سلسلة «دراسات في الشِّعري» (6) شعريَّةُ توالي العناصر التَّشكيليَّة في نصِّ أغنية الأخوين رحباني
الدكتور وجيه فانوس
أعلَنَ الرَّوائيُّ الأميركيُّ «هنري جِيْمس» (Henry James) (1843-1916)، في مقدمة عمله الرِّوائي «مَذْبَحُ المَوْتى» (The Altar of the Dead)، الصَّادر في طبعته الأولى سنة 1895، أنَّ بإمكان الجَمالِ الأدبيِّ أنْ يتحقَّق ضمن مبدأ التَّخلِّي عنْ استخدامِ التَّفاصيلِ البلاغيَّةِ الفائضة (Excessive rhetorical details)؛ واعتمادِ ما يؤمِّن الإيحاءَ بالفاعليَّةِ البلاغِيَّةِ (Rhetorical Effectiveness) المُراد التَّعبير بها. (120-147: Davidson) وقد كان للفنِّ الحديث، أن ينحو في هذا الإتِّجاه، الذي نادي به «جيمس»؛ ويتعاملُ معَ الفاعليَّةِ البلاغيَّةِ بمنهجٍ بِنائيٍّ تكثيفيٍّ لها؛ يؤدِّي، وفاقاً لـمقولة الشاعر الأميركي الطَّليعي، «عزرا باوند» (Ezra Pound) (1885-1972)، «أقصى قدرٍ من الفاعِلِيَّةِ البلاغِيَّة» (Perfect Poetic Efficiency). (31-32:Nathaniel). ومن هنا، يمكن فهم كيف سَعى روَّادُ الحَداثَةِ الشِّعريَّةِ إلى اعتبار أنَّ ما هو فعَّالٌ في عمَلٍ فَنِيٍّ، لا مندوحةَ فيهِ مِن تَحَرِّي الدِّقةَ والتَّكثيفَ، إلى الحدودِ القُصوى، لكلٍّ مِنهُما؛ لِتكونَ الإفادة مِن بِنائيَّةِ هذا التَّكثيفِ وتلك الدِّقةِ، هيَ المُحَفِّزُ الأساسُ على أقصى ما يمكن تفعيله من البلاغةِ والجمالِ في النَّصِّ/الكلام.
يبدو هذا التَّوجُّه البلاغي والجماليِّ حاضِراً، بوفرةٍ، في بعض نصوصِ/«كلام» أغاني «الأَخوين رَحباني»؛ إذ يغتني «النَّصُّ»/»الكلامُ»، ههنا، بعناصَر بلاغيَّةٍ مُكَثَّفةٍ مُتَعَدِّدة، يتركَّبُ بعضُها مِن خِلالِ تشابُكِهِ العضويِّ مع بعضِها الآخر، فتنبثق مِن دينامِيَّةِ تفاعُلِها فيما بَيْنَها، فاعِلِيَّةٌ بلاغِيَّةٌ، تَتَخطَّى الاستيعابَ التَّقليديَّ العربِيَّ للبلاغةِ القائمة على مجرَّد «التَّشبيهِ» أو «الكِنايةِ» أو «الحَذْفِ» أو ما شاكَل ذلك.
أنموذج «تلج تلج»
تَلْجْ تَلْجْ
عَمْ بِتْشَتي الدِّنْيي تَلْجْ
وِالنَّجْمات حَيْرانِين
وِزْهُورْ الطُّرْقاتْ بِرْدانِينْ
تَلْجْ تَلْجْ
عَمْ بِتْشَتي الدِّنْيي تَلْجْ
وِالغَيْماتْ تَعْبانِينْ
عَالتَّلِّةْ خَيْماتْ مّْضِوَّيِنْ
وِمْغارَةْ سَهْرانِهْ فِيها طِفْلْ صْغِيرْ
بِعْيونُو الحِلْيانِي حُبْ كْتِيرْ كْتِيرْ
عَمْ بِتْشَتي الدِّنْيي تَلْجْ
كِلْ قَلْبْ كِلْ مَرْجْ
زَهَّرْ فِيهْ الحُبْ مِتْلِ التَّلجْ
وْجَايِي رِعْيانْ مْنْ بِعيدْ
هَوْنْ يا رِعْيانْ العِيدْ
تَلْجْ تَلْجْ
شَتِّي خَيْرْ وْحُبْ وْتَلْجْ
عَلى كِلْ قَلْبْ وَعَلَى كِلْ مَرْجْ
إِلْفِهْ وْخَيْرْ وْحُبْ مِتْلْ التَّلْجْ
إِلْفِهْ وْخَيْرْ وْحُبْ مِتْلْ التَّلْجْ
تَلْجْ تَلْجْ تَلْجْ
يتألَّقُ «الشِّعريُّ» في نصِّ/«كلامِ» «تَلْجْ تَلْجْ»، والنَّصُّ بالعربيَّةِ المَحْكِيَّةِ في لبنان، مِنْ لَوْحَةٍ متشكِّلةٍ، بصورةٍ مَبْدئيَّةٍ، مِن ثمانِيَةِ عناصر؛ هي «الثَّلجُ المُنْهَمِرُ بِغزارةٍ» و«النَّجماتُ الحائراتُ» و«زَهْرُ الطُّرقاتِ البَردانِ» و«الغُيومُ، التَّعِبَةُ عِنْدَ التَّلَّةِ، العاكِساتِ الضَّوءَ مِثْلَ خِيَمٍ مُنِيرةٍ» و«المَغارةِ التي يَسْهَرُ فيها طفلٌ في عَيْنَيْهِ كثيرٌ مِن الحُبِّ» و«زَهرٌ للحُبِّ كأنَّهُ ثَلْجٌ أَزْهَرَ في كُلِّ قلبٍ وفي كُلِّ مَرْج» و«ثمَّةَ مَن يُنادي رعياناً قادمينَ مِن بَعيدٍ»، وأخيراَ، «شِتاءٌ لِلْخَيْرِ والحُبِّ يَمْلأُ كُلَّ قَلْبٍ وَكُلَّ مَرْجٍ».
لا يَحْضَرُ «الشِّعريُّ» في هذا النَّصِّ/«الكلامِ»، بِمَّا يقولُه النَّصُّ/«الكلامُ» عَبْرَ كلِّ واحدٍ مِن عناصِرهِ الثَّماني؛ فإنَّ هذا المَقولَ هُو، في الواقعِ العمليِّ، «نَثْرُ» النَّصِّ/»الكلام»، أو تفصيلُ مادَّتِهِ المعرفيَّةِ المباشِرةِ، إن جاز القول؛ وليسَ، على الإطْلاقِ، مادَّةَ شِعْرِيَّتِهِ. يتجلَّى «الشِّعريُّ»، ههُنا، عَبْرَ ما يَسْكُتُ عنهُ النَّصُّ/«الكلامُ»؛ ويُمكن للمتلقِّي/المُسْتَقْبِلِ أنْ يصلَ إليهِ، باستيعابِهِ الذَّاتيِّ لِما يُمْكِنُ أنْ يَعْنِيهِ اجتماعُ هذهِ العناصرُ الثَّمانِيَة وتَكوُّنِها الجَمْعِيُّ في ما بَيْنَها، ضمنَ الوُجودِ الكُلِّيِّ للنَّصِّ/«الكلام».
يُمكن، على سبيلِ المِثال، وليسَ الحَصر، أنْ يكونَ في النَّصَّ/«الكلامِ» حالاً مِن البَرْدِ والصَّقيعِ وطلبٍ للمساعدةِ؛ كما يُمكنُ أنْ يكونَ ثمَّةَ فرحٌ يُوحي بِهِ بَياضٌ بَريءٌ نَقِيٌّ للثَّلجِ؛ ويُمكن، كذلكَ، أنْ يكونَ، ثَمَّةَ تناصٌ مع ما يُشتَهَرُ مِنْ أحداثٍ عَن «لَيْلَةِ مَوْلِدِ السَّيِّدِ المَسِيحِ»، مِنَ اشتدادٍ للبَرْدِ وانهمارٍ للمَطَرِ ولُجوءٍ إلى مغارةٍ وقدومٍ لِرعيانٍ وانتشارٍ لِفَرَحِ ولادةِ المَسيحِ، ويُمكنُ أنْ تكونَ، أَيْضاً، أحوالٌ أُخرى لا نِهايةَ لها، يَستخرِجُها المُتلقِّي/المُسْتَقْبِلُ مِن حَيَوِيَّةِ تَشَكُّلِ هذهِ العناصرِ، وما يُمكنُ لهُ أنْ يَراهُ مِن دلالاتٍ فيها ولها، هِيَ حَيَوِيَّةُ «الشِّعْرِيِّ» في أَيِّ نَصٍّ أو «كلام».
مِنْ نماذجِ هذه الفاعليَّةِ الشِّعريَّةِ، في نصوص/«كلامِ» الأُغنيةِ عند «الأَخوين رَحباني»، وهيَ كثيرةٌ جِدَّاَ، يُذكَرُ على سبيلِ المِثال، نَصُّ/«كلام» «يا قَمَرْ السَّهرات» – بالعربيَّةِ المَحْكِيَّةِ في لبنان:
يا قَمَر السَّهرات، كِيف الحُب والغَمزات
بَعدك بِليلْ السَّمرْ بِتحبْ السَّهرْ مع النَّجمات
يا دَرَجْ الألحانْ يا الْبِيطيرْ بالالوان
بَعدك سْياج لِّنا، بِلَيْلْ الغِنا
ما دام رِجْعِتْ
تاهتْ احلامْ بدنيا قمرها وَمَضْ
وضاعتْ أنغامْ وانفتحتْ وراها سَما
يا قمرْ الحلوين، في نجماتْ عَشْقانين
لَيْلْ الهوا بْيِنْزِلْ عَ بيتْ الحلوْ حِملْ ياسمين
وكذلك الحال في نصِّ/«كلام» أغنية «راضية»، وهو بالعربيَّة المحكيَّة في لبنان:
قَعْدِتْ الحلوي تغزلْ بمغزالها
وتراجعْ حسابْ العتيقْ ببالها
عمرْ الهوى حْكاياتها عهدْ المضا
وْكِيفْ غنِّتْ للحلُوْ موَّالها
مِشْ فايقه حِكيِتْ مَعو مِن أَيْمْتي
مِشْ فايقه يِمكنْ بأيَّامْ الشِّتي
سألِتْ إذا بِيْحبَّها وقالاَّ اسْكتي
وْقَرَّب ومِدري شو تَرَكْ عاشالْها
قدَّيشْ يَوْما انْقال وتّأَلَّفْ حَكي
وقدَّيشْ وِعْيِتْ هالمْخَدِّهْ عالبِكي
شُو تْغارْ شُو تْخَبِّي ولا كانِتْ تِشْتِكي
وغَيْرِ القَمَرْ ما كانْ داري بْحالْها
المكتبة:
* Steven A. Nathaniel, The Lyric and the Lathe: Dreams of Perfect Poetic Efficiency, 1800-1917, Eastern Illinois University, U.S.A., 2015, 31-32
* Rob Davidson, James’ «The Art of Fiction» in Critical Context, (JOURNAL ARTICLE),American Literary Realism, University of Illinois Press,U.S.A., Vol. 36, No. 2 (Winter, 2004).
وإلى اللِّقاء في الحلقة المُقبلة: «شِعْرِيَّةُ التَّوازي المُتبايِن».
—————
* دكتوراه في النقد الأدبي من جامعة أكسفورد
(رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي)
*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية
شكرا لنشر هذه الدراسات القيمة.