أدب وفن

تحديات التُّراث العربيّ في زمن العولمة

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي اٌسلامي)

1- العولمة والتُّراث والحداثة

“التُّراث”، بشكل عام،هو كلُّ ما يجري توارثهبين النَّاسِ عبر وجودهم المجتمعي؛ومن هذا “التُّراث”يتفرَّع “التُّراث الثقافي”، بما فيه من علوم وآداب وفنون وعادات وتقاليد وقِيَم ومفاهيم ونحوها. فـ”التُّراث” شاهد على الحضارة ودليلٌ إليها في الوقت عينه.ولذا، فلا يكون النَّظرُ في أيِّة حضارة، إلاَّ بمقدارِ ما تنطوي عليه من شواهد على وجودها الإنساني؛ أي بمقدار ما فيها من تراث[1].من  جهة أخرى، فثمَّة من يرى أن ارتقاء الإنسان، في مسيرة وجوده الحضاريَّة،ليس سوى صورةً لما يقوم به من سلوكيات تتأصُّل في مسالك عيشه؛ وتكون، بدورها، دليلاً على وجوده ودالَّة على كثيرٍ من أمور قد ينبني عليها مستقبله[2]. فـ”التُّراث” يتجاوز، بهذا المفهوم،قيمته التاريخيَّة، ليصبح أحد الفاعليَّات الأساس في عيش الوقت الحاضر والاستعداد لما هو آتٍ من الزَّمن.

مدينة “القاهرة”، أنموذج حيٌّ للحضارة في امتزاجٍ للتراث بالحداثة

أمَّا “العولمة” فتعريب للمصطلحِ الإنكليزي (Globalization)؛ بما يفيد، من الجانب اللَّغوي المفهوميِّ،تعميم الأمرِ وإضافة الطَّابع الكوني عليه.[3]أمَّا الواقع، فقد يكون في أنَّ “العولمة” هي ظاهرة اجتماعيَّة عالميَّة، ناتجة عن سياسة اقتصاديَّة معيَّنة ترافقت مع ثورة تكنولوجية.

تتكوَّن “الهويَّة الثقافيَّة” من تفاعل عدَّة عناصر، مثل اللُّغة والدِّين والجنس (الجندر)، فضلاً عن المفاهيم والقِيَمِ.[4]وتتجلَّى “الهويَّة الثقافيَّة”، في هذا السِّياق، بياناً عن طبيعة الاستعدادات المعرفيَّة والسلوكيَّة، لدى كل فردٍ أو جماعةٍ، في كيفيَّة التَّعامل مع مقتضيات العيشِ، وما قد يلحق بهذه المقتضيات من قِيَمٍ ومفاهيم. 

فإذا ما كانَ “التُّراثُ”، بشكل عام، و”التُّراث الثَّقافيُّ”منه، بشكل خاص، من الأمور المساهمة في تكوين “الهويَّة الثقافيَّة” على مرِّ الدُّهور؛ فإنَّ “العولمة”، بكونها وجوداً فاعلاً بقوة في المرحلة الزَّمنية الرَّاهنة، تُضْحي أمراً لا يمكن إنكاره، بل أمراً مفروضاً لن يمكن الفكاك منه، في مجال تكوين “الهوية الثقافيَّة” للإنسان المعاصر. وهكذا، يضحي ثمَّة إمكانيَّة لقيام جدليَّة ما بين “التُّراث” و”العولمة”، في صناعة الحاضر والمستقبل، عبر “الهويَّة الثقافيَّة”. “التُّراث”، ماض يسعى إلى فرضٍما لوجوده، في هذا المجال؛ و”العولمة”، حاضرٌ نشطٌ يطغى على كثير من مجالات الحاضر وما قد تكتنزه من آفاق المقبل من الزَّمن. فهل يمكن أن تكون نتائج هذه الجدليَّة مجرَّد صراعٍ بين قوَّتين، متعارضتين فيما بينهما، لا بدَّ لأحداهما من أن تتغلَّب على الأخرى وتطيح بها؟ أم أنَّ ثمَّة حقيقة في أنَّ كلاًّ من هذين العاملين لوجود “الهويَّة الثقافيَّة” يمكن أن يتكامل مع الآخر ويشكِّل، عبر هذا التَّكاملِ، فاعليَّة إيجابيَّة؟ هل “التُّراث”، بما فيه من ماضويَّة أساسيَّة، يتعارض مع “العولمة”، بما فيها راهنيَّة أساسيَّة؟ 

الغوص في جوهر الهويَّة الانسانيَّة

إذا ما كان “التُّراث”، بحد ذاته، خصوصيَّة فرديَّة أو جماعيَّة؛ وإذا ما كانت “العولمة”، بحدِّ ذاتها، أمراً عاماً لا مناص منه للفرد والجماعة، على حدٍّ سواء؛ وإذا ما كانت “الهويَّة الثقافيَّة” وجوداً لا بدَّ منه للفرد كما للجماعة، فهل في هذا ما يمكن أن يشكِّل تهديداً لما يُعتبر خصوصيَّة “الهويَّة الثقافيَّة” للفرد أو للجماعة؟ وهل في “العولمة” ما يدعو إلى خسارة هذه الخصوصيَّة الثقافيَّة؟وهل في “التُّراث” ما يدعو إلى حتميَّة انغلاق “الهويَّة الثقافيَّة” خلفه، وضرورة صدِّها لكل ما هو من خارجه”؟ وبتعبير آخر، هل في فاعليَّة “العولمة”، ضمن “الهُويَّة الثقافيَّة” ما يشير إلى أن هذه “الهويَّة” باتت في حكم التَّبعيَّة للآخر، الآتي من خارج التُّراث؟  فكيف هو الحال مع “التُّراث الثقافيِّ” العربيِّ و”العولمة” في ميادين تفاعلهما لتشكيل “الهويَّةِ الثقافيَّة” العربيَّة في الزَّمن الرَّاهن؟

2- تحديات التَّبعيَّة الثَّقافيَّة

        ليس موضوع التَّبعيَّة الثقافيَّة بجديد على الفكر العربيِّ على الإطلاق؛ ولعلَّ في “الصِّراع”، الذي انبثق قديماً، إنطلاقاً من فكرة “الشُّعوبيَّة” في العصر العبَّاسي، وكذلك في “المعارك” الفكريَّة التي خاضها كثير من المثقفين العرب مع نهاية القرن التَّاسع عشر وعبر عقود عديدةِ من القرن العشرين، حول تغريب الثقافة العربيَّة؛وما أحدثه ذلك “الصِّراع” وتلك “المعارك” من صخب إعلاميٍّ وعنف فكريٍّ، ما يشهد لهذه الحقيقة ويؤكِّدها. وقد يمكن القول، ههنا، إن الموضوع ينفلش، واقعيَّاً، بين توجهات منهجيَّة تقليديَّة ثلاثة، تتجلَّى في التيَّار المتشبث بالتُّراث والرَّافض للوافد، والتيَّار المنفتح على الوافد، والتيَّار الإصلاحي الذي يسعى إلى جمعٍ ما بين التيَّارين الأولين[5].

من التجليَّات الجمالية للحضارة في المغرب العربي

أثبتت حيويَّة العيش الإنسانيِّ أنَّ الأمر ليس في حقيقته صراعٌ بين قوى متعارضة فيما بينها، لا بدَّ لإحداها من أن تتغلَّب على سواها بل وأن تُلغي هذا السِّوى؛ وأن الأمر، كذاك،  ليس مجرَّد معادلة رياضيَّة تسعى إلى أخذٍ معيَّن من كل جانب. واقعُ الحال، إنَّ حيويَّة العيش الإنسانيِّ أثبتت أن ما يفرض وجوده على “الهويَّة الثقافيَّة”، هو من صلب ما يحتاج إليه الإنسانفي حقيقةً الإحتياجات الجوهريَّة لعيش زمنه، فضلاً عن الطَّبيعة الواقعيَّة العمليَّة لهذا العيش.

        يمكن القول، ووفاقاً لمنهجيَّة إبراهام موسلو(Abraham Maslow)الشَّهيرة،[6] إنَّ احتياجات العيش قد تتموضع بين ما هو جوهريٌّ، لا غنى عنه في فاعليَّة العيش، إذ يشكِّل الخلفيَّةالأساس التي تنبني منها وعليها “الهويَّة الثقافيَّة” لأي عيش إنسانيٍّ؛ وما هو غير جوهريٍّ، يمكن لأساسيَّات الخلفيَّة “الهويَّة الثقافيَّة” أن تنبني من دونه[7]. وعلى سبيل المثال، فإنَّ “العقيدة” أو “الأيدولوجيا”، دينيَّة أو غير دينيَّة، يمكن اعتبارها من الاحتياجات الجوهريَّة في هذا المجال. إذ تنبنَّى”العقيدة” أو”الأيديولوجيا”،ههنا، قِيَماً ومفاهيماً معيَّنة، تحدِّد المقبول والمرفوض وتبيِّن ما هو واجبٌ وما هو استنسابي من الأمور،كما تتحكَّم في كثير من السُّلوكيَّات الإنسانيَّة لناسها؛ مِمَّا يساهم، بدوره، في تحديد “الهويَّة الثقافيَّة” لهؤلاء النَّاس. ولذا، فإنَّ الجانب التُّراثي من هذا العنصر “الجوهريِّ”، قد يبقى أكثر قدرة وأشد صلابة في مواجهة أيَّة متغيِّرات مستجدة أو وافدة؛ وذلك باعتبار أنَّ الجانب العقديِّ في التَّكوين النفسي الإنساني هو الجانب المنبني على كثير من الموروثات التي قد تدخل في نطاق ما هو محرَّم (Taboo)، ولا يمكن للمؤمن به المساس به تحويراً أو تحويلاً أو رفضاً.[8]

        تقعُ التَّبعيَّة الثقافيَّة، ضمن تصنيفين رئيسين؛ أحد التَّصنيفين يَسِمُها بالسَّلبيَّة، في حين يَسِمُها الآخر بالإيجابيَّة. وقد تتجلَّى السِّمة الإيجابيَّة، إذ يكون الوافد الثقافيُّ متجاوباً مع طبيعة “التُّراث”، على غير ما تناقض أو تعارض معها؛ أو تكون طبيعة هذا “التُّراث” لا تثير أي تعارضٍّ وطبيعة هذا الوافد الثقافيِّ. ويمكن أن تتجلَّى السِّمة السَّلبيَّة، إذ يكون هذا الوافد الثقافيّ متعارضاً مع طبيعة “التُّراث”، كأنَّ يكون من باب المحرَّمات ضمن مفاهيمها وقيمها. ومن هنا يمكن القول إنَّ دخول ما هو وافد أو جديد على مجالات “التُّراث” الفاعلة في تكوُّن “الهويَّة الثقافيَّة”، للفرد أو الجماعة، يمكن أن يقود إلى مشكلة “التَّبعيَّة الثقافيَّة” السَّلبيَّة، إذا ما كان المجال التُّراثي المعني يقع ضمن ما هو “محرَّم”(Taboo)؛ كما يمكن أن يقود إلى ما يمكن اعتباره من باب التكامل الثقافيِّ مع الوافد أو الغريب؛خاصَّةً إذا ما كان، هذا الوافد يحمل السِّمة الإيجابيَّة.

3- تحديات حفظ المصادر التُّراثيَّة

       ليس المقصود التَّطرُّق، في هذا المقام، إلى الأمور التِّقنيَّة أو الماديَّة التي يمكن أن تشكِّل تهديداً لحفظ مصادر التُّراث؛ فأغراض البحث الرَّاهن تنحصرُ في الإشارة إلى بعض أبرز الأمور المعنويَّة أو المفهوميَّة التي تهدد حفظ المصادر التراثيَّة.

من ثقافة “المُحَرَّم”

        أثبتت حيويَّة العيش الإنسانيِّ، كما ورد آنفاً، أن الإحتياجات الجوهريَّة لعيش الإنسان، في زمن ما وبيئة ما، هيما يفرض وجوده على طبيعة ممارسة هذا الإنسان لعيشه؛ وتالياً على “الهوية الثقافية” لهذا الإنسان. وواقع الحال، فقد يبدو أنَّ في هذا الوافد على “التُّراث”، بسببٍ منالإحتياجات الجوهريَّة للعيش، ما قد يؤثِّرفي مجال تكوين “الهويَّة الثقافيَّة” للإنسان، وما قد يشكِّل، في الوقت عينه، تهديداً لبعض أسس هذا التُّراث الذي يدخل في تكوين “هويته الثقافيَّة”، وخاصة ضمن الحيِّز الذي يمكن أن يعرف بـ”المحرَّم” أو(Taboo). ولابدَّ من الإشارة، ههنا، إلى أن “المحرَّم” أو(Taboo)لا يكون دينيَّاً فقط، كما يتبادر إلى بعض الأذهان؛ وإن كان ما هو ديني منه يقف، نظراً لطابع القداسة التي يُنظر بها إليه، في أعلى مستويات هذا المحرَّم وأقواها شأناً؛بل ثمَّة ما هو “محرَّم” اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو تربوي. وهنا ما قد يدفع، بقوة وقسوة معاً، إلى طرح تساؤل حول حقيقة عملانيَّة العلاقة بين هذا “المحرَّم” و”الوافد” المتعارض معه. فهل يمكن، تالياً، إخراج “المحرَّم” من حصونِ حرمته؟ وهل هذا الإخراجُ، هو إخراجٌ واجبٌ، لاستمرارِ الوجود المعاصر وحيويَّة عيش “الهويَّة الثقافيَّة”؛ أم هو إخراجٌ لاغٍ لحقيقة “الهويَّة الثقافيَّة” أو على الأقل تشويه لها؟ وهل ثمَّة من “محرَّم” دائم الحرمة؛ أم أنَّ “المحرَّم” أمر نسبي يتأثُّر بالمتغيرات التي تحيط به ويتفاعل معها.

4- تحديات الحداثة

إنَّ “الحداثة”، بالمعنى الزَّمني وبالبعد الفلسفيلوجودها، أمرٌ داخل في أمر سبقه زمنيَّاً؛ بيد أنَّ هذا الدُّخول قد يسبب تغييراً ما في المدخولِ عليهِ، لجهة الفاعليَّة كما لجهة المفاهيم والقيم إذا ما تعارضت فاعلية المدخول عليه أو مفاهيمه أو قيمهمع ما يقدمِّه دخول الحداثة[9].فالحداثة عامل قد يحمل محفِّزات تغيير وتبديل وتعديل وربما إلغاء؛ فهل يمكن أن تشكِّل الحداثة، بكل هذا، خطراً على “التُّراث”، بما في ذلك “الهوية الثقافية” المبنيَّة على هذا “التُّراث”؟

تشكيل جمالي يجمع التقليد مع الحداثة

        واقع الحال، إنَّ الدخول في “الحداثة” يعني، بكثير من العملانيَّة الواقعيَّة، إمكانيَّة التعارض مع “التُّراث”، أو مع بعض ما فيه، على الأقل. ونظراً للواقع المعيش المرتبط بجوهرية حيويَّة العيش، فإنَّ ما في “الحداثة” يسعى إلى طرح التعارضات المتحصلة من وجوده، مع “التُّراث” ومع “الهويَّة الثقافيَّة” تالياً، طرح تحدٍّ لا بدَّ من مواجهته ولا بدَّ للحداثة، باعتبارها نتيجة جوهريَّة حيويَّة العيش الإنسانيِّ، من السَّعي إلى الانتصار فيه.

        يقف “التُّراث”، ههنا، أمام اختيارين أساسين؛ أوَّلهما أن يعتبر تحدِّي “الحداثة” إلغاءً له؛ وثانيهما أن يتعامل مع موضوع “الحداثة” هذا، على أنه مساهمة من واقع الزَّمن المعيشِ في تطوير هذا التراث وعصرنته. وتكون النَّتيجة، في الحال الأولى، صداماً لا بدَّ منه بين ناس الجانبيين؛ ولعلَّ في هذا الصدام ما قد يقود إلى القوقعة والإنعزال أو يقود إلى سعي كل جانب إلى إلغاء ما ينهض عليه الجانب الآخر من أسس ونتائج على حدٍّ سواء. أما في الحال الثَّانية، فإنَّ النتيجة لا تعدو أن تكون استجابة لما يراه النَّاس من إمكانيَّات للتطوُّر والتغيُّر وفاقاً لمعطيات العيش الإنسانيِّ. وجوهر الأمر، في كلا الحالين، أنَّ الحال الأولى تنطلق من رؤية أنَّ “التُّراث” اساس لا يمكن المساس به، وعلى العيش الإنسانيِّ أن يتجاوب مع هذا “التُّراث”؛ فيحين أنَّ الحال الثانية، تنطلق من رؤية أنَّ العيش الإنسانيَّ هو الأساس، وعلى العوامل المرافقة له أن تتجاوب مع احتياجاته.

5- تحديات الهويَّة

        لعلَّ بالإمكان الذَّهاب إلى أنَّ “الهُوِيَّة” عاملٌ أساسٌ وفعَّالٌ في تحقيق الوجودِ الفرديِّ أو الجمعيِّ للإنسان. وواقع الحال، فإنَّ “الهويَّة” هي المنطلق والمظهر، معاً، لأيِّ اعتقاد أو سلوك يصدر عن الفرد أو الجماعة؛ وهي ما يَسِمُ الفرد، كما الجماعة، بميسمها؛ فتكونُ دليلاً إليهم ودالَّة عليهم.

        وإذا ما كانت “الهويَّة” تتوزَّعُ على عددٍ من التَّنوُّعات الكيانيَّةِ لحضورها، كأن تكون جسديَّة أو عائليَّة أو اجتماعيَّة أو تاريخيَّة أو ما هو سوى ذلك؛ فإنَّ “الهويَّة الثقافيَّة” هي ما يهم في هذا المجال. إنَّ “الهويَّة الثقافيَّة” هي ما يحقِّق لحاملها، فرداً كان أو جماعة، حقيقة حضوره الحضاريِّ في العيش الإنسانيِّ المشترك؛ وهي ما بساهم في تحديد تفاعل هذا الحامل لها فمع مجالات هذا العيش وميادين التكيُّف معه أو رفضه. إنَّها ما يساهم، بصورة واقعيَّة، على أن يكون حاملها وجوداً انعزاليَّاً منغلقاً في العيش الإنسانيِّ، أو وجوداً مشاركاً منفتحاً في رحاب هذا العيش، بل قد يكون وجوداً قلقاً غير مستقرٍّ تتنازعه رياحُ العيش الإنسانيِّ في كلِّ اتِّجاه يمكن أن يكون فاعلاً في عيشه. وكيفما دار الأمر، فإنَّ “الهويَّة”، وفاقاً للمنهج الذي تتخذه في فهم الأمور والنَّظر إليها وفيها، هي من يقدِّم المساهمة الأساس في تقرير نوعيَّة التَّفاعل مع حضور “التُّراث” ومع حضور “الوافد” إلى هذا التُّراث ضمن تحديدها لمسارات ناسها في مجالات الاستجابة للاحتياجات الجوهريَّة لعيش الإنسان[10].

بحث عن الهويَّة

        بناء على هذا، فإنَّ “الهوية” باتت تقف أمام احتمالات تُحِدِّد كونها تواجه تحدٍّ من الآخر أو الوافد:

  • احتمال التَّحدي، الذي يكون إذا ما قامت “الهويَّة” على أن جميع الاحتياجات الجوهريَّة لعيش الإنسان، تتحقَّق عبر معطيات ما هو تراث لها، وأنَّ شخصيتها لا تنهض إلاَّ عبر هذا التًّراث وبه ومن أجله؛ فإنَّ هذه “الهوية” تتحمَّل المسؤوليَّة في اعتبار “التُّراث”، و”التَّراث الثقافيِّ” تحديداً، من المحرَّمات التي لا يجب المَسَّ بها؛ ويضحي حامل هذه “الهوية” في أتون صراعٍ إلغائيٍّ مع كلِّ ما خارج عن “التراث” أو وافد عليه.
  • احتمال غياب التَّحدي القائم على توجهين:
    • الانفتاح على الآخر بنهوض “الهوية” على أنَّ ما عندها من تراثٍ ذاتي ليس سوى جزء وجودها وحقيقة شخصيتها؛ إذ اكتمال وجودها يكون بالتفاعل الإيجابي مع ما تراه من أمور تطوِّر في تراثها من دون أن تمسَّ بأصوله أو جوهر كيانه.
    • أن يكون أمر “الهوية” قائماً على اللامبالاة سوى بتأمين الاحتياجات الجوهريَّة للعيشِ الإنساني، بغضِّ النَّظر عن أن يكون هذا التَّأمين عبر “تراث” أو “وافد؛

ومن هنا، فـ”التًّراث”، كما “الوافد”، لا يشكِّل أيُّ منهما عقبة في هذا المجال.

        ويبقى السُّؤال الأساس، هل من تحدٍّ يواجهه التًّراث العربيُّ في زمن العولمة؟ ويأتي الجواب،كامناً في طبيعة المنهج الذي يحمله العرب، أفراداً كانوا أو جماعة، في التعامل مع “التُّراث” ومع “العولمة”؛ بل في المنهج الذي يمكن اتٍّباعه لتحقيق الاحتياجات الأساسيَّة لعيش الإنسان.

****

[1]– ينظر:

– Juliet Floyd and Sanford Shieh, eds., Future Pasts : The Analytic Tradition in Twentieth-Century Philosophy, Oxford University Press, 2001

[2]– ينظر:

– Buss, D. M. (2001). Human nature and culture: An evolutionary psychological perspectiveJournal of Personality, 69, 955-979

– Sedekides, C., Skowronski, J. J. (1997). The symbolic self in evolutionary contextPersonality and Social Psychology Review, 1, 80-103.

[3]– تُراجع تراجع الترجمة الإنكليزية للنص الفرنسي الذي وضعه EtinneBalibarـ وقام بترجمته إلى الإنكليزية  J. Swenson بعنوان Culture and Identity  (Working Notes).  وجرى نشره بواسطة  Routledge من قبل أ John Rajchman سنة 1995  ضمن كتاب.The Identity in Question

[4]-أنظر:

[5]– يراجع:

  • Albert Hourani, Arabic Thought in the Liberal Age 1798-1939, Oxford University Press, 1962.

[6]– عالم نفس أميركي الجنسيَّة، ( (1908 – 197.

[7]– يراجَع في هذا المجال:

  • Kabir Edmund Helminski,Living Presence: A Sufi Way to Mindfulness and the Essential Self, Jeremy P. Tarcher/Perigee Books, 1992.
  • Nina Rakowski, Maslow’s Hierarchy of Needs Model – the Difference of the Chinese and the Western Pyramid on the Example of Purchasing Luxurious Products, GRIN Verlag, 2011.
  • Kevin Avruch, Christopher Mitchell (editors), Conflict Resolution and Human Need: Linking Theory and Practice, Routledge, 2013.

[8]– ينظر:

  • Lynn Holden, Taboos-Structure and RebellionMonograph Series No. 41, The Institute for Cultural Research, U.K., 2001.

[9]– ينظر في هذا الموضوع:

  • John BaylisContemporary Strategy: Theories and concepts,Holmes & Meier, 1987.
  • Anna PeacheyMark ChildsReinventing Ourselves: Contemporary Concepts of Identity in Virtual Worlds: Contemporary Concepts of Identity in Virtual Worlds, Springer, 2011.
  • Charles Taylor, Sources of the Self: The Making of the Modern Identity, Cambridge University Press, 1992.
  • Gordon BaileyNoga Gayle, Ideology: Structuring Identities in Contemporary Life, University of Toronto Press, 2003.
  • JariKupiainen, ErkkiSevänen,John Stotesbury, Cultural Identity in Transition: Contemporary Conditions, Practices and Politics of a Global Phenomenon, Atlantic Publishers & Dist, Jan 1, 2004
  • Jonathan FriedmanCultural Identity and Global Process, SAGE, 1994

[10]– أنظر:

  • John PerryIdentity, Personal Identity, and the Self, Hackett Publishing, 2002.
  • Eric T. Olson The Human Animal : Personal Identity Without Psychology: Personal Identity Without Psychology, Oxford University Press,1997.

*نقلا عن موقع Aleph Lam


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى