أدب وفن

قراءة نقديّة في رواية “الزنجيّة”للروائيّة الجزائريّة عائشة بنّور

قراءة نقديّة في رواية الزنجيّة

للأديبة الروائيّة الجزائريّة عائشة بنّور

الروائية الجزائرية عائشة بنور

بقلم: عبد الله لالي

“أن تكوني امرأة هذا هو الألم

عندما تصبحين فتاة تتألمين

عندما تصبحين عاشقة تتألمين

عندما تصبحين أما تتألمين..”[1] من أوراق لوليتا البالية.

رواية مثقلة بأحمال جسام.. تعيرها انتباهك وشغفك من مفتتح العنوان (الزنجيّة)، هذا العنوان الصّادم الذي يحيلك إلى تاريخ من الألم وتاريخ من المكابدة والمعاناة.. !! تذكرت وأنا أقلّب صفحاتها الأولى رواية الجذور، وتساءلت في نفسي: ” ترى أما يزال في عالم الرقمنة والناتو بقايا للعبوديّة والاستعباد ..؟ !”.

للعبوديّة أشكال ومظاهر كثيرة معقّدة يصعب على الإنسان التخلّص منها نهائيّا، وربما أبشع أنواع العبوديّة والرّق أن يشعر الإنسان بداخله أنّ له استعدادا للاسترقاق من قبل أخيه الإنسان، كما أنّ هناك قابلية للاستعمار كما قال مالك بن نبي، ولن نتخلّص من الرّق إذا لم يكن عندنا بالمقابل استعداد للتحرّر. وأكثر الرّق ألما أن يكون المسترق امرأة تسترق من قبل مجتمعها الظالم، الذي ينظر إليها كأنها شيء على أنّها دون الرّجل بكثير، ويسلّط عليها عقوباته الموروثة مع الإدانة المسبقة، وإلغاء إمكانية البراءة.. !

رواية الزنجيّة هي أحدث رواية للكاتبة الروائيّة عائشة بنور، صاحبة (اعترافات امرأة)، (ونساء في الجحيم)، وهي توقّع بالثقيل هذه المرّة في رواية (الزنجيّة)، بين دفتي 192 صفحة من إصدار دار خيال للنّشر والترجمة (برج بوعريريج)، 2020.

متن الرواية:

وكأنّ الروائيّة عائشة بنّور نذرت نفسها للدّفاع عن قضايا المرأة في العالم، فبعد ملحمتها عن المرأة الفلسطينية التي تواجه ظلم المحتلّ بقلب يتحدّى الإعصار وبصدر يواجه الرّصاص، ورواية اعترافات امرأة ….. فها هي تعود إلى القارة السمراء لتغوص في أعماق (الزنجيّة)، التي تولد مع الألم، ليكون توأما لروحها وظلّها الذي يزيد حياتها عتمة، امرأة تعاني الصّدمة المستمرة منذ أن أمس بها رجلان مفتولا العضلات، واقتدّت عجوز شمطاء جزءا من جسدها النّحيل، لتحيل حياتها إلى جحيم متصل، في عملية ختان (التقليد المقدّس) مريرة، ويبقى ظلّ تلك الحادثة المؤرقة كابوسها الرّهيب.وتسعى إلى الهجرة إلى دولة أخرى مع البطل الثاني (زوجها) إلى بعض الدّول العربية، هروبا من هذا الواقع القاسية وبحثا عن السعادة المفقودة.. ! 

قدّم للرواية النّاقد السوداني عزّ الدّين ميرغني ومما جاء في تلك المقدّمة قوله:

” تكتشف أيضا البصمة الأسلوبيّة الخاصّة والمميزة للكاتبة عن غيرها. فالمستهلّ الوصفي للمكان ولبطلة الرواية (بلانكا)، ينقلك نقلة مكانية وجغرافية مثيرة وتصبح المحفز الثالث للرواية. وبعدها تحسّ بأنّك سائح ومتلقّي معرفة جديدة، في مكان جديد..”.           

بغض النّظر عن الفكرة الأساسيّة التي انطلقت منها الروائيّة، وهي فكرة (ختن البنات)، والتي قد تختلف حولها الرؤى بأنّها اضطهاد وقهر للمرأة ، أم هي مجرّد عمل ديني أو اجتماعي قد يكون مؤلما لكنّه مفيد مستقبلا ، مثل ختان الرّجل الذي فيه منافع كبيرة للرجل، دينيا وطبيّا، ومثل ثقب الأذنين للزينة، وعمليّة التلقيح التي تسبب الحمّى في كثير من الحالات، وغيرها من الأمور التي يكون فيها بعض الألم لكنّها في جوهرها مفيدة للإنسان، بغضّ النظر عن كلّ ذلك، فإنّ المرأة تعاني فعلا من ثير مظاهر التخلّف والبؤس في إفريقيا وآسيا وكثير من دول العالم الثالث، وتتعرّض لشتى أنواع القهر والاستعباد المعنوي، وحتى الجسدي، بل إنّ هذا الاستعباد تعيش أوربا والغرب بصفة عامة في شكل حضارة مزيّفة، تحرم المرأة من الأمومة وتروجها على شكل جسد محموم يقدّم المتعة العابرة.. !  

وقد أشارت الروائية أيضا ضمن أحداث رواية الزنجيّة إلى العمل الخطير المنظم من أجل نشر الإيدز في إفريقيا من خلال اغتصاب الفتيات الصغيرات، وهذا يحيلنا على مرض الساعة، (كورونا) الذي أشارت كثير من التحقيقات والأبحاث أنّه عمل منظم، من أجل التخلّص من جزء من البشريّة، كبار السنّ وأصحاب الأمراض المزمنة، وكذلك العمل على استغلال هذا الوباء المفتعل، أو المستغل من أجل الترويج للقاح الجديد، الذي تجنى من ورائه الثروات الطائلة.  ص 49.

وهذا أمر ليس بعيدا عن الأنانيات الغربيّة، وسماسرة العالم الذين لا يرعوونعن المتاجرة بدماء النّاس، وآلامهم في الحروب والصراعات المتعدّدة في العالم، وقضايا مثل هذه تستحق أن تعالج روائيّا، وأن تسلّط عليها الأضواء على أمل يبزغ نور يكشف للنّاس الدّروب المظلمة، والآفاق المغبّشة.. !

تقول الروائيّة عائشة بنّور في ص50 على لسان أحد شخصيّاتها (أيدي):

” لم أشعر بحرّيتي لأنّ الجوع أفقدني الإحساس، والأمان ” 50

العنوان المربك:

هذا العنوان (الزنجيّة) عنوان مربك، مستفز، مثير، في ثقافتنا الإسلاميّة يعدّ من العار والإثم المبين أن نلمز رجلا أسود بالزنجيّ أو الأسود، ومجرّد التلفظ به يثير حساسيّة مفرطة في المجتمع، بل قد يثير نزاعات ومشاحنات حادّة. وفي الثقافة الغربية يحيل على التاريخ الأسود لاضطهاد الرجل الأبيض لسكان إفريقيا السمراء، الذين كانوا يختطفون من أرضهم وبلادهم ويؤخذون إلى أمريكا عبيدا وأرقاء.

ولا يمكن أن يكون (العنوان) هنا محلّ افتخار أو مدح، وأقرب محمل يحيل عليه في هذه الرواية هو (المضطهدة)، الزنجيّة المسكينة المضطهدة، بحيث تشحن كلّ مظاهر وصور الظلم والاضطهاد في هذه اللّفظة البئيسة؛ (الزنجيّة).. ! لكن في الوقت نفسه، نستشف من أحداث الرواية ووقائعها أنّ (بلانكا) الزنجيّة هي إنسانة في كلّ الأحوال، هي بشر مثل كلّ البشر، تفرح وتحزن وتتألم وتعاني مثل كلّ الناس، ولها آمال وطموحات، وأشواق وتطلّعات وتريد أن ترى من الحياة وجهها البهيج، بل وأكثر من ذلك تريد أن تفخر بلونها الأسود، الذي لا ذنب لها لأنّها خلقت به، وتقول بكّل فخر وتحّدٍ:

ولأنني سوداء البشرة فأنا جميلة” ص50.         

جميل أن يحوّل الإنسان الضّعف إلى قوّة، والشعور بالدونيّة والنّقص إلى عمال تحفيز على التحدّي، وتجاوز الصعاب والعقبات رغم الألم والوجع ورغم كلّ شيء، ولعلّ في تسميّة الزنجيّة نفسها نوع من المفارقة التي تستدعي التأمّل والتفكير العميق، فهي زنجيّة ولكنّها جميلة، وفوق ذلك اسمها (بلانكا) وهي مفارقة أخرى تجعل في التسمية مفارقة مركبة.

الإهداء:

عتبة الإهداء غالبا عند الأدباء والروائيين الكبار تكون ذات حمولة مركزة تحيل على الرواية أو شخوصها وتكون بمثابة المرشد المعين للقارئ، يقرأ منها ما توزّع على طول المتن، في بضع كلمات مشفّرة، تقول عائشة بنّور في إهدائها:

“إلى المرأة الإفريقيّة والآسيويّة المهاجرة من عمق البؤس، الباحثة عن الأمن والرّغيف.

إلى الطّفولة المشرّدة، التي تفتّش عن الدّفء في زمن الإعصار..”.. عائشة.

يمكن وضع سطرين تحت كلمات (عمق البؤس/ الأمن والرّغيف/ الطفولة المشرّدة/     

شخوص الرواية:

لا رواية بلا شخصيّات.. أمر بدهيّ، لكن ليس ذلك الذي نعني، إنّما نعني الشخصيّات التي تقول للقارئ أنا هنا، أنا جزء من عالم الحقيقة مهما جنّح خيال الكاتب وحلّق بي في الآفاق البعيدة، أنا جزء من حياة النّاس، وأحتّل حيزا هاما في زوايا الوجود. إنّها شخصيّة تبهر القارئ وتستولي على إعجابه ومشاعره، قد يحبّها وقد يكرهها، قد ينشدّ إليها متعاطفا، وقد ينفر منها ويقول ساخطا: سحقا لها.. !

تلك هي الشخصيّات الحيّة التي تضفي على الرواية الحيويّة والحياة، وتسمّى رواية حقّا لا مجازا وتجوزا، وكلّما كثرت شخوص الرواية وتعقّدت أدوارها كلّما تماثلت الرواية بالحياة الواقعيّة، وحملت من ظلالها كثيرا من الصور والمشاهد.     

بلانكا:

هو اسم بطلة رواية (الزنجيّة) أو هي الزنجيّة نفسها، الزنجيّة الجميلة التي تتحدّى المقت والكراهيّة والاستعباد بسبب لونها الأسود، وبسبب كونها إفريقية تعيش الفقر والحاجة، إنّها رمز للمرأة الإفريقية الأميّة التي تعيش المعاناة والاضطهاد في أبشع صورهما.

لا يوجد وصف خارجي للبطلة (بلانكا) لأنّها هي الرّاوي وهي بطلة الأحداث الرّئيسيّة، لكننا يمكن أن نستنتج بعض أوصافها الجسميّة والمعنوية من خلال الإفضاء الذّاتي، ومن تلك الأوصاف أنّها فتاة يافعة تعرّضت في صغرها إلى معاناة الختان البشعة ( !! )[2]، فضلا عن آلام الجوع والحاجة ومشقّة العمل من أجل إعالة أسرتها البائسة.    

الشخصيّة الثانية في الرّواية هي شخصيّة (فريكي) زوج (بلانكا)، والذي كان السبب في دفعها إلى الخروج من الحيّز الضيّق الذي وضعتهم الأقدار فيه ومحاولة البحث عن فضاء آخر أكثر رخاء وأكثر أمنا، لينتهي بهم المطاف في الجزائر وفي مدينة البليدة بالذّات بحثا عن القرية الإفريقيّة. (فريكي)، شاب طموح لم يرض بالواقع المزري الذي يعيشه هو وأسرته وقومه، وخير من يمكن أن تصفه هو زوجته (حييبته) بلانكا يحث تقول:

” فريكي ذو القامة الطويلة والبشرة السّوداء والشعر القصير المجعّد، والعينان اللامعتان كالبلّور في عتمة اللّيل، كان يعمل في منجم آرليت، يجرّ عربة محمّلة بالنفايات من المنجم..

اخشوشنت يداه الطويلتان من شدّة الجرّ، وأحيانا كثيرة تتورّمان، ولا يستطيع سحب العربة، وهو يعاني من سعال شديد كبقيّة أبناء المنطقة..”

هذان هما الشخصيّتان الرئيسيتان، وهناك شخصيّات أخرى ثانوية مساندة أو داعمة في تشكيل أحداث الرّواية وبناء معمارها الفنّي، مثل العجوز (مو) التي يكثر الحديث عنها في الصّفحات الأولى، وتصفحها البطلة بحقد مرير فتقول:

“العجوز (مو) بأنفها المعقوف تطبع ابتسامة النّصر على محيّاها، ورأسها كالبوم يلتفت يمينا وشمالا كالتي تبحث عن شيء ما، نسيت للحظة تحت شدّة صراخي والأخريات، أنّ السّكين تحمله في يدها اليسرى، كاشفة عن قبح مخيف يسكن قلبها وصوتها يدندن مع نعيق البوم على صرخاتنا..”

هذه العجوز الشمطاء هي التي تتولّى عملية ختان البنات، وقد قامت بختن البطلة، مع عدد من مثيلاتها البنات، في احتفال طقسي واحد، الأمر الذي اعتبرته البطلة، جريمة بشعة تركت أثرها عميقا في نفسها، وبقي الحدث يؤرّقها حتى وهي في ديار الغربة بحثا عن الاستقرار ورغد العيش في الجزائر.

وهناك أيضا أم البطلة (كارينا) وأبوها با موسى، وأختها الصّغرى فيولا، وابنتها إفريقيا التي جاءت إلى الوجود بعد زواجها من فريكي، وغيرها من الشخصيّات الكثيرة التي تزدحم بها الرواية، وتظهر في الأحداث حينا من الزمن ثم تختفي، إلى أن تظهر في الثلث الأخير من الرواية شخصيّة أخرى، تأخذ دور البطولة (نسبيّا)، وهي شخصيّة (هاجر) الصّحفيّة؛ امرأة جزائريّة من مدينة الورود البليدة، التي تتألم لحال المهاجرين الأفارقة بالجزائر وتتعاطف معهم، وتحاول مساعدة فريكي وأسرتهما بقدر ما تستطيع.. !  

الفضاء الزماني والمكاني:

لم تذكر الكاتبة الزمن الذي تجري فيه أحداث الرواية بشكل مباشر، لكن من خلال استقراء الأحداث نستنتج أنّه يمكن حصره في العشريّتين الأخيرتين أو قبل ذلك ببضع سنوات، في نهاية الأحداث المأساوية التي عصفت بالجزائر، حيث تقول الراوية (البطلة):

“كانت الهجمات الإرهابيّة تتطوّر بشكل كبير في الجوار، والتّشديد على المهاجرين السّريين يبدو رهيبا، والتّضييق عليهم يزداد حصارا وحالة ضغط في الأحياء خاصّة القديمة منها، والحدّ من الظاهرة لم يكن أمرا هيّنا، وأطراف كثيرة تواطأت من الدّاخل والخارج، مافيا المال انتعشت مداخيلها ببيع البشر المهاجرين من أوطانهم..”

هذا بالنّسبة للحيز الزماني العام، أما تفاصيل الزمن فقد تراوحت بين الماضي (في صورة استذكار)، واسترجاع للأحداث والحاضر الذي يعيش الأبطال تفاصيله يوما بيوم في معاناة كبيرة.

أمّا الفضاء المكاني فقد اختارت له الروائية منطقة نهر النيجر شمالا، وقريبا من مناجم الذهب، لتضفي على الأحداث غلالة من المفارقة، بين وطن يزخر بالثروات وشعب يعاني الفقر والمسغبة، إلى حدّ الموت جوعا، وهذا ما عبّر عنه عندنا في الجزائر بدولة غنيّة وشعب فقير. تحاور البطلة إحدى الأمهات التي فقدت ابنها للتوّ:

” قالت لي، وهي تنظر إليّ دون أن تتفوّه باسمي وتتلعثم في الكلام، ثمّ ترفع بصرها نحوي:

  • يداي خاليتان.. انظري خاليتان؟
  • –      … آآآ.. من الملاريا؟
  • مات ابني جوعا؟ “

مفارقة مفزعة صار الموت من الملاريا أهون من الموت جوعا.. !!

وتصف مدينة آرليت التي يعمل بها فريكي فتقول:

“آرليت مدينة المناجم، وأرض الذّهب، أصبحت منطقة موبوءة يلفّها، كما قال صديقي فريكي كفن من الغبار المشعّ نوويّا، وملايين الأطفال من هذه المخلّفات تذروها رياح الصّحراء، فتنبعث في أنفاسنا رائحة الموت البطيء.

في هذا المكان الموحش والمقفر، الأفق الجميل اعترته غمامة صفراء وسوداء، ولم تعد الصّحراء في نظري ذلك الجمال السّاحر الذي يبهر السّائح منذ الوهلة الأولى..”

المكان يضعنا في إطار الأحداث بشكل مأساوي رهيب، لا شيء يوحي بالأمل، ولم يعد للحياة معنى في هذا الفضاء الموبوء، فكلّ شيء يدفع إلى الهجرة والرّحيل، ويدفع بقوّة إلى البحث عن وطن بديل.  

وبعد ما يقارب ثلثي الرواية تنتقل الأحداث إلى الجزائر، التي هاجر إليها أبطالها، حيث حلّوا أولا بمدينة تمنراست، عروس السياحة في الجزائر، والمعروفة بالمتحف الطبيعي المفتوح، ولكنّهم لم يذهبوا إليها سائحين، إنّما لاجئين يبحثون عن لقمة العيش، ومكان يأمنون فيه على أنفسهم وأهليهم، ثمّ انتقلوا إلى مدينة البليدة، حيث القريّة (الإفريقيّة) الحلم، التي يرنون إلى تغيير حياتهم فيها وتحقيق الآمال والطموحات.

فلسفة الرواية:  

الرواية بنيت على أساس من الفلسفة التأمليّة الحزينة، فلسفة تنطلق من الذّات، وتجول في العالم من حول أبطال الرّواية وتبحث في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، ثمّ لتنكفئ على ذواتهم من جديد، هذه الفلسفة تظهر في شكل تساؤلات عميقة وحائرة، تبحث عن إجابة غائبة لا تكاد تجد لها أثرا في محيطها، ولذلك تتطلع دوما إلى محيط أفضل وأكثر استجابة لتطلّعات الرّوح..

ومن الأسئلة الجوهريّة التي تؤطر هذا العنصر الفنّي المؤثر في تراكم أحداث الرواية وتتابعها، نقرأ ما يلي:

” هل يغيّرنا الزمن بالضرورة ؟… هل هي فرحة لوجعي ؟ أين نخبئ رؤوسنا لا شجر ولا حجر..؟ هل ستتركينها بين يديّ العجوز مو، وهي تصنع من آلامها ابتسامة الانتصار؟…

أسئلة تلخّص عذابات الحياة، وتعبّر عن أمواج القلق التي تكتسح الإنسان فيها، فتتركه حائرا مرتابا، غير واثق من أيّ شيء.. !! 

وليست الأسئلة وحدها التي تشير إلى البعد الفلسفي في الرّواية، بل هناك ملمح آخر أكثر غوصا في الإشكالات الفلسفيّة، إنّه لحظات التأمّل ومحاولة فهم الذّات والآخر والمحيط من حولنا، تقول بطلة الرواية (السّاردة):

” في حيّزي لم يكن لديّ جواز سفر أقطع به المسافات الطويلة والوعرة في الفيافي، لكنّني كنت مفتونة بجمال سوادي الذي تغنّى به الرّجل الأسمر سنغور، وحزن من أجله الفيتوري..”ص52.

في هذا المقتطف تعرض البطلة على القارئ قلقها الفلسفي، واقع ضيق الحيز الذي يخنق أهله، ويكتم أنفاسهم، انعدام جواز السّفر، أي الاحتياج إلى وسيلة تغيير المكان، الإعجاب بالجمال الأسود، الذي هو في الوقت نفسه نقطة الضعف التي يضغط الآخرون من خلالها على الإنسان الإفريقي ويشعرونه بالدونية والهوان.. !

وتقول في الصّفحة الموالية:

“لم تعد الحياة هنا تجسّد الذّات الانفعاليّة ورؤية ما لا يرى، بل أصبح الإنسان، في هذه المنطقة البائسة مغلوبا على أمره، يصارع قوى الطبيعة القاسية وغرابة طقوسه، وواقعه المزري”.

لا تقف الروائية عند تفاصيل الأحداث تسردها ببراعة ثم تمر مرّ السّحاب بل تحلل وتتساءل، وتبحث عن أجوبة الوجود العميقة. ونتساءل معها في قلق:

“هل يغيّرنا الزمن بالضرورة ؟”  

التأمّل وتحليل الواقع يأخذ الحيّز الأكبر في العمل الروائي، طاغيا على عمليّة السّرد والحوار، وهذا ما يجعل من السّرد فلسفيّا بامتياز.   

البناء الفنّي في الرواية:

الأسلوب السّردي:

اعتمدت الروائيّة عائشة بنور في طريقة السّرد على الصوت الواحد، الذي يمثل البطل الرّئيسي العارف بكلّ تفاصيل الحدث المتعلّق به، وكان البطل هنا هو (بلانكا) المرأة السّوداء التي تلاحقها وصمة (الختان) كما تلاحقها سبّة كونها زنجيّة، وكونها زنجيّة ربّما هو الذي وضعها في بيئة تؤمن بطقس الختان، الذي يعتبر تجربة مريرة بالنسبة لها، وترك آثاره في حياتها إلى أبعد الحدود.

وحاولت الروائيّة تجربة تعدّد الأصوات السّاردة مثلما فعلت في روايتها (نساء في الجحيم)، لكنّها لم تمضِ في الفكرة إلى مداها الأبعد، إذ منحت لفترة وجيزة مقاليد السّرد، مرّتين للبطل الرّديف (فريكي)، ومرّة واحدة للبطلة التي ظهرت في ثلث الرواية الأخير (هاجر)، لكنّها سرعان ما عادت إلى البطلة الأساسيّة لتواصل عملية ترتيل ملحمتها الدّامية، ملحمة الزنجيّة) المضطهدة والمهجرة بفعل الجوع والفقر إلى غير أرضها ووطنها.. !

وكان ضمير المتكلّم هو السّائد، ويتخلّل الخطاب الذاتي المباشر (الحوار) من حين إلى آخر، وهو الذي يكسر رتابة السّرد وثقله، لاسيما إذا كان مستغرقا في مخاطبة الذّات، والتأمّل في الأحداث من الدّاخل، داخل النّفس المعذّبة. وعمل أسلوب الاسترجاع عمله في تعديل كفّة الميزان، وخلخلة ثبات الزمن، وصعوده في خط عمودي متتابع، بل أعطى للبطلة القدرة على نسج شبكة من الأحداث المشتركة بين الماضي والحاضر.

مزجت الروائيّة بين السّرد الشعري والسرد المباشر الذي ينقل الأحداث، مثلما تنقل الأخبار مجرّدة، لكن الأسلوب الشعري كان الأغلب، فمنذ بداية الفصل الأوّل يبدأ الأسلوب الشعري في التدفّق، تقول عائشة بنّور على لسان البطلة (بلانكا ) في ص11:

 “هنا الطبيعة قاسية، وفي هذا المكان، ارتبطت ملامحي بأشياء أكثر قسوة، وأشدّها حزنا، ثمّة أشياء لا يمكن نسيانها أو محوها، ولا أذكر منها إلا أنّني سوداء البشرة، فأنا جميلة، مقولة أردّدها بكثير من الحبّ والحزن، وعند وجعي أقولها بكبرياء وأنا أجرّ قدميّ المتهالكتين صوب البئر..”

وفي موضع آخر من ص 140 تقول:

” كنت امرأة بلون الدّجى لم أشبه أحدا ولم يشبهني غير ظلّي الذي يرافقني في الفيافي، وفي الطّرقات، وفي شوارع المدن، وبعض أشعار حزينة لملمتها من لوني، وأتأبطها عند انكساري، حزني يشبه إفريقيا، ولا أشبه وجعي الذي أوارى به عن العيون..”

كلمات كلّها شعر منثور مثل أوراق الورد بين يدي النّحل، تصنع منه الشذى والشهد، وتبث فيه النّور الخلاب.. ! ولا ينبغي لهذا الكلام أن يكون سردا عاديا لأحداث تقع كلّ يوم في العالم.. إنّه أغنيّة إفريقية حزينة تتوسّد كثبان الصّحراء في هجير الأيّام.

 بالنّسبة للمعجم اللّفظي كان وسطا بين اللغة العربية الفخمة، والألفاظ المستعملة حديثا والتي أثرت قاموس العربيّة، من مثل قولها: (الغبار المشع نووياّ/ حذاء بكعب عال / رغيف الخبز اليومي/ كتمثال محنّط / القيتو / ذواتنا الخائفة/ التهاب رئوي..).

الرمزيّة في الرواية:

ولأنّ الرواية رسالة مرفوعة إلى المرأة الإفريقيّة والآسيويّة المعذّبة والمضطهدة، كما جاء في الإهداء المشفّر، شحنتها الكاتبة بعدد من الرموز والألفاظ ذات الإسقاط المكثّف على الواقع، وتتمثل تلك الرمزيّة في أسماء الأبطال بالدّرجة الأولى، فهذه البطلة (بلانكا)، زنجيّة ذات لون أسود مغرق في سواده بامتياز، ويكون اسمها (بلانكا)، أي البيضاء، إذا أخذنا أقرب دلالة للاسم، من المعاني المحتملة له، ولعلّ من دلالات الاسم أيضا الطهارة والنقاء، واسم ابنتها بعد زواجها وإنجابها (إفريقيا) وهي رمزيّة واضحة ومباشرة، ترمز إلى معاناة القارة بأكملها، التي كانت ولا تزال تسمّى القارة السوداء، وكأنها زنجيّة في الأرض (اليابسة)، كما أنّ (بلانكا) هي الزنجيّة في البشر، أو واحدة من الزنوج.

ومن قوّة الرمزيّة في الرواية قول الكاتبة بلسان بطلتها:

” إفريقيا على ظهري نائمة ” الدلالة المباشرة تفيد أنّ ابنتها الرضيعة نائمة على ظهرها، لكن في قوّة العبارة إيحاء عميق، يشير إلى أنّ كلّ القارة ينوء بها ظهر بلانكا المسكينة، وكأنّها كلّفت بحمل أثقال القارة (السوداء) أو السمراء كما يقال، تلطيفا لوقع اللّفظ وفي اسم (هاجر) سيّدة مدينة البليدة الجزائريّة إشارة قويّة الدّلالة على هجرة الأفارقة وفي مقدّمتهم بلانكا وفريكي وعائلتاهما إلى الجزائر، وأنّ هاجر رمز الدّعم والمساعدة التي كانوا ينتظرونها ويتوقعونها من البلد الجديد.      

واستخدمت الروائيّة (البوم) رمزا للشؤم وسوء الطالع، تماما مثلما كان يستخدم في التراث العربي، ولعلّ هذا التشاؤم من البوم هو استخدام إنساني مشترك، بسبب سوء شكل البوم، وبسبب صوته الذي يشبه النّواح، خصوصا إذا اقترن باللّيل المثقل بالهموم والآلام. وحضر البوم منذ بادية أحداث الرواية عندما قالت البطلة ص24 وما بعدها:

“صوت البوم في المكان يعلن نحيبي الدّاخلي، يرنّ في مسمعي، ونعيقه يعتبره الموروث الشعبي فألا سيّئا لمن يسمعه، ورمزا للحزن والكآبة والشؤم في الوقت الذي مجّدته الأساطير التّاريخيّة بكثير من السّحر والخيال..”

وددت لو أنّ الكاتبة استغنت عن الشرح الأخير، لاسيما عندما جاء على لسان البطلة وذلك يعدّ نوعا من الشرح من الروائي مقحم في النّص. والاكتفاء بالإشارة والتلميح أفضل من الشرح.

 وتكرّر الحديث عن البوم وشؤمها مرّة أخرى في قولها:

“وفي هذه الأثناء، ومع آخر صرخة تخرج منّي، ينعق البوم في الفضاء نائحا، وهم يرقصون على طقوس وجعي الفظيع..”

هذا المشهد عبّرت فيه البطلة (بلانكا) عن مدى آلامها حين تمّ ختانها من قبل العجوز (مو)، رفقة عدد من البنات الصّغيرات مثيلاتها، وربطت ذلك بالبوم وصوته الشؤم، وهذا التصوير على رمزيته يضاعف من مأساوية الحدث، ويزيد الموقف فظاعة.. !    

والغريب أنّ هذا المشهد الحزين؛ المشهد المأساوي وما رافقه من نعيق البوم، يظلّ يعتمل في صدرها ويحفر عميقا لمدى سنين طويلة، وتبقى تذكره ويتمثّل لها بعد أكثر من عشرين سنة، حيث تقول في ص26:

” بعد ثلاث وعشرين سنة ما زلت بلانكا، الطّفلة التي وأدوا أنوثتها، ودفنتها معها لحظة صراخها التي انتحبت مع نعيق البوم”.     

اللازمة:

من عناصر البناء الفنّي التي تزيد الرواية قوّة وتأثيرا عميقا في نفس القارئ؛ وجود لازمة أو تيمة تتكرر خلال صفحاتها، وبين ثنايا الأحداث، وكانت هنا عبارة قويّة جدا بدأت مع الرواية من مفتتحها، تقول فيها البطلة:

ولأنني سوداء البشرة فأنا جميلة

تقول الكاتبة على لسان بطلتها (بلانكا):

“ثمّة أشياء لا يمكن نسيانها أو محوها، ولا أذكر منها إلا أنّني سوداء البشرة، فأنا جميلة، وتهمّش الروائية لهذه المقولة بنسبتها إلى سنغور، الشاعر الرّئيس كما يسمّى، وكان أوّل رئيس للسينغال، اكتفت الروائية في البداية بالإشارة إليه، ثم عرفته باختصار بعد بضع صفحات عندما تكلمت عن مصدر هذه المقولة مرّة ثانية (لأنني سوداء فأنا جميلة).

وعُرف عن سنغور أنّه من أكبر الأدباء الأفارقة، وهو مؤلّف النشيد السينغالي، وله رمزيّة كبيرة في النضال التحرّري الإفريقي، وذلك ما يفسّر حضور مقولته الشعريّة تلك في رواية (الزنجيّة)، وجعلها شبه تيمة تطوف بها الأحداث، منها تنطلق وإليها ترجع. وتتكرر كثيرا في الرّواية وتذكر غالبا عند تمفصلاتها الحاسمة، أحيانا بالصّيغة نفسها وأحيانا تحدث عليها الكاتبة بعض التحوير، خصوصا عندما يخاطبها زوجها فريكي بذلك فيقول:

“ولأنّك سوداء فأنت جميلة”

لو أنّها ذكرت هذه المقولة الشعريّة مرّة واحدة في أثناء انفعالها أو تعبيرها عن إحساس ما، لاعتبرناها نوعا من ردّة الفعل المعاكسة ضد التمييز العنصري، أو الوسم بالزنجيّة من قبل الرّجل الأبيض، لكن أن تتكرر عدّة مرّات ويرفع بها عقيرته شاعر، ويوظّفها حبيب في مغازلة حبيبته فإنّ الأمر هنا يختلف، هنا ندخل في فلسفة الجمال وتعريفه، والزاوية التي ننظر إليها منه، ولا يكون البياض وحده مقياس الجمال، بل السواد أيضا، فهو لون من الألوان الفاتنة الموجودة في الطبيعة، ولربّما كان السواد أكثر فتنة من البياض في بعض الأحيان.. !

والميزة الفارقة في استخدام هذه اللازمة هي أنّها تقاوم بها كلّ ما ينال من إنسانيتها بسبب أنّها ولدت (زنجيّة) ، وهذا هو سرّ عنوان الرواية، وتقاوم بها وصمة عار أنّها ولدت في القارة السمراء المتخلّفة، التي تشدّها العادات والقوانين البالية إلى أسفل سافلين، فتبقى غارقة في الجهل والفقر والتخلّف وما يصحب ذلك من أمراض وأوبئة وحروب واقتتال عرقي مقيت، لا يزيد الأمر إلا تفاقما.

وتبلغ هذه (اللازمة) قمّة استخدامها عند نهاية الرواية في الصّفحة الأخيرة، بل في السّطر ما قبل الأخير منها، حيث تقول هاجر البُليدية الجزائريّة لفريكي وهي تودّعه:

“ولأنّك أسود فأنت جميل”

شيء يشبه الموسيقى التي نتذوّقها حين نردّدها، ونترنّم بها حتى ولو لم نفهم مدلولها، ولم نعرف معناها بالتدقيق، كذلك ما تحمله هذه العبارة هنا من تناقضات غريبة، هي زنجيّة، تعاني من وصمة عار لونها، الذي ينبزها به الآخرون، وهي في الوقت ذاته؛ تفخر به وتقول بملء فيها:

ولأنّني سوداء فأنا جميلة”      

الصور الفنيّة:

زخرت الرّواية بصور فنيّة كثيرة متتابعة تحوّل الأحداث والأفكار والمشاعر إلى مشاهد مرئيّة تُرى وتُشاهَد حيّة، كأنّها تحدث اللّحظة أمام عيني القارئ بكامل عنفوانها وصَخَبِها، وهي أبلغ بكثير من السّرد العادي الذي ينقل لنا الخبر أو الفكرة مجرّدة من كلّ لمسات تزيينية، وهنا تلعب المحسّنات البديعيّة والخيال لعبتهما الخارقة.. !

من تلك الصور أو المشاهد الحيّة نأخذ نماذج نقف عندها لحظات متأملين ومفككين لبعض عناصرها الجمالية:

المشهد الأوّل:

تقول الروائيّة في صفحة 12 واصفة الحال الذي آلت إليه مدينة (آرليت) النيجريّة، بسبب الإشعاعات النّوويّة:

“آرليت مدينة المناجم، وأرض الذّهب، أصبحت منطقة موبوءة يلفّها، كما قال فريكي، كفن من الغبار المشعّ نوويّا، وملايين الأطنان من هذه المخلّفات تذروها رياح الصّحراء، فتبعث في أنفاسنا رائحة الموت البطيء”

تصوير قويّ وبليغ يعبّر عن معاناة مدينة قضت عليها الأعمال غير المشروعة من أجل نهب ثرواتها الباطنية بطريقة غير قانونية ولا أخلاقيّة، من أجل المادة والمال يموت الإنسان والشجر والأرض والحيوان, وربّما بلغت الكاتبة الذروة في تصويرها هذا حين قالت: ” يلفّها كفن من الغبار” فهي بدلا من أن تقول: ميّتة، استعاضت عن إحدى دلالات الموت ومآلاته وهي الكفن، والكفن هنا أشدّ من عبارة الموت، لأنّه يكفن مدينة حيّة بكاملها، أو هي تحتضر، فالمأساة تكون مضاعفة. 

ولا تكتفي بهذا الوصف بل توغل في تصوير بشاعة المشهد فتقول:

“في هذا المكان الموحش والمقفر، الأفق الجميل اعترته غمامة صفراء وسوداء، ولم تعد الصّحراء في نظري ذلك الجمال السّاحر الذي يُبهر السّائح منذ الوهلة الأولى، ولا تلك الكثبان الرّمليّة التي تبدو في تموّجاتها كشعر حسناء طويل يتدلّى خلف كتفيها…”  

إنّها تصف جريمة بشعة ارتكبت في حقّ الطبيعة، الطبيعة البكر التي أفسدتها يد الإنسان الجشعة، والتي تحوّل كلّ جمال فطري إلى أطلال متهالكة وبقايا ميّتة تشكو ظلم الإنسان وفظاعته.

واعتمدت الكاتبة على التشبيه التمثيلي لكن بشكل معاكس، فبدلا من أن تزيد في تصوير بشاعة المشهد؛ عادت إليه في أصله الأوّل إذ كان يشبه الحسناء في تموّج رماله كتموجه شعرها.. !    

المشهد الثاني:

إذا كان المشهد الأوّل ماديّ بامتياز صور حالة المكان وما حلّ به من خراب، فالمشهد التالي يغوص في الحالة المعنويّة للبطلة (بلانكا)، ويحاول أن يجسّد ما لا يُرى أو يُسمع ويُمسُّ، فيجعل القارئ كأنّه يلمسه بيديه:

“كنت مجرّد فتاة تبحث عن رغيف الخبز لعائلة فقيرة في منطقة تكاد تنعدم فيها الحياة، وتحفظ الأشعار التي لم تتوقّف عن الغرق في الحزن، والتشبث بالحياة كي تمنحني الكلمات صرخة مكتومة أطلقها في هذا الفضاء القاسي لتحيا على رماد مدن أخرى، تحيا وتموت على وجعنا”

كيف تغرق الأشعار في الحزن..؟ وكيف تمنح الكلمات الحياة صرخة مكتومة ..؟

هي قدرة الكاتب على أن يكون فنّانا تشكيليا يجسّد لك المشاهد المعنوية حيّة ناطقة، ويجعل من المتناقضات بذورا تبرعم بالحياة، ويعزف من الحزن موسيقى فاتنة.. !   

البصمة الثقافية:

كثيرا من الروايات حين نقرأها نجد فيها كلّ شيء إلا الحديث عن الثقافة والفكر، وكأنّ الكاتب لا علاقة له بكلّ ذلك، أين بصمته..؟ أين محيطه الذي يتفاعل معه ؟ أين شخصيّته المثقّفة ؟  

لكنّ الكاتب الحقّ هو الذي ينثر الثقافة في كلّ خطّ يسطره في كتابه، يفوح عطرا كما تفوح الوردة عطرا في كلّ حالاتها سواء شممتها أو فتّتت أوراقها كما أخبرني رجل حكيم ذات يوم.. ! وفي رواية (الزنجيّة) تلحظ تلك البصمة الثقافيّة بارزة للعيان، تشعل في القارئ نار الفضول وتدفعه للبحث والاكتشاف، وسؤال الحيرة والقلق يرقص في صدره.

حضر الشعر في رواية الزنجيّة وحضر الشعراء، فكان سينغور عرّاب الجانب الثقافي في الرّواية، وأيقونتها التي صاحبتها في كثير من مشاهدها، فهو صاحب مقولتها الشهيرة التي جعلت منها (لازمة الرّواية):

لأنّك سوداء فأنت جميلة”

وأعطت الروائيّة إشارات مركزة عن هذا الشاعر الإفريقي العظيم، وعرّفت القارئ بأنّه أصبح رئيسا للسنغال في يوم ما، وقدّمت نموذجا من شعره في قصيدته (امرأة سوداء)؛ يقول فيه:

“يا امرأة عارية يا امرأة سوداء

تكتسين لونك الذي هو الحياة، وتقاطيعك التي هي الجمال..

في كنف ظلّك كبرتُ، ونعومة يديك كانت تعصب عينيّ

وها أنا ذا في قلب الصّيف والجنوب

أكتشفك من علياء قمّة محترقةّ، أرضا موعودة..”

وكانت البطلة تستشهد بشعره من حين إلى آخر وتستحضره رمزا للتحرّر، قالت في ص 76:

“.. فأجهش بالبكاء ساعات طويلة، فقط، حينما أختلي بنفسي، وأنا أحضن أشعار سنغور بألم كبير..”

وحتّى حين شرعت في الهجرة إلى الجزائر رفقة زوجها وعائلتيهما؛ كانت أشعار سينغور مرافقة لها، إذ تقول في ص82:

” التحف ملاءة سنغور باتجاه الضّفة الأخرى، وتحت إبطي محفظة أشعاره، أردّد بعضا منها كلّما يشتدّ وجعي..”     

وحضر أيضا الشاعر السّوداني الكبير الفيتوري، مرات، واستشهدت بمقطع من قصيدة له، يقول فيه:

“قلها لا تجبن لا تجبن

أنا زنجيّ.. وأبي زنجيُّ الجدّ وأمّي زنجيّة..

أنا أسود.. أسود لكنّي حرّ أمتلك الحريّة.. أرضي إفريقيا.. ! “

وحضرت مريم مكيبا المرأة المناضلة الإفريقية المشهورة، وصاحبة أغنية (أنا حرّة في الجزائر)، والتي سمّاها نيلسون مانديلا، رمز التحرر في إفريقيا، (أمّ إفريقيا)، وكذلك وظفت الكاتبة في روايتها نصّا شعرّيا للشاعرة البلغارية بلاغا ديمتروفا تحت عنوان (أن تكوني امرأة) ترجمة الدكتور عدنان حافظ، تقول فيه:

“أن تكوني امرأة.. هذا هو الألم

عندما تصبحين فتاة تتألمين

عندما تصبحين عاشقة تتألمين

ولكن أكثر ألم لا يطاق على وجه الأرض

أن تكوني امرأة لم تعرف كلّ هذه الآلام

ألما …. ألما… “

رواية ذات بصمة ثقافية مميزة، تنسجم مع شخصيّة المؤلّفة وتواكب قلقها الثقافي، ولا تتورط في السّرد (الفقير) الذي لا يخرج منه القارئ إلا بمغامرة مسلية لا ترفع من مستواه ولا تغذّي حواسه ولا تشبع نهمه الفكري.

التناص:

وردت بعض المشاهد القليلة التي فيها تناص مع القرآن أو مع موضوعات القرآن، من بينها قولها من ص 139:

“لم تبسط ذراعيها كل البسط ” عن مدينة البليدة.

وفيها تناص مع قول الحق سبحانه وتعالى:

“وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا” من سورة الإسراء آية 29.

والتناص مع القرآن في الرواية أو في أيّ نصّ أدبي؛ يكون بمثابة النجوم المتلألئة التي ترصّع صفحاته، وتزينها تزيينا، وهناك تناص آخر مع مذخور التراث العربي، مثل قولها:

” تجري الرياح بما لا تشتهي الصّحراء”.

وهو تحوير للمثل المشهور: ” تجري الرياح بما لا تشتهي السفن “,

وأيضا قولها في ص 119:

” وتنفست الصّعداء “

الكاتب البارع هو من يجعل من نصّه دسما، يحتاج فهمه واستيعابه وتشرّب معانيه؛ إلى عملية هضم بطيئة، كأنّها تُعدّ على نار هادئة فتتسرّب أفكاره إلى روح القارئ مثلما يتسرّب نسغ الحياة في النّبات الأخضر على مهل وتراخ، ولكنّه حين يُنبت الجذور يجعلها تمتدّ عميقا في التربة.. ! وحين ينبت الفروع والأوراق يجعلها تمتد شامخة في السّماء، تزهو بجمال الحياة في كلّ جزء منها.. ذلك هو النّص (الروائي) النّاجح.

والروائية عائشة بنّور بهذا النّص تخطو خطوة متقدّمة إلى الأمام، مواصلة دربها الذي اختطّته لنفسها كاتبة وأديبة جزائريّة عربيّة، تشرأب بكلماتها إلى المجد العالمي، وسوف تناله طال الزمن أو قصر، فقلمها ينسج حُلَلَه الخالدة وهو يتكلّم بالعربي الفصيح.. !!


[1] – مقطع شعري مترجم لشاعرة بلغارية بلاغا ديمتروفا.

[2]  – أضع علامتَي تعجب أمام كلمة (الختان) لتحفظي حول تجريم هذا الفعل، لأنّ هناك أحاديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم اختلف العلماء في استنباط الحكم منها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى