قراءة في مفهوم الوحدة الإسلامية ومناهج تطبيقها في فكر السيد جمال الدين الأفغاني
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)
I. في منطلقات الرُّؤية السِّياسِيَّةِ
لعل من أبرز وأهم ما يمتاز به فكر السيِّد جمال الدِّين “الأفغاني”، عند كثير من كبار الباحثين في أمور الحياة الإسلامية والعربية المعاصرة، قدرته الفذة على النظر إلى الموضوع الدِّيني لا باعتباره مجرَّد مظهرٍ لانتظام العلاقة بين العبد وربه وحسب؛ بل باعتباره، إضافة إلى هذا، مظهرا لوجود حضاري يسعى الإنسان من خلاله إلى تحقيق وجوده. (:114Hourani) ولذا، يمكن القول إن السيِّدجمال الدِّين استطاع أن يُدْخِلَ الفكر الإسلاميَّ المعاصر في القرن التاسع عشر إلى مساحات من التفاعل مع الحياة كاد أن يكون، في ذلك الوقت، تائها عنها.
تعرَّضالفكر الإسلامي، عامة، وفي تلك المرحلة من تاريخه المعاصر، إلى تشوُّهَاتٍ كثيرة؛ منها ما استند إلى اجتهادات مدَّعين للعلم، والعلم الموضوعي بعيد عنهم؛ ومنها ما كان بناء على تصرفات مبتدعين لأساليب نظرٍ في الدِّين، والدِّين الحقيقي لا علاقة له بها. وكان لأفكار السيِّد جمال الدِّين، والمبادىء التي نادى بها، أن تعيد كثيرا من مسلمي تلك المرحلة وعربها إلى رحاب الفهم الحقيقي للإسلام؛ ذلك الفهم الذي دعت إليه الشريعة الإسلامية السمحة، والذي رأى في الإسلام ضرورة لا بد من وجودها لتحقيق الحضارة الإنسانية جمعاء. ولعل من أبرز ما يشهد لهذا، عند السيِّد جمال الدِّين، ما جاء في مقالة له نُشِرَتْ في “العروة الوثقى” حول موضوع “الجنسية والديانة الإسلامية”.
رأىالسيِّد جمال الدِّين “إن الدِّين الإسلامي لم تكن أصوله قاصرة على دعوة الخلق إلى الحق، وملاحظة أحوال النفوس من وجهة كونها روحانية مطلوبة من هذا العالم الأدنى إلى عالم أعلى؛ بل إنها، كما كانت كافلة لهذا، جاءت وافية بوضع حدود المعاملات بين العباد، وبيان الحقوق كُلِّيِّهَا وجُزْئيها، وتحديد السلطة الوازعة التي تقوم بتنفيذ المشروعات وإقامة الحدود وتعيين شروطها” (الأفغاني:2:35).
آمنالسيِّد جمال الدِّين بدور للقوة في الحياة الاجتماعية للإنسان؛ بل رأى في القوة أداة فعالة لصيانة الأمة وحفظ وجودها من احتمالات تعدي الآخرين على هذا الوجود. ومن هنا، فإنه يقول “كل أمة لا تمد سواعدها لمغالبة سواها لتنال منها بالغلب ما تنمو به بنيتها ويشتد به بناؤها فلا بد يوما أن تقضم وتهضم وتضمحل ويمحي أثرها من بسيط الأرض”. (الأفغاني:30) ويستخلص الأفغاني من هذا مبدأً يرى فيه القوة أساسا لوجود الأمة الناجحة والقادرة على البقاء؛ فيقول “إن التغلب في الأمم كالتغذي في الحياة الشخصية”. (الأفغاني:30)
يمكن للمرء أن يستخلص،هاهنا، أنالسيِّد جمال الدِّينيرى في الدِّينوجودا عمليا لممارسة العيش على هذه الأرض وبين ناسها؛ وهو وجود جَمْعٍ للمؤمنين به ليمارسوا عيشهم هذا، وليسموا بهذا العيش إلى رحاب الحياة الآخرة. فليس الدِّين، عند الأفغاني، إلا فعل جمع وتوحيد لأهله؛ ولذا فهو يسعى، عبر هذه النظرة، إلى الحد من سلبية وجود المذاهب المتعددة ضمن الدِّين الواحد؛ والدِّين الإسلامي تحديدا. إن السيِّد جمال الدِّين لا يرى في الدِّين عنصرَ، أو عاملَ، فَصْلٍ بين أهلِ الدِّين، مهما تنوعت مذاهبهم وتعددت؛ بل يجد فيه قدرةَ توحيدٍ وفِعْلَ لَمِّ شَمْلٍ مُسْتَمِرَيْن. وعلى هذا الأساس فإن السيِّد جمال الدِّين يرى بأن المسلمين قد خرجوا، بإسلاميتهم، عن النطاق الضيق الذي يمكن أن تحصرهم فيه روابط العصبية العرقية، وأصبحوا ينعمون برابطة الدِّين المنفتحة على الوجود الإنساني برمته. ومن هذا القبيل ما ذكره السيِّد عن أن المسلمين “لا يعتدُّون برابطة الشعوب وعصبات الأجناس، وإنما ينظرون إلى جامعة الدِّين”. (الأفغاني:35)
استطاع السيِّد جمال الدِّين أن يصل إلى خلاصة أساسيَّة في هذا المجال. ففي زمن كانت الدعوة إلى العصبية القومية بدأت تستشري في العالم الإسلامي، بتأثير من التفكير الأوروبي الوافد على البيئات الإسلامية، طرح الأفغاني خلاصة رأيه هذا الذي يقوم على محاربة النـزعات القوميَّة وقمع أي ميل نحو التعصُّب العرقي؛ وإذا به يؤكد، تالياً، العودة بالمسلمين إلى صفاء دعوتهم الدِّينية القائمة على التفاعل الإنساني المنفتح عبر الشريعة التي سنها الرحمن؛ ويرى أن “كل فخار تكسبه الأنساب، وكل امتياز تفيده الأحساب لم يجعل له الشَّارِعُ أثَراً في وقاية الحقوق وحماية الأرواح والأموال والأعراض، بل كل رابطة سوى رابطة الشريعة الحقَّة فهي ممقوتة على لسان الشارع، والمعتمد عليها مذموم، والمتعصب لها ملوم”. (الأفغاني:35)
يُمكن فهم بعض المبادئ الأساس التي انتظمت حركيَّة الوجود السياسي للسيد جمال الدِّين في مجال دعوته الإسلامية التوحيدية. وأول هذه المبادىء، كما جاء في بحث نشر للسيد في “العروة الوثقى”، أن “لاجنسية للمسلمين إلا في دينهم”. (الأفغاني:26) فالجنسية الأساس عنده، هي تلك التي تنتظم الناس في مجال الوحدة الإسلامية؛ وهي، تالياً، الجنسية الإسلامية من غير ما لَبْس. وهي، أيضاً، جنسيةٌ تمنع أي تعصب للعرق، أو للجنس، بل حتى لما يمكن اعتباره ميزات تاريخية أو حضارية خاصة. فكل الناس، هاهنا، مسلمون يجمعهم “الاتفاق والتضافر على تعزيز الولاية الإسلامية”؛ وهذا الاتفاق على ما يمكن تسيمته من حديث عن الجنسية، إلى تركيز وتأكيد لما يمكن أن يكون حديثاً عن الهويَّة، هو، عند السيِّد، “من أشد أركان الديانة المحمدية”، والعمل به “من أوَّلِيَّاتِ العقائد عند المسلمين”. (الأفغاني: 27)
II. الرُّؤيةُ السِّياسِيَّة
يحدد الأفغاني مفهوما جديدا، بالنسبة إلى زمنه، للعمل السياسي الحزبي؛ ومن المعروف أن بعض الأحزاب السياسية كانت قد بدأت تنشط ضمن صراعات داخلية معينة في الكيان الإسلامي العام. ومن هنا يقول أن الأحزاب ليست لتتعارض فيما بينها وتتنازع، بقدر ما يجب أن تكون وجودا مُحَرِّضَاً للوحدة وممارسةً تَسُدُ من ثغرات الفرقة والتشتت اللذان يمكن للأمة أن تعانيهما. ولذا، فإن السيد جمال الدِّين الأفغاني يرى أن من واجب الأحزاب السِّياسية ومصالح الجماعات الحاكمة أن تتضامن فيما بينها لخدمة الإسلام.
إن مما يوضِّح آلية عمل هذا الفعل السياسي ما يذكره السيِّد جمال الدِّين الأفغاني في أحد مقالاته في “العروة الوثقى” حول مفهوم وحدة الجماعات الإسلامية المنتشرة في أرجاء الأرض. فهو يرى “من أدرنة إلى بيشاور دولا إسلامية متصلة الأراضي، متحدة العقيدة، يجمعهم القرآن، لا ينقص عددهم عن خمسين مليونا، وهم ممتازون بين أجيال الناس بالشجاعة والبسالة”؛ ثم يتساءل قائلاً “أليس لهم أن يتفقوا على الذب والإقدام كما اتفق عليه سائر الأمم؟”. واللإتفاق الذي يتحدَّث عنه الأفغاني، هاهنا، ليس اتفاقا تمليه المصالح الآنية أو الرؤى السياسية المرحليَّة؛ بل هو إتفاق يوجبه الشَّرع الإسلامي، وتتطلبه أصول ممارسة الوحدة بين المسلمين.
يقول الأفغاني إن هذا الإتفاق أما هذا الذي يتوقعه من القوم فليس ” ببدع منهم، فالاتفاق من أصول دينهم”. (الأفغاني: 28) ولا يقف السيِّد عند هذا الحد من الحض على الإتفاق بين المسلمين، بغض النظر عمّا يمكن أن يكون المسلمون أنفسهم قد تحدروا منه من عصبيات أو جنسيات، بل يذهب إلى القول بأن هذا الإتفاق يقود إلى تحقيق أمرين أساسيين في الحياة الإسلامية. الأمر الأول، ووفاقا إلى ما يذهب إليه السيد، أمر معرفي يكشف عن أحكام الله؛ أما الأمر الثاني فهو، وكما يذكر الأفغاني ، من باب الوجوب الديني الذي لا بد للمسلم من الأخذ به. وعلى هذا، يقول السيد في مبحث له نشر في “العروة الوثقى” حول “الوحدة والسيادة”: “بلغت مكانة الاتفاق في الشريعة الإسلامية أسمى درجة في الرعاية الدينية حتى جعل إجماع الأمة واتفاقها على أمر من الأمور كاشفا عن حكم الله وما في علمه، وأوجب الشرع الأخذ به على عموم المسلمين، وعد جحوده مروقا من الدين وانسلاخا عن الإيمان”. (الأفغاني: 32)
إن الوفاق الذي يدعو إليه الأفغاني يتجاوز، ههنا، محدوديَّة مبدأ المصالحة بين الخصوم؛ ويتجاوز مبدأ تقارب المصالح والأغراض الآنية أو المرحلية. الوفاق السياسي بين المسلمين بنظر السيِّد جمال الدِّين الأفغاني هو فعل تحقيق للوجود الإسلامي برمته؛ بل هو الإحساس الإسلامي بوجود الأمة الإسلامية، وضرورة عيش آمالها وآلامها وتحقيق طموحاتها ومبادئها. وكأن الوفاق الذي يدعو إليه السيِّد جمال الدِّين الأفغاني هو اندماج للبوتقة الفردية الضيقة التي يعيش فيها الفرد خصوصيات وجوده، بالكيان الجمعي للأمة؛ بل بكل ما في هذا الكيان من شمولية وامتداد عبر الزمان والمكان والأشخاص.
يدعو السيد جمال الدِّين الأفغاني، عبر تأكيده على ضرورة الوفاق وأهميتة بين الجماعة، إلى توحُّدٍ إيجابي بين الفردية والجمعية في الحياة الإسلامية. ولعل مصداق هذا، ما جاء في كلام للسيد في مقال نُشِر له في “العروة الوثقى” حول “الوحدة والسيادة” يقول فيه إن “الوفاق تواصل وتقارب يحدثه إحساس كل فرد من أفراد الأمة بمنافعها ومضارها، وشعور جميع الآحاد في جميع الطبقات بما تكسبه من مجد وسلطان. .. وهذا الاحساس هو ما يبعث كل واحد على الفكر في أحوال أمته فيجعل جزءا من زمنه للبحث فيما يرجع إليها بالشرف والسؤدد وما يدفع عنها طوارق الشر والغيلة، ولا يكون همه بالفكر في هذا أقل من همه بالنظر في أحواله الخاصة، ثم لا يكون نظرا عقيما حائرا بين جدران المخيلة، دائرا على أطراف الألسنة، بل يكون استبصاراً تتبعه عزيمةٌ يصدرُ عنها عمل”. (الأفغاني: 30-31
عندما يأتي المجال للكلام عن القيادة التي يجب أن تتولى تنفيذ هذه السياسة للوحدة الإسلامية، فإن الأفغاني يقدم دراسة للواقع المعيش في زمنه؛ ثم يسعى إلى عرض ما يراه حلولا ناجعة من ضمن هذا الواقع. يرى الأفغاني، أن تعدد القيادات ضمن العالم الإسلامي هو عامل سلبي في وجه تحقق شروط الوحدة. وهو يرى أن “تعدد الملكة عليهم (المسلمون) كتعدد الرؤساء في قبيلة واحدة والسلاطين في جنس واحد، مع تباين الأغراض وتعارض الغايات، فشغلوا أفكار الكافة بمظاهرة كل خصم على خصمه، وألهوا العامة بتهيئة وسائل المغالبة وقهر بعضهم لبعض، فأدت هذه المغالبات، وهي أشبه شيء بالمنازعات الداخلية، إلى الذهول عمَّا نالوا من العلوم والصنائع، فضلا عن التقصير في طلب ما لم ينالوا منها، والإعسار دون الترقي في عواليها”. (الأفغاني: 26-27)
أدَّى تعدد القيادات الذي كان يعيشه العالم الإسلامي زمن الأفغاني، بنظر السيد، إلى شغل الناس بما ليس من حقيقة أهدافهم. ولذا، فهو يرى أن اهتمام الناس بالتحزب مع قيادة ضد أخرى، حوَّل انتباه القوم عن الأهم في الممارسة السياسية، أي القوة. فالقوة، المادية، كما المعرفية، أساس لتحقيق الغلبة؛ والغلبة، بحد ذاتها، أساس لا بد منه لتحقيق عبر القائد الواحد، بقدر ما يشترطها عبر تحقيق وحدة القيادة. ويرى السيِّد جمال الدِّين الأفغاني أن القيادة وحدة القيادة تكون بجعل القرآن الكريم سلطانا يخضع جميع القادة لتعاليمه ويسيرون في سياساتهم بهديه؛ وبذا يتكتل القادة المسلمون ضمن رؤية استراتيجية واحدة هي رؤية القرآن الكريم، ويكون، كما يقول السيد، “وكل ذي ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع الوحدة.
البارز في كلام الأفغاني، ههنا، حديثه عن الدور الذي يلعبه الإنقسام السياسي في إلهاء القوم عن زيادة التحصيل العلمي والمعرفي. وتتضح الأهمية التي يوليها السيِّد جمال الدِّين الأفغاني للعلم في تحقيق الوحدة الإسلامية عندما يحدد العدو الذي يواجه المسلمين ووحدتهم. ويقول السيِّد جمال الدِّين الأفغاني في هذا المجال إن “الاستعمار، بمعناه الصحيح ومبناه الصريح، هو تسلط دول وشعوب أقوياء علماء، على شعوب ضعيفة جهلاء، ولا يخرج عامل الغلب والقهر عمَّا ذكرناه فيما سبق وهو “القوة والعلم” يحكمان ويتحكمان “بالضعف والجهل”. (الأفغاني:27) ولذا، فلما كان الجهل العلمي والمعرفي هو الباب الذي يفتحه أهل الأمة للإستعمار كي يدخل منه إلى رحابهم ويتحكَّم، عبره، بمصائرهم؛ فإن السعي إلى العلم وتأمين وسائل تحقيق هذا السعي، من الأمور اللازمة للخلاص من ربقة الاستعمار، ومن ثمَّ، تحقيق الغلبة والوحدة الإسلاميتين.
يدرك الأفغاني تمام الإدراك أن تحقيق قيادة واحدة للمسلمين في زمنه ليس، ربما بسبب من ضعف المسلمين أنفسهم وشدة تغلغل الاستعمار في مجالات عيشهم، بالأمر السهل أو حتى الأمر الممكن. ومن هنا، فإن الأفغاني لا يشترط تحقيق الوحدة ، فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه”. (الأفغاني:29) وهنا يشير السيِّد جمال الدِّين الأفغاني إلى دور أساس يمكن للعلماء القيام به في هذا المجال. إنه يرى أن العلماء يشكلون أحد أهم ضمانات تحقيق المعرفة والوفاق والغلبة و الوحدة؛ فيقول “لو تُرِكَ المسلمون وأنفسهم بما هم عليه من العقائد، مع رعاية العلماء العاملين منهم، لتعارفت أرواحهم، وائتلفت آحادهم”. (الأفغاني: 27)
III. خلاصاتُ الرُّؤيَة
حدد الأفغاني، بصورة عملية وواقعية مميزة، الأسس التي تقوم عليها دعوته إلى الوحدة الإسلامية. ولعل من أبرز هذه الأسس ذهابه إلى أن من واجب الأحزاب السِّياسية ومصالح الجماعات الحاكمة أن تتضامن فيما بينها لخدمة الإسلام. ومنها أيضا أن الوحدة الإسلامية ليست في ذلك التعاون الذي يمكن أن يقوم على مستوى القيادات السياسية والدينية، وفيما بينها؛ بل هي، كذلك، في تضامن الأمة جمعاء. أما الهدف السياسي والحضاري للوحدة الإسلامية، الذي يسعى إليه السيد جمال الدِّين الأفغاني، فهو في تمكين الأمة الإسلامية، بالدرجة الأولى، وسائر أهل الشرق، على الوقوف في وجه الاستفزاز والعدوان الذان كان يمثلهما التوسُّع الأوروبي زمنذاك.
مارس السيد جمال الدِّين الأفغاني دعوته إلى هذه الوحدة الإسلامية، عبر موقف ريادي واسع الأفق. لقد توجَّهَ إلى المسلمين في بلاد فارس والأفغان طالبا منهم العمل على تحقيق الوحدة مهما تنوعت أو تعددت مذاهبهم وفرقهم الإسلامية. ويرى السيِّد جمال الدِّين الأفغاني، في هذا المجال، أن “{الفرس والأفغان} طائفتان هما فرعان لشجرة واحدة، وشعبتان ترجعان لأصل واحد هو الأصل الفارسي القديم، وقد زادهما ارتباطا اجتماعهما في الديانة الحقة الإسلامية، ولا يوجد بينهما إلا نوع من الاختلاف الجزئي، لا يدعو إلى شق العصا وتمزيق نسيج الاتحاد، ليس بسائغ عند العقول السليمة أن يكون مثل هذا التغاير الخفيف سببا في تخالف عنيف”.( الأفغاني: 265) وهو يذهب أعمق في هذا الموضوع، إذ يقترح أن “ليس ببعيد على همم الإيرانيين وعلو أفكارهم أن يكونوا أول القائمين بتجديد الوحدة الإسلامية، وتقوية الصلات الدينية، كما قاموا في بداية الإسلام بنشر علومه، وحفظ أحكامه، وكشف أسراره، وما قصروا في خدمة الشرع الشريف بأية وسيلة”.(الأفغاني:265)
ولقد رأى الأفغاني أن بإمكان الناس في الهند، كما في مصر، وإن اختلفت أديانهم وتنوعت، أن يتحدوا فيما بينهم، لمواجهة الاستفزاز والعدوان القادمين من بلاد الغرب. (الأفغاني: 296، 308 ، 205-207) وثمة من الباحثين الرصينين من يشير إلى نقاط مشروع عملي لتوحيد السياسة الإسلامية كان السيد جمال الدِّين الأفغاني يدعو إليه، ويسعى إلى تحقيقه. (Hourani: 116) ولعل من أبرز سمات هذا المشروع أنه كان يعمل على ضم الوجودين العثماني والفارسي،الأول بصفته المذهبية السنية، والثاني بصفته المذهبية الشيعية، إلى بعضهما كي يتمكنا من الوقوف معا بنجاح في وجه التسلط الغربي. بل إن من الباحثين من يذهب إلى أبعد من هذا، إذ يشير إلى إمكانية كون هذا المشروع من الأسباب التي أدت إلى مصرع الشَّاه ناصر الدين الصفوي الذي كان معارضا له؛ والذي يقال بأن السيد جمال الدِّين الأفغاني كان من الحاضين على تنفيذ هذا الاغتيال. (Kedouri)
يبقى القول إن السيِّد جمال الدِّين الأفغاني كان نموذجا لجانب عملي فذ عرفته مفاهيم الوحدة الإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر. لقد سعى الرجل، بفردية مميزة، إلى إنشاء تيار من الممارسات السياسية القائمة على نظر محدد في فهم الدور العملي للإسلام في الحياة الإنسانية. ومن الواضح أن كثيرا مما طمح إليه السيِّد جمال الدِّين الأفغاني لم يتحقق بحذافيره؛ لكن من الواضح أيضا أن كثيرا من أفكار الأفغاني انزرعت بقوة في نفوس كثيرين من ناس ذلك الزمن. ومن الجلي أن هذه الأفكار وجدت من يحملها وينقلها إلى ناس الجيل الذي أتى بعد جيل السيِّد جمال الدِّين الأفغاني. لكن، لا بد من القول أن أفكار الأفغاني ظلت عند التطبيق، من قبل مريديه والمؤمنين بدعوته إلى الوحدة الإسلامية، دون طموحات السيد، وأقل مما كان يرجوه لها. أما اليوم، فإن أفكار السيِّد جمال الدِّين الأفغاني تبدو وكأنها لا تزال تأتي، عبر منهجية وجودها، حلولا، بل تحديات، لكثير من المعضلات التي تواجه تحقيق الوحدة الإسلامية. نعم، لا بد من عودة رصينة إلى منهج أفكار الأفغاني، ولا بد من إعمال نظر جدي ومسؤول في الأوضاع الراهنة للمسلمين في ضوء الطروحات التي يقدمها فكر السيِّد جمال الدِّين الأفغاني.
دعا الأفغاني إلى الوحدة الإسلامية عبر قيادة القرآن الكريم، ودعا إلى منع الاختلاف الحزبي والمذهبي من أن يكون سبيلا لهدم الأمة وتشتيت صفوفها، وشدَّد الأفغاني على أهمية القوة والغلبة إن كان في المجال المادي أو في المجال العلمي. ولا مندوحة من التأكيد، في هذا المجال، من أن الأفغاني قد أوضح، ومنذ البدء، أن الاستعمار الغربي هو العدو الأساس الذي يتربص النوائب بالوحدة الإسلامية، وأن على المسلمين أن يتوحدوا لمواجهة هذا الخطر.
يبقى عدد من التساؤلات يلوح في البال. فهل بات المسلمون على وعي بما أشار إليه الأفغاني قبل ما ينوف على قرن من الزمن عندما أكَّد لهم أن الاختلاف في المذاهب ضمن الدين الواحد لا يجب أن يستغل لتفريق هذا الدين؟ وهل أدرك المسلمون، منذ ما ينوف على القرن من الزمن، أهمية المثال الذي قدَّمه لهم السيد جمال الدِّين الأفغاني عن تجربة الألمان فع المذاهب الدينية حين قال: ” كان الألمانيون يختلفون في الدين المسيحي على نحو ما يختلف الإيرانيون مع الأفغانيين في مذاهب الديانة الإسلامية، فلما كان لهذا الاختلاف الفرعي أثر في الوحدة السياسية ظهر الضعف في الأمة الألمانية، وكثرت عليها عاديات جيرانها، ولم يكن لها كلمة في سياسة أوروبا، وعندما رجعوا إلى أنفسهم وأخذوا بالأصول الجوهرية وراعوا الوحدة الوطنية في المصالح العامة أرجع الله عليهم من القوة والشوكة ما صاروا به حكامم أوروبا وبيدهم ميزان سياستها”؟(الأفغاني:269)
مكتبة الدِّراسة:
• الأفغاني. جمال الدِّين، الأعمال الكاملة، دراسة وتحقيق الدكتور محمد عمارة، الجزء الثاني، الكتابات السياسية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1981.
• Hourani. Albert, Arabic Thought In The Liberal Age 1798-1939, Oxford, U.K., 1970.
• Kedouri. Elie, Afghani And ‘Abduh; London: Frank Cass and Co. Ltd., 1966
*نقلا عن موقع الصالون الثقافي