أدب وفن

قصة قصيرة/ في الطائرة/ د. علي زين العابدين الحسيني

قصة قصيرة: في الطائرة
د. علي زين العابدين الحسيني

لا أعلم هل كان لسوء الحظ أم لحسنه أن يكون مقعدي في الطائرة في آخرها أثناء سفري من مدينةٍ عربية إلى أخرى، ساعتها كانت بجانبي أسرة عربية أصيلة تنتمي لقبيلة شهيرة لمحتُ اسم أحد أفرادها على التذكرة وهي بيده، وكالعادة تعلو الأصوات شيئاً ما حينما تركب الطائرة، ويستمر الوضع حتى يجد كل مسافر موضع جلوسه سواء كان بنفسه أو بمساعدة غيره، واستقرّ الوضع بعدها بدقائق فهدأ المكان، وأخذ كل منا في الانشغال بأموره، وكان أغلب من حولي عندما أبصرتهم منشغلين بهواتفهم الذكية، ومما ألاحظه أنه قد مضى عليّ زمن طويل لم أر أحداً في قاعة الانتظار أو في الطائرة ممسكاً بكتابه للقراءة، حتى صار هذا حلماً تسعدني رؤيته، في هذه الأثناء كنت متعباً من السفر، وفي الأسفار مهما كانت وسيلتها مريحة عناء، فنمت نومة سريعة أردت أن آخذ بها قسطاً من الراحة، ولم تدم لي سعادة النوم في الطائرة حتى استيقظت بعدها بمدة على صياح أطفالٍ، وسماع لغة غريبة لم أسمع أهلها يتحدثون بها من قبل في هذه المدينة، وبينما أنا أستعد لفتح عيني جاءني في تلك اللحظات شعور غريب أنني في مدينة أجنبية، وحام في قلبي كثير من الأفكار، أشدها عليّ أني ربما فقدت طريقي وأنا لا أشعر، فركبت طائرة متجهة إلى إحدى المدن الأوروبية، لكن سرعان ما كذبه العقل؛ لأنه مستحيل، فالطائرات المتوجهة إلى أوروبا فيها من التفتيش والتحقيق من الأوراق الشخصية وإجراءات السفر ما لا يحتمل نسبة خطأ ولو كانت أقل من القليل، ها أنا قد تشجعتُ وفتحت عينيّ لأبصر منظراً غريباً لم أكن أتخيله وأنا خبير بتلك البيئة، فرأيت تلك الأسرة التي كانت بجانبي يتبادلون الحديث فيما بينهم بلغة أجنبية دخيلة، فرفضت أذناي ما سمعته أولاً، وعشت حالة من الاندهاش، واستقرّ في ذهني أنه مشهد من المشاهد الكوميدية، فلعل برنامج “الكاميرا الخفية” بدا له أن يخرج عن المألوف، فيسجل حلقة خاصة في الطائرة، وكان من نصيبي أن أنال معهم هذا الظهور، لكني وجدت مع مرور الوقت إصرارهم على ذلك مما جعلني أستبعد أمر البرنامج، ولا زال عقلي لا يصدق ما يشاهده، في هذه اللحظة قررت قطع هذا الحديث بحديثي مباشرة مع الأب رب الأسرة، فانتهزت فرصة حضور الجريدة، وكانت إذ ذاك توزع على جميع الحاضرين، وهو الأمر الذي بات في خبر كان منذ مدة، فلم تعد الصحف الورقية توزع في الطائرات كما كان، بادرته ما جريدتك المفضلة؟
فكلمني بلغته العربية الفصيحة، فحينها أظهرت عجبي من أنه يتكلم باللغة العربية، وأبديت له أني كنت أظنه أنه غير عربي أحبّ العرب ولباسهم ليس إلّا، ودار بيني وبينه حديث طويل عرفتُ من خلاله أنه حريص على أن ينشأ أولاده على لغة أجنبية شهيرة، الأمر الذي جعله يأتي بمربية أطفالٍ من إحدى الدول الأجنبية؛ لتتكلم مع أولاده تلك اللغة الشائعة، وأنه لا يسمح لأولاده حتى في البيت أو الزيارات العائلية أن يتحدثوا أمامه إلا بها، فبادرته بالثناء على ذلك، وأن من حسن عقل الرجل أن يتعلم عدة لغات؛ إذ بها يتعرف على ثقافاتٍ ومعارف متعددة، وعرجت على ذلك بسؤالٍ لاحظت تغير ملامح وجهه حين سماعه، قائلاً: هل للغتك العربية -التي هي لغة آبائك وأجدادك-هذا الاعتناء وهذه الرعاية؟
أجاب على الفور، وكأن السؤال قد أعدّ له من قبل عدة أجوبة؛ بأن العالم الآن قادم على مرحلة أخرى، وأن الغلبة فيها فيمن يتكلم هذه اللغات الحية، قلت: لا مانع أن يكون لدى الشخص أكثر من لغة يتكلم بها، فيعرف ثقافات أهلها من خلالها، ويزداد علماً وثقافة وتجربة بحياة الآخرين، كل هذا مع الحفاظ على لغته الأم؛ لأنها أول ما يعرف بها، فإذا ضيعها فهو لغيرها من اللغات أضيع، ثم إن أصحاب اللغة الجديدة لا يقبلونه مهما حاول الانسجام معهم، وسيعدونه حتماً مهما استطاع من إتقان لغتهم دخيلاً عليهم وعلى حياتهم، وحينئذٍ يكون قد فرّط في أمرين، فلا هو استطاع أن يعيش معهم حياة أرباب اللغة، ولا هو حافظ على لغته الأولى بكلّ ما فيها من عادات وتقاليد، وأردت أن أطيل معه حديثي، وأبين له أنه لا مانع من تعلم أكثر من لغةٍ شرطَ الاعتناء بلغته العربية، وقلت له: هل تظن أن الأدباء والكتّاب فيما مضى كانوا جاهلين بهذه اللغات؟ قال: لا أدري بالضبط.
قلت: أجيبك أنا، كان أقل واحد من أدبائنا يتكلم لغتين: الإنجليزية والفرنسية، وإني ذاكرٌ لك مثالاً رائعاً ليس من الرجال، بل من النساء النابغات الأديبات، وهي الآنسة مي زيادة، فهي أنموذج مشرف لبنات جيلها في الثقافة وتعدد اللغات مع حبها وعشقها الدائم لكل ما يتصل باللغة العربية، وكانت تتكلم تسع لغات، ليس حديثاً فقط، بل تترجم وتكتب الشعر والأعمال الأدبية بهذه اللغات، وهنا أبدى تعجبه بصوت عال جداً جعل مَن حولنا يلتفت إلينا باستغرابٍ، وما هي إلا دقائق معدودات حتى نادى مناد: هلموا معشر المسافرين، واستعدوا لهبوط الطائرة؛ فخذوا حذركم، وتأكدوا من جلستكم؛ حفاظاً على سلامتكم، فكان آخر كلماتي معه قبل النزول وأنا أودعه وهو يودعني بحرارةٍ: ليتَ مَن يحرصون على تعلم لغة غيرهم يتفرنجون عملاً وتأليفاً، ولا يتفرنجون سُلوكاً وأخلاقاً!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى