أمسية شعرية من لحم و دم في كنيسة السريان
كتب الشاعر مردوك الشامي
منذ شهور لم أغادر منزلي، شهور ربما تتجاوز السنة، شهور تغيّر فيها أداؤنا الثقافي، تراجع المنبر، وتقدم الأونلاين، وتعطلت فيها فناجين القهوة في منازلنا عن المرحبا والـ ياهلا ، وغابت الضحكات والكلمات التي من القلب، والعناقات الدافئة ..ليأتي مطرحها انتظار التواصل على الواتس آب، ومعرفة أخبار الأحبة من خلال صفحات التواصل، كثيرون غابوا ، وكثيرون غدر بهم الوباء، وقلة تغامر وتتحدى وتخرج الى الشوارع وبيوت الأصدقاء تحمل لافتات الجنون…
وسط هذا الحجر الذي يقتلنا واعتدنا عليه ، لأننا كائنات محكومة بالاعتياد والتلون والقبول بواقع الحال.. وسط كل هذا جاءت دعوة الصديقة الجميلة الكاتبة مشلين بطرس للمشاركة في أمسية شعرية محورها الأم..
للوهلة الأولى اعتقدت الأمسية عبر الزوم أو اليوتيوب كما اعتدنا في المراحل الأخيرة من حياتنا، فاجأني أن الأمسية من لحم ودم ومقاعد ومنبر وحضور واصوات ونبضات قلب..
وقررت الخروج من العزلة، وكسر الحصار، وفي سيارة دافئة تقودها امرأة من شموس اسمها منى مشّون، صديقة عزيزة وشاعرة مرهفة كنسمة، تصحبنا ابنتها، وصديقتنا البهية الشاعرة جمانة نجار، ضعنا في الطريق إلى كنيسة السريان في السبتية، كأنني لأول مرة أكتشف الشوارع، أكتشف الطرقات، والمزيد من الحفر والمطبات، تحت زخات مطر يبكي أحوالنا أجمعين..
بعد اتصالات بمشلين، بصديقتنا الرائعة اكمال سيف الدين وبآخرين اهتدينا إلى المكان، والفضل كله للعم غوغول الذي بات يعرف بلادنا وبيوتنا أكثر مما نعرفها نحن.
دخلنا قاعة الكنيسة، هناك حضور شغوفون بالشعر ينتظروننا ، هناك أشخاص قاموا للسلام، اضطررت لسؤالهم رفع الكمامة قليلا لأعرف ملامحهم..
كم غيرتنا العزلة، غيرت ملامحنا، وجوهنا، حتى اصواتنا اختلفت لقلة الاستخدام.
شعرت بالغبطة حين وجدت بين الحاضرين نيافة الحبر الجليل مطران جبل لبنان وطرابلس جورج صليبا ، هذا الرجل الذي أحب وأحترم وأقدر فيه محبته للشعر والثقافة ، إلى جانب أنه ابن بلدتي القامشلي البعيدة في الجغرافيا والمأمول.
الأمسية جاءت بدعوة من جمعية أدفا في لبنان ، والكلمة الأولى في الأمسية كانت لرئيس الجمعية الأستاذ جبران كلّي .. بكلمات قليلة رحب بالحضور وقال ما نحس به: تشنقنا للشعر ولهذه الوجوه، فدعونا نستمتع ..
مشلين بطرس قدمت الأمسية بكلمات من نبض ومحبة ، قالت بداية:
“جاء توقيت هذه الأمسية في ظل ما يمر به لبنان من أوضاع مأساوية، كي نقول إن الشعر جزء لا يتجزأ من الحياة، وإننا من حقنا كشعراء وأدباء وأهل فن ومثقفين من حقنا أن يكون لنا دور تفاعلي مباشر في مايحصل، ومن حقنا أن تكون أمسيتنا هذه والأمسيات اللاحقات بمثابة ثورة، نعم هي ثورة لأن الثورةَ ليست بإحراق الإطارات، وقطع الطرقات يكفينا ما مررنا به من انفجار المرفأ، ومن ثم انتشار الوباء، ومن ثم الشلل اقتصادي الذي طال الجميع، حتى بات الشلل يتغلغل فينا كي نشعر أننا عاجزون لا حول لنا ولا قوة، لذلك أعود وأرحب بحضوركم فردًا فردًا وقامة قامة دون ذكر أسماء”
ثم تحدثت عن الأمومة والمرأة التي هي الأقرب للطبيعة ، وقدمتني بكلمات فيها كل الطيبة والإلفة ، لأقرأ للأم والإنسان مقطوعات ثلاث.
بعدها قدمت مشلين للشاعرة ميراي شحادة بكلمات جميلة جاء فيها:
تعصر من ألق أتراحها أفراحًا في مقل الآخرين، حتى ولو تساقطتْ كلّ أوراقها اليانعة والتهمتها براثن العمر في أتونها
ولدت في الكورة الخضراء بوهيمية قررت أن تطير، فأسست في عام 2020 منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحاده الثقافي، الذي كانت باكورة إنتاجه المجموعة الكاملة لوالدها الراحل عبد الله شحاده، ثمّ تتالت الإصدارات الأدبية حتى أصبحت ست إصدارات إلى الآن ..”
ثم قرأت ميراي شحادة قصائد من كتابها للأم والمحبة والحياة.
الختام كان مع الشاعر الزجلي الجميل علي الحسيني، أمتع الحضور بشروقيات وزجل أخاذ.
الموسيقي أمير عيسى رفعنا عبر مقامات الوجد إلى فضاءات الأمومة غناء وعزفا على العود .
والفنان التشكيلي عبد الله فحص صنع بريشته ربيعا جميلا وممتعا على قماشة الشغف.
في ختام الأمسية ، وزعت على المشاركين شهادات شكر وتقدير، وأسمعنا نيافة المطران الجليل قصيدة الشاعر القروي حضن الأم ، تلاها علينا معطرة بوقار صوته وقلبه الكبير.
أمسية تركت فينا الكثير من الأثر الطيب..
وأظنني تركت كثيرا من نبضي هناك.