أدب وفن

قراءة الدكتور عماد يونس فغالي حول عدد من نصوص الشاعرة كلود ناصيف حرب . الصادرة قريبا عن دار مشروع أفكار إغترابيّة.

حروف لا تموت عن سيدة الحنين
كلود ناصيف حرب
برعاية مشروع الأديب د. جميل ميلاد الدويهي أفكار إغترابيّة للأدب المهجري الراقي أستراليا )


قراءة الأديب الناقد الأستاذ الجامعي
د. عماد يونس فغالي.
حول عدد من نصوص كلود من شعر وأدب . الصادرة قريبا عن دار مشروع أفكار إغترابيّة.

_طرح د. عماد في هذه القراءات تصورا متكاملا
ورؤية نقدية جديدة لمعان وكلمات شعرية عميقة
وضعها في مجهر النقد والدراسة التحليلية لنقف على مدى تطور الكتابة الشعرية في المهجر وحول معاني ونصوص كلود .


النقد (١)
بين أروقةِ الحنين…!!!
(في “نغمات على قيثارة الحنين”)

في عنوان الكتاب كلمة، مفتاح الحلقة النصيَة كلّها. إذا عُدنا إلى تعريفها المعجميّ نجد الحنين في معنى الشوق. لكن دعوني أضيف تعريفًا أدبيًّا لائقًا: الحنينُ مشاعر شوقٍ لا تنطفئ. في هذا المعنى، يندرجُ سياقُ الكتابِ كلّه، في حقلٍ معجميٍّ واسعِ القياسات، حجمٌ أحاسيسُه مفتوحةُ المدى.
عالجتْ كلود ناصيف حرب حنينَها ألحانًا، عزفتها على أوتارٍ مشاعريّة سارتْ بها إلى عمق المفاهيم الإنسانيّة، تمتمتها روحُها “نغماتٍ على قيثارةِ الحنين” إلى الحبيب الذي لا يُشبعُ نهمها إلى دفقِ قلبها اللاهب به!
بدأ الكتابُ بعد المقدّمة الدويهيّة الوفيّة لمسيرة الشاعرة، بثلاثةِ نصوصٍ مقتضبة لكن عميقة الحبّ والوفاء لأحبّاء، هي اليوم حيثُ نقرأها بفضلهم: زوجها، راعيها وأمّها العذراء! لافتٌ استعمالها اللغةُ الفصحى، اعتقادي محاولةَ تجرّدٍ إلاّ من عاطفةِ الشكر والامتنان… لكأنّها في نصٍّ رسميّ نموذجيّ. لكنّه لا يخلو من شخص الكاتبة العالق في جماليا الخصوصيّة.
ثمّ انتقالٌ فوريّ إلى المحكيّة اللبنانيّة في امتدادات القصائد على المؤلَّفِ كلّه. أجرؤ على الإقرار أنّ لبنانيّةَ التعبير ذرفتْها المحكيّةُ مدرارًا على التراث الشعبيّ الإنسانيّ في معيوشه اللبنانيّ للأطر العشقيّة كاملةً!
في قراءةٍ لبنانيّة أيضًا للنغمات الشعريّة في الديوان، أحسستُني أُنشدُ على أثيرٍ رحبانيّ بصوت فيروز… الحركيّة الصادقة السرد في التعبيرات المشاعريّة خاصيّة الأخوين رحباني، أجادت لعبَها مسرحيًّا فيروز صوتًا يحيا المعاني، رسالةً تصلُ في ملء! قصيدتا “رح خبّرك شو صار عنّا” و “لمسة إيدك” نموذجًا. في الأولى على سبيل المثال: “مشّاني حبيبي عالورد… بتقلّي انتبهي من القمر، بيتنكّر بالليل… ليش أنا بعرف غيرك قمر يا قمر…”
وفي الثانية: “رح ضلّ قلّك اشتقتلّك… شفتك بمنامي مرّتين… لا طلّ ولا شفتو…”
“اشتقتلّك”، فعلٌ يتكرّر في القصيدة الواحدة والقصائد. هو فعلُ الحنين الدائم، تقول فيه صاحبةُ الديوان شوقَها حنينًا، بمعنى لا ينطفئ! في مفهوم الحبّ، الحنين يتأجّجُ في حضور الحبيب كما في غيابه، على وتيرةٍ واحدة. فالحبيب لا يغيبُ إلاّ جسدًا، قد يجعل تعبيراتُ الحبّ تتبدّل في الأسلوب والإطار ليس إلاّ.
تسميةُ “القمر” حاضرةٌ في السياق شبه دائمًا هي الأخرى، في المعنيين الحقيقيّ والمجازيّ. لتضفي على المشاعر النورَ الذي تحتاجه، تارةً قويًّا لكشفها الواضح، وتارةً أخرى خافتًا ليتوهّج القمرُ الحبيب.
في قصيدة “ضيّعت الكنزة الزرقا”، تمازجٌ حميم بين الأسلوبيّة الرحبانيّة التي أشرتُ إليها أعلاه، وبين فعل “اشتقتلّك” وتسمية “القمر”.
“ضيّعت الكنزة الزرقة
هالمقعد العتيق.
قالوا الحرامي سرقها
رحت عالمخفر تشكّيت…
… وكنت مشتاق أغمرِك
يا قمري الغالي”…
كلود ناصيف حرب، بهذا القدر قلبُكِ شفيف، لا تكتبين صناعةً، بل تعيشين شعرًا وترتقين جمالاً… نعم، كأن تَهدين إلى نموذجٍ أدبيّ لأيّ عملٍ بحثيّ أو دراسة أكاديميّة… هذا يُحسَب لكِ يا شاعرة!
كتبتِ في الديوان الحبَّ عبادةً، فأتيتِ الحبّ معبدًا، أمّيتِه مصلّيةً. والصلاةُ في مفهومها صِلةٌ بالحبيب، علاقةٌ فارقة بالحبّ الذي يعليه فوقَ كلّ آخر… تعبدينه، حبًّا حتى تكوّنه إلهًا لكِ… وليس في الحبّ مبالغة، لأنّ الحبّ مبالغة في حدّ ذاته.
“إنت إنت إنت
روح عالأرض
وقمر بسما حروفي”…
“إنتَ بقلبي معبد…
بصلّيلك هلّق وكلّ ساعة
لأنّو محبّتك صلا…”
بتعبيرٍ آخر، العبادةُ قِمَةٌ في الحبّ، وهي قمّتُه على الإطلاق. وليس في الأمرِ كفرٌ أو هرطقة كما شائع! إن لم تكن العبادةُ دافعُها الحبّ، باطلةٌ هي! الإلهُ هو الحبيبُ المطلق، والعكسُ صحيح، الحبيب هو الإله المطلق… وعلى قيثارتكِ كلود، عزفتِ نغماتِ عبادتكِ هذه، في هيكلٍ دافئ التعابير خاشع التأمّل، على هدْيِ قيثارتكِ، تزيّنتِ بعبقِ المناجاة، تتمتمينَ مزاميرَ العشقِ الإلهيّ بشفتَي قلبكِ الغارق في الحنين!!
وفي عَودٍ إلى العنوان “نغمات على قيثارة الحنين”، يخالُ لتأمّلي أنّ الحنينَ تشكّلَ آلةً موسيقيّة، تردّدتْ على أوتارها سمفونيّة إلهيّة، في صورةٍ مشاعريّةِ حالكِ الحبيبة، فتحوّلت النغماتُ أشعارًا، أناشيد! وأضحى الديوانُ هيكلَ حبٍّ، بيتَ عبادة، لا فرقَ فيه بين إقامةِ صلاةٍ أو عيش حبّ… طالما المساحةُ المتاحةُ قلبان يقيمان كلٌّ في الآخر، خلوٌّ من قيودٍ ولو تجمّلتْ.
كتابكَ هذا شاعرتي، كشفُ هويّتكِ الأنثويّة في هوى إنسانيّتها الرقيق. دفقُ مشاعرِكِ الحلوة، مذاقٌ طيّبٌ لمساءاتِ العاشقين… لستُ هنا أقيّم، بل أنعمُ بلذيذ طيّبات!
د. عماد يونس فغالي


النقد ( ٢)
كلود ناصيف حرب:
حنينُ مواعيد.
دهشةُ الغياب بخيوط الحنين!!
قيدُ خيارٍ وحبّ!
تهدينَ سلامًا!
شعرٌ يرتقي إلى الحبّ!!
شو حلوي مواعيدي

كلود ناصيف حرب
كيف القمر اللي غايب…
وما بيسأل عن الحبابب؟

حبيبي قلّي
والزهر عا فستاني:
عندي لكي علبة أغاني
ومواويل الصبر
متل شعرك الطويل…
وكلما مرقتي بشارع الحنين
بتعرفي عنواني…
وشو حلو نتلاقى
أنا وأنتي وهمس النجمه السهرانه…
وهيك بحبِّك…
وهيك بشتقلِك
يا فرحي وأحزاني.

كيف صباحَك يا حلو؟
دفا قلبي من شمسك
وصوتك نغم عصفور عا شبّاكي
وهمسك عطر ياسمين عا ثيابي…
بضْحك من قلبي لمّا بشوفك
راجع مع الخيّالِه…
من هيك خلّيك قبالي
يا حبيبي الغالي.

صباح عيونَك السود
يا أحلى همس ورنين العود…
تعب الإيّام حكايتنا…
ومهما الريح أخدتنا
وعا شطّ بعيد شلحتنا…
إنت وأنا
وكلمه من قلبك الحلو…
تا يفرح الموعود…
ويفتّح ورد جنينتنا…

أحلى ابتسامة لقمر العمر…
وشوقي إلك غُمر…
وهيك بحبَّك.

لمّا الحلو قلّي:
بلاقيكي من عشيّه
لبست بلوزة حرير صيفيّه
اشتريتها من السوق الكبير
وعندي إسوارة دهب غالي كتير…
حطيتها بإيدي…
وشو حلوه مواعيدي
مع الشبّ الأمير..

حنينُ مواعيد!!

حسبتُ نفسي أقرأ نصًّا رحبانيًّا من روائع التراث الفنيّ اللبنانيّ. وبعد، رحتُ أرتقي وأمتعُ… قالبٌ محكيٌّ مسبوكٌ بجمالاتِ الصبح، بحلاوة المواعيد، يا سيّدة، كم هائمٌ الحنين!
قصيدةٌ في حوارٍ بين الشاعرة والحبيب، تخالها فوق المكان، تركبُ عناصرَ الطبيعة المتشكّلة مادّةَ عشقٍ تبادليّة، لتحلّقَ في القلوب خارجَ كلّ حضورٍ في الزمن…
في البدء يأخذُكَ الإيقاع. تدندنُ موسيقى، تحسبُ نفسكَ فنّانًا، فتهتدي إلى وقعِ قلبٍ خافقٍ بمشاعرِكَ. أحسستُ يدَ الشاعرة تمسكني عبرَ تكوّنات أحاسيسها، فأحياها متنقّلاً بين ثناياها وتلقّيات محبوبها…
“لمّا الحلو قلّي… مع الشبّ الأمير..” وحدةٌ عضويّة بين الحلو والأمير، على صعيد المعنى في السياق العشقيّ، عرفت الشاعرة في قفلةِ قصيدتها كيف تحبو بينهما، لتعطي بانسيابٍ محبوبَها قيمتَه في حبّها. لكنّ قراءةً دلاليّة تروحُ إلى ملهمِ انتمائها الذي لا يدعو أحبّته إلاّ اعتماد “الأمير” و”الأميرة”. فداخلتْ شاعرتُنا المداوَلة التواصليّة الأحبّ مع الحبكة النصيّة لتخرج شاعريّتها إبداعًا.
في عَودٍ إلى سياق “الحنين” الغالب، كم مرتبطٌ بعنوان القصيدة “شو حلوي مواعيدي”. الموعدُ في كينونته حنينٌ إلى تحقّق. وتحقّقُه تلذّذٌ بعيش الحنين. وفي الحبّ، الحنينُ جارفٌ، لا يرتوي. في قمّةِ عيشه، المحبوبان حنينُهما أوجٌ… كأنّما الحنينُ وَقود الحبّ وبطاقته التعريفيّة… والقصيدةُ ههنا حقلٌ معجميٌّ وافرُ الحنين، قالته الشاعرة لا بمِدادِ يراعها، بل بنبض قلبها، تخالها تحيا حبّها في القصيدة لا تحاكيه شعرًا… “دفا قلبي… همسك عطر… وهيك بشتقلك… وشو حلو نتلاقى… شوقي إلك…شو حلوي مواعيدي…”.
قصيدةٌ غزليّة تتصنّف. حواريّة النوع الأدبيّ. مشهديّة مسرحيّة يتماوج إطارُها بين الواقع والأثير… عرفتِ كلود ناصيف حرب، وإن لم تقصدي، أن تشدّي القابع في الإشكاليّات النصيّة إلى الاستمتاع بجمالاتٍ شعوريّة هزّت كيانه الهامد في التحاليل، ليسمو عبرَ مسامه الإنسانيّة نحو علوّاتٍ تسير به إلى العمق.
د. عماد يونس فغالي في ٢٧ تشرين الأوّل ٢٠٢٠


النقد (٣)
ﻭﻓﻲ ﻏَﻴﺎﺑﻚْ…….
ﺟﻠﺴﺖُ ﺃﺧﻴﻂ ﺩﻗﺎﺋﻖ ﺍﻟﻮﻗﺖ
ﺑﺨَﻴﻮﻁ ﺍﻟﺤﻨﻴﻦ
ﻟـِ ﻳﻜﺘﻤﻞ ﺛﻮﺏ الإنتظار.

دهشةُ الغياب بخيوط الحنين!!

وفي غيابكَ كم حاضرٌ يا حبيبُ! في محوَري أنتَ والوقتُ كلّ أنا… جلستُ في حضرتِكَ أخيطُ حالي بكَ حنينًا يملأني إيّاك! “أخيطُ دقائقَ الوقتِ” زمانًا مهما طال، “ليكتملَ ﺛﻮﺏ الإنتظار”. نعم، ولكن هل يكتملُ غيابًا أم في الحضور؟ وفي هذا قمّةٌ في الأمل، عاملُ الرجاء في امتياز!
إذا رحتُ في المصطلح، أراني منقادًا إلى تعجّبٍ حدّ الرفض. هل يكتملُ انتظار؟ إن اكتمَل بطُلَ انتظارًا. لكنّ الصورةَ “ثوبُ الانتظار” غيّرت في الاعتبار، فلا تُلبسُ الكاتبة الانتظارَ ثوبًا، لكنّ الانتظارَ اكتملَ ثوبًا، تنسجُ خيوطَه من دقائقِ الوقتِ تفاصيلَ مخرّمة بأناملِ الحنين…
وما أبدع تزاوج الوقتِ مع الحنين. لوحةٌ تجريديّة تصوّر الوقتَ يغذّي الحنين على وقودِ المشاعر الحارقة، وتُظهر الحنينَ يمتصّ الوقتَ ببطءِ دقائقِ الانتظار…
أما تَراني أمرّ في المعادلات بصعوبةِ التمييز. كيف إذًا يكون الأمر مع أديبتنا الجالسة في الغياب تخيطُ مرغمةً مشاعرَها حنينًا يأكلُها صراعُ الانتظار والوقت. أيّ تفاعلٍ يقضّ من ذاتها فتختبئ في ثوبها وإن خاطته وهمًا، علّه يداوي الجراح!!!
د. عماد يونس فغالي في ١١ تشرين الثاني ٢٠٢٠


النقد (٤)
إلى يسوع

كيف افتقدك وكيف أشتاقك
وانت قيد الاقامة
الجبرية في قلبى ❣

قيدُ خيارٍ وحبّ!

في ارتباطٍ مع يسوع، هو دائمُ الحضور فينا. طوباكِ سيّدتي، لا تغفلين عنه. حاضرٌ في مدارِكِ، تعيشين وإيّاه، كم حبيبٌ… صفتُه أنّكِ يقينًا حبيبتُه، وأنتِ تدركين. قلتِ “وأنتَ قيد الاقامة الجبريّة في قلبي”، أضحكتِ قلبَه! أمَا تسكنينه، وهو في ملئِه يحملكِ منذ الصليب، يأتيكِ قربانًا، يسكنكِ أسراريًّا؟! وأنتِ تعبقين بفوحه، تنثرينَ شذاه صوتَ حبٍّ مستدام!
“كيف أفتقدكَ وكيف أشتاقك”، اعذريني. صحيحٌ هو يُروي، ولكن هل ترتوين منه؟ ألا تفتقدينه في مفاصلَ من حياتكِ؟ الصعبة والدقيقة خصوصًا؟ كلّ المفارقة أنّكِ تلقَينَه، وأنتِ تعرفين، في قلبكِ. وأنا أكيد أنّه يُقيمُ بفرح، وخيارٍ حبيب، يشعّ في تواصلاتكِ، يضيء في مسيرتكِ… وأنتِ تتلذّذين عذوبةَ إقامته…!!
في إقامته داخلَ قلبكِ يردّد:”إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلًا”… هذه هيّ جبريّتُه، من فيضِ إرادته… هكذا هو، يسوع حبيبٌ بكلّ خياراته، أمينٌ لمواعيده… ونحن، وإن في ضعفاتِنا، نسكنه، نمتلئ منه، حتى صارنا، فارتقينا إليه!
د. عماد يونس فغالي في ٢٠ تشرين الثاني ٢٠٢٠


النقد (٥)
فكرة

“كلّ الذين استغلّوا بياض النيّات في داخلي، مضيتُ وتركتُهم لله”.

تهدينَ سلامًا!!!

من ينشأْ على حُسْنٍ، تثبتْ في روحه القيم. من يربَ على الرفعةِ، يرقَ في سلّمِ الفضيلة، وتبقَ نفسُه تنشدُ العلى!
في داخلكِ كلود، بياضُ نيّات، بديهٌ حالكِ. ربيبةُ الأخلاق الحميدة، تهتدين إليها امتدادَ عمركِ الفائض جمالاً… حسبُكِ تنثرينه بذورًا حولكِ!
وامتشقتِ اليراعَ تحبّرينَ الأدب، مرسلَةَ الكلمة في أبعادها الإنسانيّة، تطالُ الفضيلة في منابعها الإلهيّة. وبعد، تحملين مشعلَ الحبّ يضيءُ على كبار إبداعٍ، تهتفين باسمهم من بوقِ الحبّ صوتًا يملأ الرحُب!
هذا في الناسِ أيقونةُ خير… لكن، ليس الخيرُ دائمًا مرغوب. صغارُ النفوس يحومون، الخيرُ يكشفهم. في داخلهم الحقدُ أعمى، يصرخُ آهاتِهم، ينفثون سمومَهم. سوءُهم يعوي، كالذئابِ يهجمون. لا يطيقون انكسارَ شرّهم. لا مكبحَ لرذيلتهم.
وصلوا نيّاتِكِ البيضاء، يلوّثونها بفحيح ألسنتهم، ونتنِ فعائلهم… وأبشع، يستغلّونها لغاياتهم الدنيئة!
سوداءُ قلوبُهم منذ قيامها. قد لا يقصدون. هم في ظلامهم مقيمون، يظنّون النورَ عدوًّا…
تعلنينَ في وجههم سلامًا استودعكِ إيّاه الحبيب. إلى منبره الغافر تكلينهم. ومضيتِ! أجل، ليس في مساحتِكِ عبورٌ إليهم. أنتِ في نيّاتكِ المضيئة ترينهم غرباء، فلا تلتفتين. يا ربّ رحمتكَ أدعو لهم. أتركُهم في أوكارهم، وأتبع طريقي. أمضي إلى مراتعي، حيث أنتَ الملاذ!
طوباكِ تصلين مراعيه الخصيبة، وتغمرينهم بدعاءاتٍ تهديهم فضاءاتٍ سويّة… تباركتِ سيّدةً في ملء إنسان!
د. عماد يونس فغالي في ٢٧ تشرين الثاني ٢٠٢٠


النقد (٦)
حبّ أجملُ من العمر

في مكانٍ ما وزمانٍ ما
خبأتُ في حديقتي كلماتٍ
من ذهبٍ وياقوت…
وذاتَ يوم اكتشفتُ
أنّ أحداً سرقَها
مع العطر والوردة…
والسارقُ هو أنت.
كلُّ كلمةٍ قلتَها لي
زرعتُها في قلبي…
جعلتُها كتاباً…
يُضيءُ في العتمة…
يسألونَني عنك في المدن،
في الحاراتِ القديمة
ما وراءَ الجبال…
لكنّني أُخفيك عن العيون…
لا أريد أن يأخذَك أحد…
ولا أريد أن يُشبهَك أحدٌ…
يا كلّ براءتي،
وكلّ جُرأتي…
وكلّ حكايتي.
أنا لولاك سرابٌ…
ولولا عيناك (عينيك)
لا أعرف إلى أين أمضي…
فابقَ معي إلى آخِرِِ العُمر…
يا حبًّا أجملَ من العُمر.
المدينةُ واسعة،
وليس فيها أحدٌ
إلاّ أنا وأنت…
أنا الأميرةُ في قلبِك
وأنتَ الملِكُ على حقيقتي.
لماذا تداخلتَ فيّ
إلى هذا الحدّ…
لم أرغبَ يوماً
في أن أصيرَ سماء
فصرتُ سماء…
ولم أكن أشتهي
أن أصيرَ بحراً
فجعلتَني بحراً…
لا شاطئ له…
ولم أكن في ما مضى
من الزمان
إلاّ نفسي،
فصرتُ أنت.
تعالَ إلى روحي،
وهي تعرفُك…
تسكنُ فيها…
تحتلُ أنتَ كلّ زاويةٍ
من زوايا ضُلوعي…
تحتلّني…
تأخذُني من ذاتي
ولا تطلبُ إذْناً…
أيّها المعتدي
على حقوقِ النساء…
يا مَن سرقتَ كلماتي
من تلك الحديقة…
مع العطرِ والوردة
أيّها السارقُ …
الذي يأخذُ كلّ شيء
وأسامحُه
لأنّه حبيبي…
لأنّه حبيبي.. لأنّه حبيبي.

شعرٌ يرتقي إلى الحبّ!!
(قراءةٌ في “حبّ أجملُ من العمر”).

يسمّونه غزلاً، وتصنّفينه هكذا أنا أكيد. لكنّي، اسمحي لي شاعرتي، أعمّدُه نشيدًا، سمفونيّةَ قلب. تقدّمين أعلاه تعريفًا نموذجيًّا، شعريًّا للحبّ، لا مجرّدًا، بل معيوشًا في نفسَين، كنتِ إحداهما، وهو، أنتِ الآخر!
“خبأتُ في حديقتي كلماتٍ”، سرقتَها. أو
“وذاتَ يوم اكتشفتُ
أنّ أحدًا سرقَها
مع العطر والوردة…
والسارقُ هو أنت”.
وفي بحثٍ عن الكلمات تلك المسروقة، تجسّدتْ، فانكشفتْ أنتِ، لقولكِ:
“ولم أكن في ما مضى
من الزمان
إلاّ نفسي،
فصرتُ أنت”.
صرتُ مسروقتكَ يا سارقَ كلماتي “الذي يأخذُ كلّ شيء”، أخذتَني، صرتُكَ، لأنّكَ حبيبي، ثلاثَ مرّات، كلّ المرّات!
ويحضرني سؤالٌ سياقيٌّ هنا: ما هي كلماتُكِ المسروقةُ هذه؟ تجيبني الكلماتُ: أنا هي “أحبّكَ”، أنا هي “أنت… صرتُكَ…” وتسامحينه بعد؟! واعجباه، تسامحينكِ دعيني أفترض؟
سؤالٌ آخر بعدُ اعذريني: أمَا انقدتِ لسرقته طوعًا؟ أو أنّكِ أحببتِ سرقتَه، فصرتِ فيها شريكةً فاعلة؟
ما يميّز القصيدةَ انسيابُ الحالات المتتالية الموصوفة، تشكّلتْ حقلاً مشاعريًّا رسمتِ في خصبِ عروقه نبضًا عشقيًّا، تعانقَت بألوانه عناصرُه لوحةً رومنسي- حركيّة تملأ الرحُبَ النصيّة!
“المدينةُ واسعة”، والقلبُ الذي يراها واسعٌ كذلك، لا يرى إلّاك. في رؤياه، تملأه، تخلو المدينةُ من دونكَ… أنتَ الحقيقةُ التي تنبسطُ على مساحةِ المدينة، تكفيني، أحيا بفيضها!
قد يقرأ امرؤٌ فلا يجدَ في السياقِ إلاّ عاديَّ الغزل. ربّما صحيح، لكنّ انصهار العبارات مع المعبَّر عنه، يخلقُ فرادةً شعريّة تدلّ على شخص الحبيبةِ، الشاعرةِ هنا… تتابعُ التعبيرات في حالةِ الحبّ المُعاشة يروحُ في ارتقاءٍ، في ارتفاع. لا تكرارَ مملّ، والمادّةُ تجرّ إليه.
كلود ناصيف حرب، ضميرُ المتكلّم شخصيّةُ القصيدة، من داخل طبعًا، في حديثٍ مباشر مع الشخصيّة الثانية، الرئيسة هي الأخرى: أنتَ، الحبيب طبعًا. في تمييزٍ أدقّ: السارق. هاها، السارقُ الحبيب! لكنّ الشخصيّتين، على إمكانيّة كونهما محدّدتين، يمكنُ أن يكونا عامّتين، يتجسّدهما كلّ ثنائيّ. وتبقى لكِ الفرادةُ شاعرتي بتشكّلكِ داعيةً نموذجيّة في نقلِ مشاعرِكِ وتصوّراتكِ في الحبّ، ولكن في أدبيّةِ إبداعكِ الشعريّ العالي!
أنا قرأتُ معجَبًا، حسبي كلّ قارئٍ مثلي يتمتّع!!
د. عماد يونس فغالي في ١٠ كانون الأوّل ٢٠٢٠


النقد (٧)
بستان الإبداع… ضوئيّةُ ألق!

عندما يُذكرُ تعبير “الإبداع”، يروح فكري إلى التميّز، وبالتالي إلى النادر في النوع. وأنا في خوضي غمارات الكلمة والأدب، أقرّ أنّي ألقى إبداعًا، ولكنّي في حاجةٍ دائمة إلى غوصٍ في العمق وملاحقة المحار في خباياه… حتى جئتِ بي إلى عالمِكِ الأدبيّ فاكتشفتُ “بستان الإبداع”. اصطحبتِني في ممرّاتٍ إبداعيّة متنوّعةَ الفكرِ والأدب، والمبدعين… وجدتُني أهتدي إلى كمٍّ نوعيّ يقول بالفم الملآن: الإبداعُ ليس حكرًا، هو نعمة تحتاجُ إلى من يعتمدُها فيجمع نظراءَه، يتألّقون!!
كلّ هذا، بطاقةُ تعريفٍ لاسمٍ يملأ سماءَ الكلمة ويشغلُ فكرَ الأدباء… اسمٌ واحدٌ تكلّل بالأمومة الإبداعيّة من مهجرٍ يُجهرُ على الوطن العربيّ الأمّ هتافَه: “بستان الإبداع” للإعلاميّة والأديبة المهجريّة، كلود ناصيف حرب. يكفي الاسمُ لانحناءةٍ قادرةِ الجميل مُحبّة!!!
“بستان الإبداع”، مساحةٌ ضوئيّة، عبر الأثير، تنتقي الجمالات الإبداعيّة في حقولها، تأتي بها بذورًا وشتولاً، بل نتاجًا ناضجًا إلى مضجعها المنمّق بالطهر والألق… طوبى لمن نال حظوةً في السياق! حسبي أينعُ في دفء أنواره، وأفيد!!
د. عماد يونس فغالي في ٨ تشرين الثاني ٢٠٢٠


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى