جمال عبد النَّاصر
( في فضاء 69 سنة من الانطلاق)
إشكاليَّات “المسار التَّاريخي” وحضور “المفهوم القِّيمي”
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس ندوة العمل الوطني )
يُمْكِنُ التَّمييزُ بينَ ما هُوَ دِراسَةٌ في “المَسارِ التَّاريخيِّ”، لِعَيْشِ شَخْصِيَّةٍ ما، سياسيَّةً كانت، على سبيل المثال، أو اجتماعيَّة أو أدبيَّة أو ما سوى ذلك، في زمانِها وأمكنةِ وجودِها؛ وبينَ ما هُوَ دِراسَةٌ في “المَفْهومِ القِيمِيِّ” المُتحصِّلِ مِن عَيْشِ هذهِ الشَّخْصِيَّةِ لِمساراتِ وجودها، خارجَ زمانِ حضورِها الشَّخصيِّ وأمكنةِ هذا الحضور. هذا يَعني، فيما يَعنيه، أنَّ ثمَّة انْمِيازاً، بين ما هُوَ “مسارٌ تاريخيٌّ”، وما هُوَ “مفهومٌ قِيمِيٌّ”؛ إِذْ صحيحٌ أنَّ “المفهومُ القيميُّ”، يَنْطَلِقُ مِنْ هذا “المَسارِ”؛ بيدَ أنَّهُ يَتَجاوَزَهُ، وقد يَسْتَمِرَّ فاعِلاً ومَوْجوداً حتَّى بَعْدَ انْتِهاءِ “المَسارِ” الذي انْطَلَقَ مِنْهُ. ولَعَلَّ في هَذا ما يُمْكِنُ التَّمثِيلُ عَلَيْهِ بـ”الحَدَث”ِ، مِنْ جِهَةٍ، و”العِبْرَةِ”، أو “القِيمَةِ المُتَحَصِّلةِ”، مِنْ هَذا “الحَدَثِ”، مِنْ جِهَةٍ أُخْرى. سيكون السَّعيُ، في هذه الدِّراسة، النَّظر في إشكاليَّات “المسار التَّاريخي” وحضور “المفهوم القِّيمي” في مسيرة جمال عبد النَّاصر، وقد مضى على الانطلاقة العلنيَّة لهذه المسيرة تسع وستون سنة، تغيَّرت فيها أمور وتبدَّلت معطيات واستجدت أحداث وتحققت رؤى كما حصلت مآسٍ واستجدَّت فجائع!
عاش كُثرٌ من ناس التَّاريخ، عبر مساراتِ وجودٍ لهم، تشكَّلَت بناءً على معطياتٍ، شخصيَّةٍ وزمانيَّةٍ ومكانيَّةٍ وثقافيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، عاينوها وتفاعلوا معها وبها؛ ثمَّ كان لهذه المسارات أنْ تنتهي بانتهاء هؤلاء النَّاس، موتاً أو بفقدان فاعليَّةِ الوجودِ في الحياة التي ارتبطت بهم؛ غير أنَّ ما صار مِنْ عَيْشٍ حَيٍّ لهؤلاء النَّاس، بـ”المسارات التَّاريخيَّة” التي كانت، تَحَوَّلَ، بعد انتهاء أعمارهم، إلى “مفهومٍ قيميٍّ”، يَظَلُّ في إمكانيَّاتِ حيويَّة الفِعل والتَّأثير، بعد غيابهم عن مسارحِ الحياة.
يُعتبرُ “جمال عبد النَّاصر” (1918-1970)، باتِّفاقٍ كبيرٍ بينَ باحثي التَّاريخِ وناسِ السِّياسةِ وأهلِ الصَّحافةِ، في العالم، ناهيكَ بملايينٍ مِنْ أبناءِ الشَّعبِ العربيٍّ، شَخْصِيَّةً تاريخيَّةً كُبرى في زمنه. عاش “عبد النَّاصر” حياته ضمن مساراتٍ تاريخيَّةٍ ارتبطت بِشَخْصِهِ وزمانِ عيشِهِ وأحوالِ البيئاتِ التي تفاعلَ معها وانفعلَ بِها، وسعى إلى قيادةٍ أو ريادةٍ ما فيها. وكذلكَ، فإنَّ “جمال عبد النَّاصر”، ما انفكَّ يُشَكِّلُ، حتَّى اللحظة، قيمةً مفهوميَّةً تَجِدُ مجالاتِ فاعليَّةٍ لها في العَيْشِ المعاصر؛ إذ تتبلور منها رؤىً فكريَّة وطموحات سياسيَّة وأبعاد ثقافيَّة. ولعلَّ في هذا، جميعه، ما يُشَجِّعُ على النَّظر في الفاعليَّة الوجوديَّة لـ”جمال عبد النَّاصر”، عَبْرَ البحث في إشكاليَّات “المسار التَّاريخي” وحضور “المفهوم القِّيميِّ”؛ محاولةً لإلقاء ما يمكن أنْ يُشير إلى بُقَعِ ضوءٍ تبحثُ في وجود “ناصر”؛ الذي لا يزال ناهضاً ولو بعد زهاءِ إحدى وخمسين سنةٍ من وفاة الجسد منه.
لعلَّ من أهمِّ ما يميزُ أيّ نظرٍ في الوجود التَّاريخيِّ، بأبعادهِ المختلفةِ، لـ“جمال عبد النَّاصر”؛ أنَّ هذا النَّظرَ سيحفلُ بِكَمٍّ كبيرٍ مِنَ العَرْضِ والتَّحليلِ والاستنتاجِ الإيجابيِّ، لكثيرٍ مِما قام به “عبد النَّاصر”؛ كما قد يُواجَهُ هذا النَّظرُ، كذلكَ، بكمٍّ آخرَ مِنَ العَرْضِ والتَّحليلِ والاستنتاجِ السَّلبيِّ لكثيرٍ مِمَّا قام به “عبد النَّاصر. إنَّها حالٌ قد لا يُمكن استثناؤها مِنَ النَّظر في الوجودِ التَّاريخيِّ، لمعظمِ القادةِ الكِبارِ والرُّوَّادُ، البارزين عَبْرَ حقبِ التَّاريخِ المُتعدِّدةِ والمتنوِّعةِ. غير أنَّ النَّظر الموضوعيِّ، في مجالات القيادة والرِّيادة، لا يمكنُ أنْ يقف عند مجرَّدِ ما قد يَجِدهُ مِنْ تحديدٍ لإيجابيَّاتٍ أو سلبيَّاتٍ؛ فهذا التَّحديدُ قد ينطبقُ على ما قد كانَ، في زمن مضى؛ غير أنَّ فاعليَّةَ القيادةِ والرِّيادة قد تتجاوزُ حدودَ أشخاصِها والأزمنةِ التي كانوا فيها، لتبقى على اتِّصالٍ ما، سلبيٍّ أو إيجابيٍّ، بأزمنةٍ لاحقةٍ وأناسٍ لاحقينَ وظروفٍ وبيئاتٍ لا حقةٍ؛ وهذا ما يُمكن اعتماده على أنَّهُ ما تبقَّى حقَّاً مِن كلِّ قيادةٍ أو ريادةٍ. ويمكنُ القول، تالياً، إنَّ أيَّ نظرٍ موضوعيٍّ في أيَّة قيادة أو ريادة، لا بدَّ له مِن أنْ يجمع بين إيجابيَّات “المسار التَّاريخيِّ”، لتلك القيادة أو لهذه الرِّيادة، وسلبيَّاته، من جهةٍ؛ مع “المفهوم القيميِّ” الذي تركت القيادةُ أو الرِّيادةُ بصماته على ما كانت فيه وما صار بعدها، من جهةٍ أُخرى.
يَقِفُ “جمال عبد النَّاصر” على رأسِ ذروةٍ، قد لا ينازعهُ عليها أحدٌ مِن القادةِ والزُّعماءِ العربِ الذين عاصروه، والذين اشتركَ وإيَّاهُم في صُنْعِ مساحاتٍ كُبرى من مساحاتِ العَيْشِ العربيِّ في زمنه. ورغم أنَّ “جمال عبد النَّاصر” تُوُفِيَّ قبلَ حوالي نصفَ قرنٍ مِن اليوم، غير أنَّ ما استمرَّ، مِن بعدِ وفاتِهِ، مِن “مفاهيم قيميَّة”، ما فتئ يُساهم في بِناءِ رُؤىً سياسيَّةٍ وتطلُّعاتٍ فكريَّةٍ ومساحاتِ تفكُّرٍ وطنيَّةٍ وإنسانيَّةٍ لكثيرٍ مِنَ العربِ المعاصرين. واقعُ الحالِ، إنَّ الحضورَ “المفهوميَّ القيميَّ” لـ “جمال عبد النَّاصر”، ما انفكَّ حاضراً في الوجدانِ العربيِّ؛ إذ كثيرةٌ هي التَّوجُّهاتِ السِّياسيَّةِ العربيَّةِ، الشعبِيَّةِ منها، خاصَّةً، ما زالت تتبنَّى أموراً نادى بها “عبد النَّاصر”، وعمل في سبيلها؛ بل إنَّ ثمَّة تشكُّلات حزبيَّة وتنظيميَّة، تتبارى فيما بينها، بعد مرور نصف قرنٍ على انتهاء وجوده الشَّخصيِّ، على الاهتمام بتجربتهِ القوميَّةِ، تَعَمُّقاً في دراستها، وسعياً إلى استلهامٍ معاصرٍ لِرُؤاها، ومتابعةً لمنهجِ ما اعتمدَهُ مِن فِكْرٍ في سُبُلِ تحقيقها.
تَتَوزَّعُ هذه الدِّراسَةُ على ثلاثة مجالات؛ المجالان الأوَّلان مخصَّصان لقراءة في بعضِ أبرز نماذج “المسار التَّاريخي” لـ”جمال عبد النَّاصر”؛ الأوَّل منهما، مجالٌ استعراضيٌّ توصيفي؛ يسعى إلى تبيان ما يمكن أن يكون في اثني عشر مساراً، من أبرز “المسارات التَّاريخيَّة” التي قام بها “جمال عبد النَّاصر”؛ في حين سيكون المجال الثَّاني، مجال “المفهوم القِيميِّ”، مجالاً استنتاجِيَّاً، وفاقاً لمجريات التَّاريخ المعاصر، بعد “جمال عبد النَّاصر”، فضلاً عمَّا في هذا المجال من مسعىً استعراضيٍّ توصيفي؛ أمَّا المجال الثالث، فسيكون محاولةً لتقديم استنتاجات الدِّراسة، وفاقاً لما قام عليه العمل ضمن المجالين الأوَّلين.
أ) من أبرز إشكاليَّات “المسار التَّاريخي”
قد يُمكن الإشارة، بصورةٍ مبدئيَّة، إلى اثني عشر مساراً تاريخيَّاً، يبني كلُّ منها محطَّة أساساً من محطَّات تاريخ “جمال عبد النَّاصر”؛ ومع أهميَّة هذه المحطَّات وواقعيَّتها، فإنَّ ما مِن واحدة منها خلت مِن إشكاليَّات واقِعٍ ورأيٍ وممارسةٍ، وَسَمَت وجودَ كلِ محطَّة؛ كما رسمت حولها كثيراً من نقاط الاستفهام، في مجالات طبيعة العمل ومسارات الرَّأي والرُّؤية. وهذا ليس بالأمر الجديد في التَّعاملِ مع المسارات التاريخيَّة لعظماءِ القادة وصانعي التَّاريخ؛ بل لعلَّ النَّظر في هذه الأمور، ومن الزَّوايا التي يمكن أن يطرحها البحث، ما يُضيءُ على كثيرٍ من جوانب حضور عظماء القادة وصانعي التَّاريخ.
أوَّلاً: “ثورة الضُّبَّاط الأحرار”
قادَ “عبد النَّاصر” ما عُرِفَ بـ”ثورة “الضبَّاط الأحرار” في “مصر”، سنة 1952؛ وتمكَّن، بهذه الثَّورة، من تحويل “مصر” عن النِّظام المَلَكيِّ إلى الجُمهوريِّ. أصبح “عبد النَّاصر”، بهذا، زعيماً غير منازَع لـ”مصر”، منذ سنة 1954؛ فأَمَّم ثروات كبار الإقطاعيين والسِّياسيين فيها، لصالح الشَّعب المصري كافَّة. وسعى إلى تفاعل عروبيِّ عضويٍّ إيجابيٍّ بين “مصر” وسائر أقطار العالم العربيِّ؛ الأمر الذي شكَّل أحد أبرز عوامل ريادة “مصر”، في كثيرٍ من الأصعدة والمستويات، في العالم العربيِّ؛ وساهم في تقريب ناس العالم العربي، شعوباً وحُكَّاماً، من العمل في سبيل تحقيق نهضة قوميَّة عربيَّة معاصرة.
مع كلِّ ماسبق، ومع كلِّ ما فيه من واقعيَّة، فثمَّة من يرى أنَّ “جمال عبد النَّاصر” فرض وجوداً استحوازيَّاً له، استغرق قيادة النِّظام الجمهوريِّ، الذي أعلنته “الثًّورة”، إلى درجة إقصاء “محمَّد نجيب”، الذي سمَّاه “الضبَّاط الأحرار”، رئيساً لجمهوريَّة هذا النِّظام، عن الحُكْم؛ بل إنَّ الإقامة الجبريَّة فُرِضَت على “نجيب”، طيلة حياة “جمال عبد النَّاصر”. شملت هذه النَّزعة الاستحوازيَّة، من قِبَلِ “عبد النَّاصر”، مجموعة “الضبَّاط الأحرار” أنفسهم،؛ وذلك باختلافات مفصليَّة لـ”عبد النَّاصر” مع بعضهم، مثل “صلاح سالم”؛ وإبعادٍ مُهذَّبٍ لبعضهم الآخر، كما حصل مع “يوسف صدِّيق”؛ في حين انزوى، من بَقي حيَّاً من “مجموعة الضُّبَّاط الأحرار”، في حياة اجتماعيَّة ضيِّقة، تكاد تُشبه النَّفي؛ ولم يبق من “مجموعة الضبَّاط الأحرار”، في مجالات العمل السِّياسي العام، حين وفاة “عبد النَّاصر”، سوى اثنين فقط، هما “حُسين الشَّافعي” و”أنور السَّادات”، وكان كلُّ واحد منهما يحمل لقب “نائب رئيس الجمهوريَّة”، ولكن من غير أيَّةِ صلاحيَّات واضحة لهذا المنصب.
ثانياً: “حركة عدم الانحياز”
ساهم “عبد النَّاصر”، ، بفعاليَّة كبرى، في قيام “مؤتمر باندونغ”؛ الذي كان انعقاده التَّاسيسي في “أندونيسيا” سنة 1955؛ وكانت لرئيس وزراء “الهند”، “جواهر لال نهرو”، ورئيس “جمهوريَّة يوغوسلافيا”، “جوزف بروز تيتو” ورئيس أندونيسيا “أحمد سوكارنو”، مساهمات رئيسة مع “عبد النَّاصر”، ومعهم قادة 29 دولة، في إنشاء ما عُرِف بـ”حركة عدم الانحياز”. ويعتبر قيام هذه “الحركة”، من قبل الدَّارسين، نتيجةً مباشرةً لـ”الحربِ الباردةِ”، التي تصاعدت، زمنذاك، بين المُعسكر الغربيِّ، وفيه “الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة” ودول “حلف النَّاتو”، من جهة، والمُعسكر الشَّرقيِّ، الذي ضمَّ “الإتِّحاد السُّوفياتي” ودول “حلف وارسو”، من الجهة الثَّانية؛ وذلك بعد إعلان انتهاء “الحرب العالمية الثَّانية” وتدمير دول “المحور”. وكان هدف هذه “الحركة”، السَّعي إلى الابتعاد عن سياسات “الحرب الباردة”.
نافست “حركة عدم الانحياز”، في السَّنوات التي تلت تأسيسها، منظَّمة “الأمم المتَّحدة”، بل كادت أن تكون مرجعاً للدُّول بديلاً منها؛ وتمكن “ناصر” مع “نهرو” وتيتو” من فرض دول “عدم الانحياز” قوَّةً عالميَّة لم يكن أمام القوى العظمى، ممثَّلةً بالإتِّحاد السُّوفياتي” و”الولايات المتّحَدة الأميركيَّة”، سوى الاعتراف بوجودها، والتَّعامل معها، من ثمَّ، على أساس هذا الوجود الذي ما كان للقوى العُظمى أن تتغاضى عنه على الإطلاق.
ومع هذا، فثمَّة من يرى أنَّ “الحركة” لم تتمكَّن من رفع المديونيَّة الماليَّة عن معظم البلدان التي انتمت إلى عضويتها، وأن القواعد الأجنبيَّة العسكريَّة لم تغادر مواقعها في كثير من البلدان الأعضاء، وأن البلدان الأعضاء لم تنجُ من التدخلات الإستعمارية و الإمبريالية التي تمارسها الدول الكبرى على تلك المتخلفة أو ما كان يسمَّى بـ”البلدان النَّامية”، كما أن سياسات التمييز العنصريِّ ظلَّت قائمةً في كثير من بلدان “الحركة”.
ثالثاً: “دستور سنة 1956”
صدر الدُستور المصري الجديد، يوم الاثنيين الواقع فيه 23 حزيران (يونيو) 1956؛ وانتخب “عبد النَّاصر”، وفاقاً لهذا الدستور، رئيساً للجمهوريَّة المصريَّة، وجرى في عهده هذا إنشاء “مجلس الأمَّة”، وصار الأمرُ إلى حلِّ “مجلس قيادة الثَّورة”، خطوةَ انتقالٍ إلى الحكم المدني. سطع نجم “جمال عبد النَّاصر” قائداً قوميَّاً عربيَّاً للشعوب العربيَّة، إثر إعلانه، يوم الخميس الواقع فيه 26 تمُّوز (يوليو) سنة 1956، تأميم “قناة السُّويس”، بعد أن كانت خاضعة لسلطة “بريطانيا” منذ سنة 1869؛ وتمكُّنِه من مقاومة “العدوان الثُّلاثي”، الذي شنَّته، سنة 1956، قوى “بريطانيا” و”فرنسا” و”اسرائيل” مجتمعةً، وبدعم من “الولايات المتَّحدة الأميركيَّة”، على مصر؛ ردَّاً من هذه الدُّول على قرار “عبد النَّاصر” تأميم “قناة السُّويس”.
تمكَّن “جمال عبد النَّاصر” من إبراز “مصر”، في هذه المرحلة، دولةً عربيَّةً مؤهَّلةً للقيادة العربيَّة، وقادرةً على مدِّ الدُّول العربيَّة الأخرى بكثير مما قد يساعدها في مجالات التَّحرُّر الوطنيِّ من قوى الاستعمار، كما حصل مع “الجزائر” و”تونس”؛ وفي تأمين الخبرات التَّنظيميَّة والإداريَّة والاجتماعيَّة والتَّربويَّة والثَّقافيَّة. وانتشرت، على هذا الأساس، بعثاتٌ من الموفدين المصريين للعمل في قطاعات عديدة في معظم الدُّول العربيَّة، وبشكل خاص في دول الخليج العربيِّ.
ارتكزت مواد هذا الدُّستور على أن “مصر” دولةٌ عربيَّةٌ مستقلَّةٌ ذاتُ سيادةٍ، وهي جمهوريَّة ديموقراطيَّة، والشَّعب المصريُّ جزءٌ من الأمَّة العربيَّة؛ ومع هذا، فإنَّ كثيراً من الانتقادات انتشرت حول عدم احترام كثيرٍ من الحقوق الفرديَّة للمواطنين، مثل حريَّة الاعتقاد والتعبير والتملُّك والإقامة والانتقال، وكان كثيرٌ من هذا يجري باسم ضرورة دعم وجود سلطة الدَّولة واستباب الانتظام العام فيها.
رابعاً: “الوحدة”
أعلن رئيس الجمهوريَّة المصريَّة”، جمال عبد النَّاصر، ورئيس الجمهوريَّة السُّوريَّة”، “شكري القوتلي”، يوم الجمعة الواقع فيه 21 شباط (فبراير) سنة 1958، قيام “الجمهوريَّة العربيَّة المتَّحدة”، باتِّحاد “سوريا” و”مصر”؛ ثمَّ كان أن انهارت هذه الوحدة، يوم الخميس الواقع فيه 28 أيلول (سبتمبر) 1961. وثمَّة من يرى أنَّ “الوحدة” نهضت، بدايةً، على أُسسِ العاطفةِ الثَّوريَّة العروبيَّة، والمنبثقة من الطُّموحات الشَّعبيَّة التي زكَّاها “جمال عبد النَّاصر”، بدعواته الجماهيريَّةِ إلى التَّحّرر من الاستعمار وقيام الوحدة بين الأقطار العربيَّة؛ رافعاً شعار”الوحدة والحريّة والاشتراكيَّة”.
كان من أكبر أخطاء “الوحدة” مسألة انتهاج المسؤولين عنها سياسة الدَّمج الكامل على صعيد الإقليمين، “الجنوبي”، المصري، والشَّمالي”، السُّوري؛ وانتهاج سياسة التَّفريق على الصَّعيد الدَّاخليِّ في سورية، من خلال التَّمييز بين عناصر الشَّعب السُّوري، إذ جرى اعتماد جملة من التَّشريعات، وفاقاً لـ”قانون التَّأميم”، الذي أصدر في شهر تمُّوز (يوليو) من سنة 1961. ويقال إنَّ هذه التَّشريعات أدَّت، فيما أدَّت إليهِ، إلى اضطراب الثِّقة بين الحاكم والمحكوم، على الصَّعيدين الاجتماعيِّ والاقتصادي؛ وكان من نتائجها، كذلك، تدنِّي قيمة النَّقد السُّوري، من جهة، ومن جهة أخرى وَقْف عجلة العمل، وارتفاع معدَّلات البطالة لأوَّل مرَّة في تاريخ سورية.
صدر قرار “الوحدة” فى أعقاب ارتفاع المدِّ القومىِّ العربىَّ، بقيادة “جمال عبد النَّاصر”، إثر الانتصار السِّياسي الذي حقَّقهُ في حرب “العدوان الثلاثي” سنة 1956. وكانت “سوريا”، تعاني، في الوقت عينه، حالاً من عدم الاستقرار السِّياسىِّ، إثر ما عُرِفَ بـ”انقلاب حُسنى الزَّعيم”، سنة 1949. ويقال إنَّ قيادة “الاتِّحاد السًّوفياتى” حذَّرت “عبد النَّاصر” من “الوحدة الاندماجيَّة” بين “سوريا” و”مصر”؛ نظراً إلى الفوارق التَّنظيميَّة والمفهوميَّة السِّياسيَّة الحاصلة بين الشَّعبين؛ وقد أضيف إلى هذا قلَّة الإلمام الكافي للسَّاسة المصريين، بطبيعةِ الحياة والتَّركيبة السِّياسيَّة في سوريا. ويقال إن َّالزَّعيم السُّوفياتي “نيكيتا خروتشوف”، اقترح على “عبد النَّاصر” اعتماد فكرة “الاتِّحاد”، وليس “الوحدة”، ولو لمدَّة 10 سنين؛ إذ قد يمكن، من ثَمَّ، التَّحوُّل بالدَّولتين الاتِّحاديتين إلى “الوحدة” الكاملة. ويقال، أيضاً، إنَّ “عبد النَّاصر” نفسه، لم يكن موافقاً بشكلٍ موضوعيٍّ على اتِّخاذ قرار “الوحدة” في حينه؛ غير أنَّه لم يجد مناصاً من الاستجابة لإلحاحِ الجهات السُّوريَّة عليه بقبول إعلان “الوحدة”.
أعلنت “الوحدة”، ولكن من دون أيِّ صورة واضحة لوجودها العمليِّ، ومن دون أيِّ تخطيطٍ دقيقٍ، بل ومن دون دستور، إذ اعتمد وضع “دستور مؤقَّت”، وبقي الأمر كذلك حتَّى حصول الانفصال. ويقال، كذلك، إنَّ “دمشق” بدأت تفقد، شيئاً فشيئاً، مكانتها القياديَّة، مع قيام “الوحدة”؛ وهذا الأمرُ لم يتحمَّله كثير من السُّوريين؛ كما كان كثير من قرارات “دولة الوحدة” لا تنفَّذُ بالمساواة بين “الإقليم الجنوبيِّ”، أي “مصر”، و”الإقليم الشَّماليِّ”، أي “سوريا”؛ ولم يكن تطبيق مثل هذه القرارات، بقيادة “عبد الحكيم عامر”، ممثِّلًا شخصيَّاً لـ”عبد النَّاصر”، في دمشق؛ من الأمور التي كان “عبد النَّاصر”، شخصيَّاً، وإدارته في ا”لقاهرة”، على علمٍ بها؛ ومن هنا لم يكن غريبًا أن يقوم الانفصاليون بترحيل “عامر” إلى القاهرة، فى طائرة خاصَّة، مع وقوع الانفصال، تخلُّصاً منه ومن التِّبعات السَّلبيَّة لـ”الوحدة”.
خامساً: “السَّد العالي”
بَيَّن “جمال عبد النَّاصر”، في أعقاب قيام “الثَّورة”، سنة 1952، أنَّ بناء “السَّد العالي”، أصبح هدفاً رئيساً لـ”الحكومة المصريَّة”؛ كما أوضح أنَّ الهدف من إنشاء هذا “السَّد”، يكمن في إتاحة السَّيطرة على مياه الفيضانات في “نهر النِّيل”، وتوفير المياه وتخزينها لخدمة الزِّراعة، فضلاً عن استخدام القوَّة الكهرمائيَّة النَّاتجة عن وجود “السَّد”، لتكون نقطةً محوريَّةً في مجالات التَّصنيع في مصر. بدأ “جمال عبد النَّاصر” بناء “السَّد العالي”، منذ سنة 1960، بمساعدة سوفيتيَّةٍ كبرى، تضمَّنت الخبراء والمال، على حدٍّ سواء؛ وأُكمِل بناء “السَّد” في 1968؛ وصار افتتاحه رسميَّاً، سنة 1971.
يرد في التقارير الرَّسمية إن “السَّد العالي” حمى “مصر” من كوارث الجفاف والمجاعات؛ وذك نتيجة للفيضانات المتعاقبة الشَّحيحة الإيراد من سنة 1979 إلى سنة 1987؛ إذ تمَّ سحب مايقرب من 70 مليار متر مكعَّب من المخزون من “بحيرة السَّد العالي”، لتعويض العجز السَّنوي من المورد الطَّبيعي لـ”نهر النِّيل”؛ كما حمى “السَّد” “مصر” من أخطار الفيضانات العالية، بين سنة 1964 وسنة 2002؛ إذ لولا وجود “السَّد” لهلك كثير من الزَّرع والنَّاس، ولتكبَّدت الدَّولة نفقات طائلة في مقاومة هذه الفيضانات وإزالة آثارها المدمِّرة. ومن إيجابيَّات وجود “السَّد” استصلاح الأراضي وزيادة الرُّقعة الزِّراعيَّة، وتحويل الرِّي الحوضيِّ إلي ريٍّ مستديم، وزيادة الانتاج الزِّراعي؛ إذ صار توسُّعٌ في زراعة الأرز، توليد طاقة كهربائيَّة تستخدم في إدارة المصانع وإنارة المدن والقرى؛ ناهيك بالتَّشغيل الكامل المنتظم لـ”محطَّة خزان أسوان” بتوفير منسوب ثابت علي مدار السنة. ويضاف إلى كلِّ هذا، تنمية الثَّروة الاقتصاديَّة وزيادة الثَّروة السَّمكيَّة عن طريق “بحيرة السَّد العالي”، فضلاً عن تحسين الملاحة النَّهريَّة طوال العام.
يُقال إن التَّأثيرات البيئيَّة السَّلبيَّة لـ”السَّد العالي” على نهر “النِّيل”، تسبَّبت في كثير من الأضرار البيئيَّة، التي طال قسم منها الثَّروة السَّمكيَّة والزِّراعة على شواطئ النَّهر. من أهم وأعظم التأثيرات البيئية السَّلبيَّة لـ”لسَّد” كان ارتفاع منسوب مياه “النِّيل”، التي تجمعت، بعد انتهاء بناء “السَّد”، مكوِّنة لما يعرف الآن باسم “بحيرة ناصر”؛ الأمر الذي أدَّى إلى حدوث فيضان هائل لمياه النَّهر، مِمَّا تسبَّب في غرق كثيرٍ من القرى والمنازل في منطقة “النُّوبة” جنوب مصر، ما دفع بعديد من أهالي “النُّوبة” إلى البحث عن مكان آخر ملائم يعيشون فيه. ومن التَّأثيرات البيئيَّة السَّلبية الأخرى لـ”السَّد العالي”، على نهر “النِّيل”، حجز طين التُّربة المختلط بالماء، أو ما يعرف بـ”الطَّمي”، عن المناطق الزِّراعيَّة على طول ضفاف نهر “الِّنيل” والتي كان يعتمد عليها المزارعون في مصر لتخصيب التُّربة وجعلها صالحة أكثر للزِّراعة. كانت هذه التَّأثيرات البيئيَّة السَّلبية لـ”السَّد العالي” على نهر “النِّيل”، سبباً رئيساً في نقص المحاصيل آنذاك؛ الأمرُ الذي دفع بالحكومة إلى التَّفكير في الاستيراد من الخارج لسد حاجتها، وكذلك إلى الاستغناء عن تصدير بعض المحاصيل، والبحث، تالياً، عن أراضٍ جديدة في الصَّحراء، تكون قابلة للاستصلاح. وكان تجمُّع مياه “الِّنيل” وتكوينه لـ”بحيرة ناصر”، واحداً من التَّأثيرات البيئيَّة السَّلبيَّة لـ”السَّد العالي”، نقصُ الأسماك؛ إذ كان جريان نهر “النِّيل” وفيضانه يوفران لـ”مصر” نصيباً هائلاً من الثَّروة السَّمكيَّة؛ غير أنَّ إنشاء “السَّد” تسبَّب في حجز كميَّات كبيرة من الأسماك خلفه، أو ربما في بعض الأحيان رجوعها عكس التيَّار؛ كما أن انخفاض منسوب مياه “النِّيل” شجَّع النَّاس على تشييد المباني على ضفاف النَّهر، فحلَّ العمران محلَّ الأراضي الزِّراعيَّة.
سادساً: “ثورة اليَمَن”
ساند “عبد النَّاصر”، ما عُرِفَ بـ”ثورة اليَمَن”، التى اندلعت يوم الأربعاء الواقع فىه 26 أيلول (سبتمبر) سنة 1962، في “اليَمَن”؛ بقيادة العميد “عبد الله السَّلال”، وقد إسقط حكم الأئمَّة الزَّيديين، الذى استمرَّ زهاء الف سنة. وثمَّة من يرى أنَّ “عبدالنَّاصر” وجد فى التَّدخُّل العسكرى فى “اليمن”، عملاً يستعيد به توازنه ويرد إليه اعتباره بعد انهيار دولة الوحدة بين “مصر” و”سوريا”؛ وقد وافق “عبد الناصر”، لاحقاً، سنة 1967، على انسحاب قوَّاته من “اليمن”.
يشير بعض المؤرِّخين العسكريين المصريين إلى “حرب اليمن”، على أنَّها “فيتنام مصر”؛ ويقال إنَّه بحلول سنة 1967، كان ثمَّة 55,000 جندي مصري في اليمن، ومن ضمن هؤلاء الوحدات الأكثر خبرة وتدريبًا وتجهيزًا في “القوَّات المسلَّحة المصريَّة”؛ وبرغم من قتالهم العنيد، ضدَّ الفصائل الملكية اليمنيَّة، إلا أنَّ غيابهم عن أرض الوطن خلَّف فجوة في الدِّفاعات المصريَّة، مِمَذا تركَ آثاراً فادحة على “مصر” في حرب حزيران (يونيو) 1967.
سابعاً: “حرب 1967”
خاض “عبد النَّاصر”، يوم الاثنين في 5 حزيران (يونيه) سنة 1967، حرباً ضدَّ “إسرائيل”؛ ولقد اندلعت هذه الحرب نتيجةً لتوتُّر دام أسابيع، بين “مصر” و”إسرائيل”؛ إذ طالبت “مصر”، بقيادة “جمال عبد النَّاصر”، “قوَّات حفظ السَّلام” الدُّوليَّة، المرابطة في صحراء “سيناء”، مغادرة مواقعها، كما جرى إغلاق “مضيق تيران” أمام السُّفن الإسرائيليَّة، الأمر الذي أدَّى إلى حصار “خليج العقبة”؛ فقصفت طائرة إسرائيليَّة، قواعد جويَّة مصريَّة، وانطلقت الدَّبَّابات الإسرائيليَّة باتجاه الحدود المصريَّة. لمْ تمضِ ساعات على هذا، حتَّى أعلنت “تل ابيب” أنَّها تمكَّنت من تدمير سلاح الجو المصريِّ بالكامل؛ وهذا ما أدَّى إلى ما عُرِف، في الأدبيَّات السِّياسيَّة المصريَّة، بـ”نكسة 1967″.
ثمَّة من يعتقد إن “حرب حزيران (يونيو) سنة 1967″، قد ساهمت، إلى حدٍّ كبيرٍ، في بدء أفول نجم “القوميَّة العربيَّة”؛ كما إن من نتائج هذه “الحرب” ما كان من العواملِ التي شجَّعت الحركات والمنظَّمات الفلسطينيَّة على تجاوز وصاية الأنظمة العربيَّة؛ وكان من نتائجها بروز “الإسلاميين” قوةً جديدةً نافذةً في المنطقة. وثمَّة من يرى، أيضاً، إنَّ العرب عاشوا، مع “عبد النَّاصر”، قبل هذه “الحرب”، في ظلِّ ما اعتبره كثير منهم، أحلامَ المجد الثَّقافي والقوَّة والوحدة؛ غير أنَّ “هزيمة حزيران (يونيو) 1967″، التي تحقَّقت في غضون ساعات قليلة، أدَّت “إلى انهيارِ الأسطورةِ المؤسِّسةِ للفكرةِ المعاصرةِ للقوميَّة العربيَّة؛ كما عملت على إحراج موقع من كان يُعتبر الوصيَّ الشَّرعيَّ” عليها، وهو الزَّعيم المصري “جمال عبد النَّاصر”، الأمر الذي ساهم في “تبديد الوعد بمستقبلٍ عربيٍّ مُشرق.
ثامناً: “خطاب التَّنحي سنة 1967، وما بعده”
أعلن “جمال عبد النَّاصر”، مساء يوم الجمعة الواقع فيه 9 حزيران (يونيه) سنة 1967، تنحِّيه عن الحُكم، بعد ما جرى في 5 حزيران (يونيو)؛ معلناً تكليفه زكريا محيي الدين، نائب رئيس الجمهوريَّة، وعضو “تنظيم الضبَّاط الأحرار”، منصب “رئيس الجمهوريَّة”. خرجت جماهير الشعب في “مصر” والعالم العربيِّ، فوراً إعلان “عبد النَاصر” قراره التَّنحي؛ في مظاهرات مليونيَّةٍ حاشدة، رافضةً القرار، ومصرَّة على عودة “عبد النَّاصر” إلى قيادة “مصر” وزعامة الأمَّة العربيَّة.
أتاح استمرار “عبد النَّتصر” في متابعة تولِّي مقاليد السُّلطة، إثر ما حصل من رفضٍ عارمٍ لإعلانه لقرار تَنَحِّيهِ عن الحكم، في يوم “الجُمعة”، الواقع فيه 9 حزيران (يونيه) 1967، أنَّه عمدَ إلى تغيِّرات “جذريَّة” في شكل وطبيعة المؤسَّسة العسكريَّة، سعياً منه إلى تطويرٍ ما في مهنيَّتها؛ كما اتَّخذ خطواتٍ مَكَّنت عديداً من المفكِّرين والكُتَّاب، مِمَّن كانوا يقبعون في المعتقلات قبل “حرب 67″، أن يصبح لهم دورٌ ثقافيُّ واستشاريُّ في مجالات وطنيَّة متنوِّعة. ومن النَّاحية القوميَّة، فإن “عبد النَّاصر”، بعد “حرب 67″، دَعَم “المقاومة الفلسطينيَّة” بما قادَ، بطريقة أو أخرى، إلى حصول، ما يعتبره كثيرون، “التَّحوُّلُ النَّوعيُّ” في مجالاتِ وجود المقاومة وفاعليَّة عملها. لقد تأكَّدت، بعد سنة 1968، عدَّة نتائج مهمّة، في هذا المجال؛ لعل من أبرزها تأكيد الهُوَّية الوطنيَّة الفلسطينيَّة، التي كانت قد استأنفت تأسيس وجودها في خمسينات القرن العشرين؛ وما نتج عن هذا “التَّاكيدِ للهُوِيَّة”، مِن مفاهيم سياسيَّةٍ وعسكريَّةٍ ضمن الفِعل الفلسطينيِّ المقاوِم؛ من مثل نظرة الفلسطينيين، بشكل عامٍّ، إلى أنفسهم، على أنَّهم شعبٌ ثوريُّ يكافح من أجل تحرير أرضه، والتَّجسيد المؤسَّساتي لهذه “الهُويَّة”، بقيادة الحركة الفدائيَّة لـ”منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة”، سنة 1969.
ثمَّة إجماع، بين الدَّارسين، على أنّ “حرب 1967″، شكَّلت منعطفاً رئيساً في الصِّراع العربيِّ الإسرائيليِّ، لا زال العالم يعيشُ كثيراً من تداعياته حتى اليوم. ومع أنَّ “إسرائيل” أعادت “صحراء سيناء” لـ”مصر”، إلا أنَّها ضمَّت إليها “القدس الشَّرقيَّة” و”هضبة الجولان”؛ كما لا تزال “إسرائيل” تحتلُّ أجزاء مِن “الضفَّة الغربيَّة” وتسعى إلى توسعة رقع الاستيطان “الصهيوني” فيها؛ في حين انسحبت بشكل أحادي الجانب من “قطاع غزَّة”، الذي تفرض عليه حصاراً مطلقا منذ سنة 2006. تمكن الجيش الإسرائيلي من تدمير 80% من العتاد العسكري العربي وتهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين من الضفة الغربية وإطلاق العنان للاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية. شملت الخسائر البشريَّة للحرب، نزوح حوالي أربعمائة ألف عربي، من المدن الواقعة على طول “قناة السُّويس”، إضافة إلى “الضَّفة الغربيَّة” و”قطاع غزَّة”، حيث أجبرتهم الحرب إلى مغادرة أراضيهم، ما فاقم معضلة “اللاَّجئين الفلسطينيين”، التي أضيفت إلى اللاَّجئين الذين أجبروا على النُّزوح سنة 1948؛ نتيجة تأسيس “إسرائيل”؛ كما أنَّ هذه الحرب أجبرت ما لا يقل عن مائة ألف سوري على النُّزوح من “الجولان” إلى داخل “سوريا”.
تاسعاً: “اللآت الثلاث”
أطلقَ “جمال عبد الناصر”، الثُّلاثاء الواقع فيه 29 آب (أغسطس) سنة 1967، على خلفية هزيمة عام 1967، في مؤتمر القمَّة العربية المنعقد في العاصمة السودانيَّة “الخرطوم”، “اللاءات الثَّلاث”: “لا صلح” و”لا اعتراف” و”لا تفاوض” مع العدو الصّهيوني، قبل أن يعود الحق العربي الفلسطيني إلى أصحابه.
اصبحت “اللاَّءات الثلاث” شعاراً لمرحلة طويلة من الصِّراع بين العرب والاسرائيليين، إلى أنْ وقَّع “ياسر عرفات”، بصفته رئيساً لـ”منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة”، “اتفاقيَّة اوسلو”، سنة 1993، مع “الإسرائيليين. وثمَّة من يقول إنَّ العرب اعتادوا أنْ لا يقرأوا وأنْ لا يسمعوا لفظة “إسرائيل”، ما لَمْ يسبُقها نعتٌ يدلُّ على طبيعة العلاقة بينهم وبين “اسرائيل”، وكان مصطلح “العدو الإسرائيلي” أو “العدو الصّهيوني” هو السَّائد؛ ولكن، وبعد مُضي نصف قرنٍ، على مؤتمر “اللاءات الثَّلاث”، فإنَّ ما أنجزته غالبيَّة “العرب”، تجاه “اسرائيل”، اعتمد حذف “اللاءات”. أستبدلت “لا” الصُّلح، بالزِّيارة السِّلميَّة إلى “القدس المحتلَّة” سنة 1977، التي قام بها “أنور السَّادات”، رئيس الجمهوريَّة الذي تولَّى السُّلطة في “مصر” بعد وفاة “عبد النَّاصر”، وكان قبلاً نائباً له. صار الاعتراف بـ”إسرائيل”، من قبل “السُّلطة الفلسطينيَّة”، بديلاً من “لا” الاعتراف”، وصُدِّق بموجب “اتفاقيَّات اوسلو”، الموقَّعة في واشنطن سنة ١٩٩٣. وتحوَّلت “لا” التَّفاوض، إلى تسابق بعض الدُّول العربيَّة، فيما بينها، على التَّفاوض، سرَّاً وعَلَناً، مع “إسرائيل”وأخيراً، وقد لايكون آخراً، فإنَّ طلائعُ ما بات يُعرف بـ”صفقة القرن”، بدأت تذرُّ نتائج لها في الوجود العربيِّ برمَّته .
عاشراً: مبادرة روجرز”
قَبِل “جمال عبد النَّاصر”، في حزيران (يونيو) سنة 1970، ما عُرِفَ بـ “مبادرة روجرز”؛ التي رعتها “الولايات المتَّحدة الأميركيَّة”. نصَّت المبادرة على وضع حدٍّ للأعمال العسكريَّة والانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المصريَّة؛ وكان “عبد النَّاصر”، رافضاً في بداية الأمرِ للخطَّة؛ لكنَّه يقالَ إنَّه عاد وقبل بها قبل بناءً على إلحاحٍ من “الاتِّحاد السوفياتي”، الذي كان يخشى من احتمال جرِّه إلى حرب مع “الولايات المتَّحدة الأميركيَّة” نتيجة تصاعد الصِّراع الإقليمي. لكنَّ “عبد النَّاصر” أصرَّ على رفضِ أي تحرُّك نحو المفاوضات المباشرة مع “إسرائيل”؛ مفترضاً أنَّ أيَّ محادثات سلام مباشرة مع “إسرائيل”، سيكون بمثابة الاستسلام.
تفجرت ردَّات الفعل، على “مبادرة روجرز”، في أنحاء العالم؛ إذ كان الاعلان، عن قبولها، مفاجئاً بعد مرحلة صمتٍ امتدَّت لاكثر من شهر. وقد خرج الإسرائيليون الى الشَّوارع، في مظاهراتٍ ترقص وتبتهج، باعتبار أنَّ “حرب الاستنزاف”، التي أرهقتهم نفسيَّاً وماديَّاً وكبَّدتهم خسائر كثيرة في الأرواح، انتهت. ومن ردَّات الفعل، على “المبادرة”، أن اندفعت بعض القوى “الفلسطينيَّة” إلى اتِّهام الذين قبلوها بالخيانة؛ الامرُ الذي أدَّى إلى اصدارِ أمرٍ رسميٍّ مصريِّ، يوم الأربعاء الواقع فيه 29 تمُّوز (يوليو) 1970، بوقف “إذاعة صوت فلسطين”، التي كانت تبثُّ من القاهرة. ولم يمتد العمر بـ”جمال عبد النَّاصر” حتى نهاية المدَّة المحدَّدة لوقف اطلاق النَّار، ولم تجد مبادرة روجرز فرصتها لتوضع موضع التَّنفيذ؛ إذ تجدَّد وقف “اطلاق النَّار” لمدَّة ثلاث سنوات وشهرين، بعد وفاة “عبد النَّاصر”؛ إلى أن قامت “حرب تشرين الأوَّل (اكتوبر) 1973″، وكان “وليام روجرز”، واضع المبادرة، قد ترك منصبه سنة 1971.
حادي عشر: “قمَّة القاهرة أيلول 1970”
دَفَعت مخاوف “عبد النَّاصر” من حدوث حرب إقليمية عربيَّة، إلى دعوة انعقاد لقمَّة عربيَّة طارئة في القاهرة، يوم الأحد الواقع فيه 27 أيلول (سبتمبر) سنة 1970. كان هذا جرَّاء ما حصل في شهر أيلول (سبتمبر) سنة 1970؛ إذ نشأت حالات اقتتال دامٍ في “الأردن”، بين “السُّلطة الأردنيَّة:، من جهةٍ، و”منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة”، من جهة أخرى؛ وذلك نتيجةً لتزايد التَّوتر، السيِّاسي والعسكري، بين “منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة” والحكومة الأردنِيَّة”؛ وقد أُطلقت حملة عسكريَّة، من قِبل السُّلطة الأردنيَّةِ، للقضاء على قوات “منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة” في “الأردن”.
تحوَّلت طبيعة الصِّراع، بعد مقررات “قمَّة القاهرة 1970″، من الصِّراع العربي الإسرائيلي الإقليمي، الواسع النِّطاق، إلى صراع فلسطيني إسرائيلي أكثر جنوحاً نحو المحلِيَّة؛ وقد بلغ الأمر ذروته خلال “الاجتياح الإسرائيلي” لـ”لبنان”، سنة 1982. أدَّت “اتفاقيَّات أوسلو” إلى إنشاء ما سُمِيّ بـ”السُّلطة الوطنيَّة الفلسطينيَّة”، في سنة 1994، ضمن ما بات يعرف بـ”عمليَّة السَّلام الفلسطينيَّة الإسرائيليَّة”. وفي سنة 1994، كذلك، توصَّلت “إسرائيل” و”الأردن” إلى “اتِّفاق سلام. رغم “اتِّفاقات السَّلام” مع “مصر” و”الأردن”، و”اتفاقيَّات السَّلام” المؤقتَّة مع “دولة فلسطين”؛ ورغم “وقف إطلاق النَّار”، القائم بصفة عامَّة، فإنَّ “العرب” لا يزال العالم العربي و”الإسرائيليين” ما زالوا على خلافٍ فيما بينهم بشأن عديدٍ من المسائل.
ثاني عشر: “الوفاة”
عانى “جمال عبد النَّاصر” من نوبة قلبيَّة صاعقةٍ، يوم الاثنين الواقع فيه 28 أيلول (سبتمبر) سنة 1970، فور انتهائه من توديع بعض الزُّعماء العرب الذين حضروا “القمَّة” الطَّارئة؛ وجرى نقله إلى منزله، حيث توفيَّ بعد ساعات قليلة.
ما انفكَت شكوك كثيرة تُثار حول سبب موت “جمال عبد النَّاصر”؛ وهل كانت وفاته طبيعيَّة أم نتيجة مؤامرة للتخلُّص منه؛ ورغم أنه من الطبيعي أن تثار هذه الشُّكوك، نظرا إلى وفاته في توقيت مريب في مرحلة دخول “مصر” في حال حرب، وفي زمن لم يكن الشَّعب على معرفة واضحة بإصابة “ناصر” بعدَّة أمراض قاتلة، وفي وجود كثير من أعداء “ناصر”، في الخارج كما في الدَّاخل، الرَّاغبين في الخلاص منه. ويروى أنَّ “شواين لاي”، رئيس الوزراء الصِّيني قال لأوَّل وفد مصريٍّ زار الصِّين بعد الوفاة “لماذا تركتم عبد النَّاصر يموت؟”.
تقول بعض الرِّوايات إنَّ “جمال عبد النَّاصر”، الذي كان في الثَّانية والخمسين من سنيِّ العمر، توفي بـ”الصَّدمة القلبيَّة”؛ وهي من أخطر مضاعفات انسداد “الشِّريان التَّاجي”. ويشير “محمَّد حسنين هيكل”، وكان المستشار الإعلامي والسِّياسيِّ الأقرب إلى “ناصر”، أنه من الصعوبة أن لا يقطع المرء برأيٍّ في موضوع الوفاة، لأنَّه موضوع كبير للغاية، وإذا لم تكن هناك أدلَّة واضحة وقاطعة، فلا داعٍ للحديث في الموضوع وإثارة الشُّكوك. يؤكد عاطف أبو بكر، العضو السابق في حركة فتح فلسطيني ومعاصر للأحداث وعمل مع رموز الثورة الفلسطينية والمصرية، أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مات مسومًا باستخدام سم، يقول الخبراء أنه يحتاج من 10 شهور إلى سنة لكي يسري المفعول في الجسم ويفتك بالشخص في أي توقيت خلال مدة العشر شهور.
ويؤكِّد الدكتور “الصَّاوي محمود حبيب”، وهو الطَّبيب الخاص لـ”جمال عبد النَّاصر:، إن الرَّئيس كان مصابًا بمرض “التَّصلُّب في الشَّرايين” ويعاني من “مرض السُّكر”، كما كان يشكو من “دوالٍ” في القدمين؛ وردَّاً على موضوع اغتيال “الرَّئيس”، بالسم أو بعقار أو شراب ما، قال الدكتور “حبيب” “مفيش دكتور ولا تحليل أتعمل لـ”ناصر”، وأنا مش موجود؛ ولا جرعة دواء كان يتلقَّاها بدون وجودي”.
ب) حضور “المفهوم القِّيمي”
مِن الأمور التي يجمع عليها الباحثون التَّأريخيون، وكذلك المحللون السٍّياسيون، ولا يختف مع هؤلاء أحدٌ من أهل الثقافة وجماهير النَّاسِ، على حَدٍّ سواء، أنَّ “جمال عبد النَّاصر” قائد تاريخي؛ وأنَّ قيادته هذه، وضعته على رأس أضخم فاعليَّة قياديَّة عربيَّة في القرن العشرين، وما زالت هذه الفاعليَّة ناشطةً في العقود الأولى الرَّاهنة من القرن الحادي والعشرين؛ ولعل في كلِّ هذا، ما يُثبتُ، بوضوحٍ وقوَّةٍ، أن “المفهوم القيميَّ” لـ”جمال عبد النَّاصر”، يتجاوز أيُّ منطق يمكن أن يطرح للبحث في إيجابيَّات مساره التَّاريخيِّ أو سلبيَّات هذا المسار.
لقد مرَّ زهاء ستُّون سنة خمسون على وفاة “جمال عبد النَّاصر”؛ وما زال لهذا الإنسان الذي، دخل صلب الحياة العامَّةِ في مصر كما في العالم العربيِّ، وجودٌ قيميُّ حيٌّ لم يعرف التَّاريخ العربيُّ المعاصر له شبيهاً.
سعى “جمال عبد النَّاصر”، طيلة وجودِهِ في موقعِ القيادة، إلى قِيام مسارٍ تحرُّريٍّ وَطَنِيٍّ بِتَوجُّهٍ عروبيٍّ؛ وكان أن اكتسب هَذا المسعى إقبالاً لافتاً من كثيرٍ من المثقَّفين العرب، وكذلك من مجموعات كبرى وساحقة من الجماهير العربيَّة؛ وعلى هذا الأساس، تحوَّل “عبد النَّاصر” من قائد لانقلاب قي “مصر”، إلى قائدٍ لمسيرةٍ عروبيَّة طالما اشتاقت إليها نفوس كثير من ناس العروبة وشعوبها.
واقعُ الحال، لم ينطلق “عبد النَّاصر”، في مَسْعاهُ التَّحرري الوطنيِّ والقوميٍّ، مِن نظريَّة فلسفيَّة، بقدر ما انطلق من ممارسةٍ مَعيشَةٍ عرفَ كيف يعبِّر عنها بإحساسه وتفكيره، وأدرك كيف يمكنه أن يعمل في سبيلها بسلوكيَّاته. يمكن القول، مع كثيرين، ههنا، إنَّ “جمال عبد النَّاصر”، بعيشه لمساراته التَّاريخيَّة، في هذا المجال، كان يُقدِّم بذورَ ما يمكن أن يتحوَّل إلى أيديولوجيَّة فكريَّة قوميَّة، وما يمكن أن يصير أنموذجاً لمسلكيَّة ثوريَّة. وكذلك، فقد عرف “عبد النَّاصر” كيف يتواصل، فكريَّاً وسياسيَّاً وإدارِيَّاً، مع الجماهير؛ كما عرف كذلك، عبر التَّجربة والمران ومراعاة واقعه القياديِّ، كيفيَّات للتَّعامل، السَّلبيِّ منها كما الإيجابيِّ، مع النُّخبِ القياديَّة، إنفاذاً لما كان يراه ويعتقده من رؤىً وتدابير.
تمكَّن “عبد النَّاصر” من أن يجعل من “العروبة” دعوة شعبيَّة تشير إلى الصَّالح العمليِّ للجماهير؛ وليست دعوة محصورة برؤى لمثقَّفين يمثِّلون النُّخب الرياديَّة، أو لساسةٍ جُلُّ همهم تأمين فضاءات إيجابيَّة لتحقيق مصالح سياستهم. وهكذا، أحسَّت الجماهير أنها قادرة على أن تكون سيِّدة في تقرير مصيرها، ورائدةً في العمل على تحقيق طموحاتها. لقد أعطى “جمال عبد النَّاصر”، جماهير النَّاس، الثقَّة بوجودها والإيمان بقدراتها؛ وهذا لم يكن من قبل “عبد النَّاصر”، إذ كانت الجماهير مرتبطة، عن وعيٍّ أو لا وعيٍّ، بزعماء وحكَّام وقادَّة، ولم تكن مرتبطة مباشرة في ذواتها.
ت) استنتاج:
صحيحٌ أنَّ “عبد النَّاصر” لم يتمكَّن مِن تحقيقِ كثيرٍ مِمَّا عملَ لأَجْلِهِ؛ وصحيحٌ أيضاً أنَّ كثيراً مِمَّا سَعى “عبد النَّاصر” لِلْوصولِ إليهِ، آلَ إلى غَيْرِ ما كانَ يشتهيهِ هو، وتطمح إليهِ الجماهيرُ التي آمنت بِقيادتِهِ؛ ومع هذا، فإنَّ “جمال عبد النَّاصر” تمكَّنَ مِن زرعِ ثقةٍ قويَّةٍ في نفسِ كلِّ مَن آمنَ بدعوتِهِ العروبيَّةِ، وفي وجودِ كلِّ مَن عرف أصالةَ مبادئِهِ الوطنيَّة. لقد أطلقَ “عبد النَّاصر”، يوماً، نداءه الأشهر “ارفع رأسَكَ يا أخي العربي”؛ ورغم كثيرٍ مِن الأحداثِ المتناقضةِ مع جوهرِ هذا النِّداء، والتي اكتنفَت كثيراً مِن الممارساتِ الإداريَّةِ في بعضِ “المساراتِ التَّاريخيَّةِ” لوجودِ “عبد النَّاصر”؛ إلاَّ أنَّ أصالةَ هذا النِّداء، ظلَّت فاعلةً، بحقيقةِ جوهرها وعملانيَّةِ إمكانيَّاتِها، في إضاءةِ دروبِ الفِكرِ العروبيِّ، والسَّعيِّ إلى تحقيقِ نهضةٍ عروبيَّةٍ شاملة لمَّا تتحقَّق.
“عاش “عبد النَّاصر” مِن أجلِ “فلسطين”، وماتَ مِن أجلها”؛ هذا هو الشِّعارُ الذي رفعه شَعْبُ “فلسطين”، عقبَ وفاةِ “جمال عبد النَّاصر”، سنة 1970. وهكذا، ما فَتئَ العربُ، وعبر توالي حقبِ التَّاريخِ المعاصِرِ، وتعدُّد ِما تعاقبَ على هذهِ الحقبِ من سلطاتٍ حاكمةٍ وتوجُّهات سياسيَّةٍ متنوِّعةٍ ورؤىً عقائديَّة متباينة وتحالفات وارتباطات محليَّة وإقليميَّة ودولِيَّة، يؤكِّدون، المفهوم القيميِّ لـ”جمال عبد النَّاصر”، باعتبارهم، رسميَّاً وجماهيريَّاً، أنَّ “قضيَّة فلسطين”، قضيَّةُ الأرضِ المغتَصَبةِ وناسِها مِن قِبَلِ قِوى الصّهيونيَّة العالميَّة، وبتحالفِ قِوى الاستعمار الدَّوليِّ، بدعمٍ غير منقطعٍ مِن الإداراتِ السِّياسيَّةِ المتعاقبةِ لـ”الولايات المتَّحدة الإميركيَّة”؛ وما نَتَجَ عن كلِّ هذا مِن قَهْرٍ للشَّعبِ الفِلسطينيِّ، وما تبع هذا القهرَ، مِن مساعٍ ما انفكَّت لا تتوانى عن هضمِ حقوق هذا الشَّعب.