة/ يلثم الجرح ..
بعض التراكيب تفقد دهشتها ولا تخلق مسافة جمالية وتعبيرية لأنها سبق وإن قرئت في نصوص أخرى، وإن كنا مع الرأي الذي يقول إن أي نص يتشكل من نصوص سابقة له، ولكن طريقة التقاط هذا النص للمفردات وتركيبها وبثها في أسلوب الشاعر المتفرد هو ما يعطيها الجدة والدهشة والشعرية، ورغم ذلك، يبقى ما قلته من ملاحظات وإشارات رأيا شخصيا لي في تلقي النصوص لاسيما النصوص التي تقدم نفسها بوصفها نصا شعريا حقا يتكلم عن نفسه بنفسه، ولا تتكئ على كتف كاتبها عندما تواجه المتلقي، كأن تقدم له أولا هوية كاتبها الشخصية، مما يدفع المتلقي إلى السجود لها، أو النفور منها، إي نعم، أنا أدعو إلى كتابة النصوص التي تغفو على كتف المجاز، النصوص تخلق شكا في التلقي فتضفي على جوّه نوعا من التبصر التصبر كما صرّحت بذلك هذه القصيدة!
وتبقى القصيدة مفتوحة لقراءات أخرى، وتحية للشاعرة الصديقة فاطمة الجوهري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى